الدبلوماسيون الأتراك جواسيس يتصيّدون معارضي النظام

الدبلوماسيون الأتراك جواسيس يتصيّدون معارضي النظام

قام النظام التركي إثر عملية الانقلاب الفاشلة في يوليو 2016 بعملية تطهير وتغييرات واسعة شملت مختلف المؤسسات الحكوميةـ وأيضا السفارات والقنصليات. ولم تقتصر مهمة الدبلوماسيين الجدد على القيام بمهام وفق ما تحدده وظائفهم، بل تلقوا تعليمات رسمية من منظمة الاستخبارات الوطنية لإجراء عمليات تجسس دقيقة على كل معارضي النظام، من أنصار فتح الله غولن وغيرهم، في مختلف أنحاء العالم.

لندن – كشفت وثائق سرية حصل عليها موقع نورديك مونيتور، السويدي المتخصص في الشؤون المخابراتية، عن تجسس الدبلوماسيين الأتراك في السفارة والقنصليات في عدة دول، على منتقدي الحكومة التركية والرئيس رجب طيب أردوغان.

وتؤكد المعلومات التي أوردها موقع نورديك مونيتور شبكة الشمال الأوروبية للبحوث والمراقبة، التي نشرت وثائق تشير إلى أن الدبلوماسيين الأتراك جواسيس يتصيدون معارضي النظام التركي والموالين لجماعة فتح الله غولن، التي تتهمها أنقرة بأنها العقل المدبر لعملية الانقلاب الفاشل في صيف 2016.

وأثارت هذه الخطوة، التي لم يسبق لها مثيل من حيث الحجم والكثافة، ضجة حول العالم وخاصة في أوروبا. وبدأت بعض حكومات الدول تحقق مع الدبلوماسيين الأتراك. ففي سويسرا مثلا، فتح المدعون السويسريون تحقيقا جنائيا وأصدروا مذكرتي توقيف بحق اثنين من مسؤولي السفارة التركية لمحاولتهما خطف رجل أعمال سويسري تركي كان ينتقد نظام أردوغان.

تجسس
تكشف الأوراق والوثائق التي نشرها موقع نورديك مونيتور وشبكة الشمال الأوروبية، أن عمليات التجسس على المعارضين كانت تتم من قبل الانقلاب الفاشل، لكنها سجلت ارتفاعا في سياق عملية التطهير التي يقوم بها النظام التركي بعد يوليو 2016.

ويعود تاريخ إحدى الوثائق، إلى أبريل 2019، وهي موقعة من أردوغان كارتال، نائب رئيس قسم مكافحة الإرهاب بالشرطة الوطنية التركية. تكشف الوثيقة عن نشاط تجسسي في الأراضي الجورجية يستهدف كل تركي ينتقد النظام في أنقرة.

عندما استهدفت الكنائس والفنادق في كولومبو في سلسلة من التفجيرات الانتحارية رأى الموظفون في السفارة التركية فرصة للتحرك ضد منتقدي أردوغان وتصويرهم على أنهم إرهابيون

كما تشير الوثيقة إلى أن المسؤولين المعينين في السفارات تحت وظيفة مستشار وملحق للشؤون الداخلية تلقوا تعليمات رسمية من منظمة الاستخبارات الوطنية لإجراء عمليات تجسس. وكانت وزارة الداخلية التركية، عيّنت، وفق مرسوم مجلس الوزراء المنشور في الجريدة الرسمية بتاريخ 25 فبراير 2018، مستشارين جدد للبعثات الدبلوماسية التركية في 71 دولة.

وفقا للمراسلات الرسمية، تم تصنيف 52 مواطنا تركيا ممن تقدموا بطلب لجوء سياسي في جورجيا على أنهم أعضاء في منظمة إرهابية بواسطة موظفين دبلوماسيين أتراك. وزاد عدد طالبي اللجوء من تركيا في أوروبا والبلدان المجاورة بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة.

وطبقا للوثائق التي نقلها الموقع السويدي، وضعت وزارة الخارجية قائمة طويلة من الكيانات الأجنبية، التي يجب رصدها. وذكرت الوثائق قائمة دول أوروبية تعرضت للتجسس من قبل السفارات التركية منها ألمانيا وفرنسا وألبانيا والنمسا وبلجيكا والبوسنة والهرسك وبلغاريا وجمهورية التشيك والدنمارك وفنلندا وكرواتيا وهولندا والمملكة المتحدة والسويد وجمهورية كوسوفو ولاتفيا وليتوانيا ولوكسمبورغ والمجر ومقدونيا ومولدوفا والنرويج والبرتغال ورومانيا وسلوفينيا وصربيا وأوكرانيا.

ومن أوروبا إلى الولايات المتحدة، لا يختلف الوضع كثيرا، وإن كان التركيز منصبا أكثر على الموالين لجماعة فتح الله غولن. ووفق مراسلات تلقتها أنقرة من السفارة التركية في واشنطن والقنصليات الموجودة في مدن أميركية أخرى، نشر موقع نورديك مونيتور نسخا منها، جمع الدبلوماسيون الأتراك معلومات عن أنشطة كل من ينتقد أردوغان، وقدموها بتفاصيل دقيقة كما لو كانوا يلاحقون مجرمين، على حد تعبير عبدالله بوخزرت، المحلل في موقع نورديك مونيتور.

ويلفت بوخزرت إلى أن أردوغان استغل هذه التقارير الاستخباراتية في قضايا جنائية في تركيا، وبسببها وجد أكثر من نصف مليون مواطن أنفسهم في مراكز الاحتجاز خلال السنوات الثلاث الماضية، بتهم ملفقة، من أبرزها التورط في أعمال إرهابية، وهي التهمة الأكثر تداولا في عملية التصفية التي يقوم بها النظام التركي.

ملاحقة جماعة غولن

في الولايات المتحدة، تتولى السفارة التركية في واشنطن الإشراف على حملة المتابعة والتجسس على معارضي النظام ومنظماتهم بالتعاون مع القنصليات العامة في نيويورك وهيوستن وشيكاغو.

وأشارت وثيقة وجدت في أوراق أصدرتها المحكمة الجنائية العليا في أنقرة بتاريخ 16 يناير 2019 إلى أن وزارة الخارجية التركية جمعت قائمة طويلة من المؤسسات الأجنبية التي يمتلكها (أو يديرها) أشخاص كانوا قريبين من غولن وحركته.

وتشمل المؤسسات التي تجسس عليها الدبلوماسيون الأتراك المدارس والشركات والمنظمات غير الحكومية وغير الربحية والمؤسسات الموجودة في نيويورك وواشنطن العاصمة وجورجيا وبنسلفانيا وتكساس وشيكاغو، التي يعتقد أنها تحت إدارة كبار منتقدي الحكومة التركي.

في نيويورك، ينظر إلى مدرسة بروكلين أميتي كمؤسسة جمعت المسؤولين المحليين الذين حضروا الأحداث البارزة التي نظمتها إدارة المدرسة. وجمع الدبلوماسيون الأتراك معلومات عن مدير المدرسة، وعددوا مساهماته السياسية وحملاته. واستخدمت المعلومات المقدمة في تحقيق جنائي في تركيا.

وتشمل المؤسسات الأخرى التي تجسس عليها الدبلوماسيون الأتراك في مدينة نيويورك جمعية البلقان الأميركيين، وهي منظمة غير حكومية مقرها في نيوجيرسي وتعمل على تعزيز العلاقات بين دول البلقان والولايات المتحدة. كما تكشف الوثيقة مخبرين أتراك وظفتهم القنصلية التركية في نيويورك. وشملت المعلومات المحوّلة الأنشطة الرياضية والمشاريع الاجتماعية والمخيمات الصيفية والبرامج التعليمية والثقافية التي ترعاها الجمعية كما لو كانت أنشطة غير شرعية.

ويلفت موقع نورديك مونيتور أن التركيز كان فقط على المعارضين الأتراك، حيث لم تسجل أي مراسلة من الدبلوماسيين بها تفاصيل عن هويات المسؤولين غير الأتراك في المؤسسة. كما امتدت التقارير إلى مؤسسة ويلسبرينغ الثقافية، التي أسست سنة 2001 في ويست هيفن بولاية كونيتيكت للتعليم وتنظيم حوارات بين الثقافات والأديان وعدد من القنصليين مسؤولي المؤسسة.

وذُكرت جامعة ستانفورد، والتي تشمل العديد من التخصصات بما في ذلك علوم الكمبيوتر والتعليم وإدارة الأعمال، في وثيقة تحصلت عليها وزارة الخارجية التركية. ويذكر أن جامعة نورث أميركان في ولاية تكساس عينت شريف علي تيكالان رئيسا لها. وهو معروف بانتقاداته اللاذعة لحكومة أردوغان، ويواجه قضايا متعددة في تركيا.

كما تجسست القنصلية التركية الموجودة في شيكاغو على مؤسسة نياغارا الثقافية التي تأسست سنة 2004. ووضع الدبلوماسيون الأتراك قائمة بأنشطتها التي ادعوا أنها ولّدت تعاطفا مع حركة غولن في المجتمع الأميركي. ووصفوا منتدى الرومي في واشنطن على أنه المنظمة الأكثر أهمية ونشاطا في العاصمة الأميركية في ما يتعلق بمؤيدي غولن.

وشددت الوثائق على مركز ريتريت في ولاية بنسلفانيا، أين يقيم فتح الله غولن. كما جاء ذكر منظمتين في نفس الولاية وهما ريسبيكت غير الربحية، ومركز ليهاي الثقافي الذي يشجع الحوار بين الأديان.

التجسس على اللاجئين

جمعت البيانات، التي وصلت إلى حد التجسس على اللاجئين وجمع المعلومات بطرق غير قانونية، عبر مسؤولي السفارة والقنصلية، استجابة لطلب إدارة مكافحة التهريب والجريمة المنظمة التابعة للشرطة التركية. ووفقا للقانون التركي، لا تتمتع الإدارة بنفوذ خارج حدود البلاد ولا يحق لها التجسس على المواطنين في الدول الأجنبية. رغم ذلك، ضمّنت المعلومات التي أرسلتها السفارة في تقرير أصدرته في 30 يناير 2017، أين وظفت في تلفيق تهم لمنتقدي الحكومة. واستخدم التقرير الذي تضمن وثائق استخباراتية في عدة لوائح اتهام فيما اعتبرته الحكومة التركية انتهاكا لنظام العدالة الجنائية. ويندرج هذا ضمن حملة القمع التي تشنها الدولة على النقاد والمعارضين غير الإرهابيين.

وسجن بعض المتهمين دون تهمة أو لائحة اتهام أو محاكمة رسمية. وتظهر التسريبات كيفية استغلال المعلومات التي جمعتها السفارة التركية بطريقة غير قانونية لاضطهاد المعارضين. ونشر موقع “نورديك مونيتور” تقريرا مفصلا كشف فيه عن تورط السفارات والمسؤولين والقنصليين الأتراك في التجسس على منتقدي الحكومة في 92 دولة أجنبية ضمن حملة منهجية ومتعمدة للتجسس على اللاجئين. من بين هذه الدول سريلانكا، في جنوب آسيا.

بذات الأسلوب المتبع في بقية الدول، قامت البعثات الدبلوماسية التركية في سريلانكا بالتجسس على الجالية التركية في هذا البلد. وقامت السفارة التركية بتسريب أسماء منتقدين لأردوغان اتهمتهم الحكومة في تركيا بالإرهاب، من معلمين إلى رجال أعمال مقيمين في سريلانكا لسنوات، وأدرجت أرقام جوازات سفرهم في خطوة غير قانونية اتبعها السفير التركي وموظفو السفارة.

وبدأت السفارة أول محاولة لتشويه هذه المجموعة سنة 2015، وهي خطوة لاقت رفض الحكومة السريلانكية في البداية. ولم يكن هذا مفاجئا حيث رفضت معظم الحكومات مساعدة تركيا لملاحقة منتقدي أردوغان الذين لم ينتهكوا قوانين البلدان المضيفة لهم ولم يرتكبوا أي جرائم.

ومع ذلك، واصلت السفارة التركية في كولومبو إثارة هذه المسألة مع السلطات السريلانكية خلال سنتي 2017 و2018. وكان المسؤولون الأتراك يخشون السجن مثل الدبلوماسيين الـ600 الذين تحولوا إلى متهمين بالإرهاب دون أي تحقيق قضائي أو إداري بين ليلة وضحاها. وصنفتّ تركيا ثلث دبلوماسييها بمن فيهم السفراء البارزون الذين عملوا كمستشارين لرؤساء الوزراء والرؤساء كإرهابيين.

وأعفت أكثر من 4 آلاف من القضاة والمدعين العامين من مناصبهم، وجردت أكثر من 70 بالمئة من الجنرالات وغيرهم من العسكريين بتهمة الإرهاب. ويواجه أكثر من نصف مليون شخص، بمن فيهم صحافيون ومدرسون وأساتذة ومدافعون عن حقوق الإنسان، تهما منذ سنة 2016. واعتقل حوالي 15 بالمئة من رجال الشرطة، معظمهم من المحاربين القدامى والقادة الكبار، بتهم ترتبط بالإرهاب.

تصحيح الخطأ

عندما استهدفت الكنائس والفنادق في كولومبو في سلسلة من التفجيرات الانتحارية المنسقة التي أسفرت عن مقتل 259 شخصا يوم 21 أبريل 2019، رأى الموظفون في السفارة التركية فرصة جديدة للتحرك ضد منتقدي أردوغان. وحاول السفير التركي استغلال الوضع الحساس في سريلانكا لنشر روايته الخاصة في محاولة لتصوير منتقدي الحكومة من الأتراك الأبرياء والمحترمين للقانون السريلانكي على أنهم إرهابيون.

وفي بيان صدر في 3 مايو 2019، اعترفت السفارة التركية بأنها كانت تتبادل معلومات مع السلطات السريلانكية حول المنتسبين لحركة غولن على مدار السنوات الأربع الماضية. كما كشف وزير الخارجية السريلانكي السابق واسانثا سيناناياكي، عن ممارسات السفارة غير القانونية، حيث أعلن أن السفير التركي سلّم قائمة تشمل أسماء 50 تركيا إلى الوزارة عندما كان في منصبه.

دفع تسريب السفارة لمعلومات الأفراد الخاصة وإشارتها إليهم كإرهابيين بعض المدرجين في القائمة إلى تقديم شكاوى إلى السلطات السريلانكية. وقال موقع نورديك مونيتور إن ثمانية أتراك يعيشون في السويد قدموا شكاوى رسمية إلى سفارة سريلانكا في ستوكهولم بعد أن عملوا في المدارس والمؤسسات التابعة لغولن في سريلانكا بين 2002 و2015، وطلبوا توضيحا لكيفية جمع المعلومات المذكورة في القائمة المنشورة. ولم يقض بعض الأشخاص المذكورين في اللائحة يوما في سريلانكا.

وكتب مواطن تركي إلى السفارة السريلانكية في ستوكهولم “يعد تصنيفي كإرهابي في سريلانكا أمرا غير مقبول بعد أن عملت هناك لسنتين! أنا على استعداد للقيام بكل ما يلزم لتصحيح هذا الخطأ في أقرب وقت ممكن. إذا لزم الأمر، سأقدم طلبا للمؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة لتصحيح هذا الاعتداء الواضح على حقوقي الشخصية عبر ذكري كإرهابي في الصحف السريلانكية دون أي دليل. آمل أن يصحح هذا الخطأ الخطير قريبا. وإلا، سأعمل على افتكاك حقوقي في المحاكم السريلانكية والدولية”.

العرب