عودة الأسرى الأوربيين في تنظيم “داعش”: القضية الشائكة

عودة الأسرى الأوربيين في تنظيم “داعش”: القضية الشائكة

في حين بدأ التهديد العسكري من قبل تنظيم “داعش” داخل سوريا في التراجع، إلا أنه لا يزال هناك عدد من القضايا الشائكة التي ظهرت على السطح في أعقاب هزيمة التنظيم، وليس أقلها مسألة الأسرى المنتمين إليه، حيث تتحمل الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا اليوم عبء احتجاز المقاتلين الأكثر خطورة، في مناطق سيطرتها. ويذكر أن الإدارة الذاتية قد دعت الدول الأوربية وباقي الدول في أكثر من مناسبة لتحمل مسؤوليتها تجاه مواطنيها المحتجزين لدى قوات سوريا الديمقراطية، الأمر الذي يؤكد تذمرها من تهرب هذه الدول من إعادة مواطنيها الجهاديين إلى بلادهم. وقد أبرزت المشاكل الأمنية الأخيرة، بما في ذلك الانفجارات العنيفة التي وقعت في مخيم الهول، وحالات وفيات الأطفال نتيجة نقص الموارد المتاحة، الحاجة الملحة للاهتمام بتلك القضية ومعالجاتها.

ووفقا لإحصائيات أجرتها مؤسسة الإدارة الذاتية لأعداد أسرى التنظيم في أواخر يوليو/تموز 2018، تجاوز عدد الجهاديين أل 500 عنصر من الرجال، بينما يبلغ عدد النساء 550 امرأة، أما الأطفال فتجاوز عددهم 1200 طفل، وهذه الأعداد في تصاعد لأن الحملة ضد التنظيم ما زالت مستمرة. ويذكر انه هؤلاء النساء والأطفال قد تم أسرهم على يد قوات سوريا الديمقراطية في المعارك التي خاضتها الأخيرة مع تنظيم “داعش ” طوال السنوات الماضية والتي أفضت في القضاء عليه في آخر معاقله في بلدة الباغوز.

في حين استمرت الإدارة الذاتية في تسليم مسحلي التنظيم لدولهم التي تقبل بإعادتهم ومحاكمتهم على أرضها، مثل روسيا وجمهورية الشيشان، إضافة لأسرى من السودان وماليزيا ودول أخرى، إلا أن مشكلة أسرى التنظيم المتطرف من الأوربيين ظلت مثار جدل في دولهم التي يحملون جنسيتها، وبين الولايات المتحدة الأمريكية وتلك الدول.
وقد أكد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في شباط/ فبراير الماضي في آخر تغريداته حول قضية الأسرى الأوربيين من تنظيم “داعش”، بأن الإدارة الأمريكية تتجه نحو حل تلك القضية. وفي الوقت عينه، انتقد ترامب الموقف الأوروبي المتردد من القضية، واصفا البديل بأنه “غير جيد”.

وعلى الرغم من أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد دعي الدول الأوربية بشكل رسمي لتحمل مسؤولياتها تجاه مواطنيها الجهاديين الأسرى في سوريا، وذلك بنقلهم إلى بلدانهم الأصلية لمحاكمتهم، إلا أن دعوته قوبلت بالرفض والتهرب من قبل نظرائه الأوربيين.

وبالتالي، ازدادت قضية المقاتلين الأجانب الأوروبيين تعقيدا نظرا لاتباع كل بلد مقاربة مختلفة، فقد رفضت أكبر محكمة إدارية في فرنسا في الثالث والعشرين من نيسان/ أبريل، طلب فرنسيات في سوريا إعادتهن إلى بلادهم معللة ذلك بإن قاضيا لم يستطع الحكم في الأمر لأنه ينطوي على مفاوضات مع سلطات أجنبية. كما دافع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن موقف المحكمة حين أعلن في شباط/فبراير الماضي أن” محاكمة مقاتلي داعش الفرنسيين الذين تم أسرهم في العراق وسوريا يجب أن تتم في الدول التي يواجهون فيها اتهامات”.

وقد تميز الموقف الفرنسي من قضية مواطنيها الأسرى لدى قوات سوريا الديمقراطية برفض إعادة الأسرى دفعة واحدة، وهذا ما صرح به وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، بأنهم سيعالجون كل حالة على حدي. كما أكد لودريان في تصريحات سابقة له أن الجهاديين الفرنسيين في العراق سيتم محاكمتهم في العراق، “في حين ستتم دراسة حالات أطفالهم كل على حدة، على أن يخضع العائدون منهم لوصاية قاضي الأطفال.” وأضاف لودريان “أن الصعوبة تكمن في سوريا، حيث لا يوجد حاكم فعلي هناك.”

لم يختلق موقف برلين كثيرا عن موقف فرنسا، فمنذ عام 2013 غادر أكثر من 1000 شخص ألمانيا إلى مناطق القتال وأن ثلثهم عاد إلى ألمانيا. ويذكر أن وزير الخارجية الألماني هايكو ماس أشار “إلى قلة الإمكانيات المتاحة أمام ألمانيا في الوقت الراهن للتحقق في سوريا مما إذا كان الأمر يتعلق بمواطنين ألمان بالفعل”. وأضاف أن هؤلاء الأشخاص يمكنهم العودة فقط إذا تم التأكد من إمكانية وضعهم تحت التحفظ. وتؤكد وزارة الداخلية الألمانية على وجود حوالي 270 امرأة وطفلا ممن يحملون الجنسية الألمانية مازالوا موجودين في سوريا والعراق.

أما المملكة المتحدة، التي عاد إليها نحو 400 من أصل 900 جهادي يحملون جنسيتها في يونيو/حزيران 2018، فقد اقترحت محاكمة المقاتلين في المكان الذي ارتكبوا فيه جرائمهم. وسبق وان وأعلن المتحدث باسم رئيسة الوزراء تيريزا ماي في وقت سابق أنه “يجب تقديم المقاتلين الأجانب إلى العدالة وفقاً للإجراء القانوني المناسب في النطاق القضائي الأكثر ملاءمة”. ويبدو أن هذه السياسة تهدف في الأساس إلى تقديم المساعدة القضائية للمعتقلين في البلاد التي تم احتجازهم فيها.

في ذات السياق، عرضت الحكومة البلجيكية، إنشاء محكمة دولية خاصة بمقاتلي تنظيم الدولة، وذلك بحسب تصريح أدلى به وزير العدل البلجيكي كون جينس في البرلمان البلجيكي قائلاً: «يمكن العمل على مسار دولي قضائي من خلال الملاحقة والمحاكمة ويمكن أن تجرى المحاكمة بالتعاون مع السلطات القضائية الوطنية في المنطقة المحتجز بها المقاتلون الأجانب، وأما فيما يتعلق بأي عقبات جيوسياسية أو قانونية فإن الأمر يتطلب التشاور مع الشركاء الدوليين ويمكن أن تتولى الخارجية البلجيكية التنسيق في هذا الصدد». كما أكدت بلجيكا على أنها ستستقبل الأطفال البلجيكيين الأسرى في سوريا، ممن لم يبلغوا العشر سنوات، مع التأكيد على عدم استعداها لاستقبال المقاتلين.

المحكمة الدولية: المميزات والمخاطر

وفي إطار مساعيها لإيجاد حل لقضية الأسرى الأجانب، طرحت الإدارة الذاتية، إنشاء محكمة دولية خاصة بهؤلاء الأسرى، ليحاكموا في مناطق سيطرتها، الأمر الذي قابله رفض أمريكي للفكرة، وذلك على لسان المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا جيمس جيفري، الذي أكد أن بلاده ليست بصدد دراسة احتمال إنشاء محكمة دولية خاصة بالمقاتلين الأجانب من تنظيم “داعش” في الوقت الحالي.

يتفق طرح الإدارة الذاتية مع أفكار طرحتها دول أوربية لإنشاء محكمة دولية خاصة لمحاكمة الجهاديين الأجانب في سوريا، رغم أنها ستكون سابقة قانونية، فأمر إنشاء المحكمة الدولية، لن يكون بالسهل مطلقاً، ويتطلب تجهيزات لوجستية من حيث اختيار مقار للمحكمة، وتحديد آليات عملها، وأيضاً إنشاء مراكز احتجاز، وآلية تطبيق الأحكام التي ستقررها هذه المحكمة. وقد يتطلب إنشاء محكمة دولية أيضا إشراك النظام السوري، لكن ذلك قد يسبب توترات نظرًا لرفض الدول الأخرى صراحةً لشرعية النظام.

أيضاً ستواجه فكرة إنشاء محكمة دولية معضلة أخرى، كون الإدارة الذاتية ليست بكيان سياسي معترف به دولياً، إضافة لوجود ما يمكن تسميته بالقطيعة بين الدول المنضوية ضمن التحالف الدولي وأبرزها الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبريطانيا وألمانيا، مع النظام السوري.

تدرك الإدارة الذاتية أيضاً أهمية قضية الأسرى الأجانب كورقة تفاوض عليها العالم لكسب اعتراف سياسي بها، وهو الأمر الذي تجده من حقها، كمقابل لما قدمته للعالم، حين تكفلت بمهمة محاربة تنظيم “داعش”. ومن ثم، فاذا كان الحل بإستلام الأوربيين لمواطنيهم الجهاديين، أو بإنشاء محكمة دولية خاصة بهم، فكلاهما يقودان هذه الدول بالإضافة للولايات المتحدة الأمريكية للاعتراف السياسي بالإدارة الذاتية، ولو بشكل غير رسمي.

قد يفسر التهرب الأوربي من إعادة مواطنيها من مقاتلي تنظيم “داعش” وعوائلهم، على انه محاولة لتفادى الدخول في معضلة الاعتراف السياسي بالإدارة الذاتية وما يترتب على هذا الاعتراف من التزامات وأزمات مع حليفتها في الناتو تركيا، وهي التي تعادي الإدارة الذاتية وتصف قواتها بالإرهابية. ففي حال قبلت الدول الأوربية بإعادة مواطنيها ستتعامل مضطرة مع هيئة الخارجية في الإدارة الذاتية والتي تعتبر وزارة خارجية للإدارة، وفي الأعراف الدولية فإن أي علاقة دبلوماسية من هذا النوع يحمل شيئاً من الاعتراف السياسي الضمني بالإدارة الذاتية.

على الرغم من التحديات التي تقف حائلا أمام حل أزمة الأسرى الأجانب، فإن الوضع الراهن قد أصبح خطير للغاية بحيث لا يمكن السماح باستمراره. كما إن استمرار احتجاز هؤلاء المقاتلين دون محاكمات وآليات واضحة لحل مشكلتهم، سيكون سبباً في عودة التنظيم للنشاط، انطلاقاً من مراكز احتجاز مقاتليه الحالية ذاتها، خاصة وأن التنظيم رغم انكساره العسكري في سوريا والعراق، لكنه مازال نشطاً في كلاهما سواء في الصحراء العراقية أو في أرياف دير الزور والرقة. وبحسب التقارير والتحقيقات الإعلامية فإن مراكز الاحتجاز الحالية أيضاً تتحول يوماً بعد آخر لأكاديميات تغذي الفكر المتطرف بين المحتجزين، خاصة المراهقين، وهذا مؤشر خطر محدق، قد يعيدنا لنقطة البداية التي انطلق منها أساساً تنظيم الدولة، فقادة الصف الأول للتنظيم حين تأسيسه كانوا ممن تخرجوا من مراكز اعتقال سابقة.

ستبقى قضية الأسرى الأجانب قائمة ومؤرقة للدول الأوربية، ومثيرة للتوتر في علاقتها مع الولايات المتحدة الأمريكية، وفي ظل تأكيد الرئيس الأمريكي ترامب على حلها، ستضطر هذه الدول راضية أم مكرهة، للبحث عن الحلول الممكنة، لضمان عدم توتر العلاقة مع واشنطن وضمان عدم عودة “داعش” للانتعاش من جديد.

نشاء تنظيم “داعش” وتطور كحركة في نفس النوع من مراكز الاحتجاز التي تضم حاليًا مئات من الرجال والنساء والأطفال المرتبطين بالتنظيم. ومن ثم، يجب ألا يسمح العالم بتكرار نفس الظروف التي مكنت “داعش” من نشر أفكاره الخبيثة في جميع أنحاء الشرق الأوسط.

معهد واشنطن