أصداء العروبة المصرية

أصداء العروبة المصرية

يثور جدلٌ بين حينٍ وآخر في كثيرٍ من الأقطار العربيَّة حول قضية الهُوية، فيردد المصريون أنهم فراعنة، ويتحدَّث بعض الشوام عن أنهم ينتمون إلى الحضارة الفينيقية، بينما يتمسَّك العراقيون بأصولهم الآشورية البابليَّة، حتى تكاد تنحصر الهُوية العربية الخالصة في منطقة الجزيرة العربية، وهذه كلها أطروحات نجمت عن اتفاقيات “سايكس بيكو” وعملية التوزيع الاستعماري للقوى العربية وفقاً لأهواء ومخططات لم يدرك العرب منها شيئاً في وقتها على الأقل. وإذا تحدَّث بعض العروبيين عن قضية الهُوية بمنطق قومي شامل، فإننا نجد عشرات الأصوات التي تقاطعه، وتتحدَّث عن هُويات قُطريَّة محدودة.

وما زلت أتذكَّر من تجاربي الشخصيَّة عندما كنت دبلوماسياً صغيراً في العاصمة البريطانية أن الملكة كانت تقيم حفلتين كل عام للسلك الدبلوماسي الأجنبي، الحفلة الصيفيَّة في حدائق القصر الملكي، والحفلة الشتويَّة داخل أبهاء القصر، وكان السفيرُ المصريٌّ يذهب مثل بقية السفراء مصطحباً عضوين أو ثلاثة وفقاً لتقاليد المراسم الملكيَّة البريطانيَّة، وعندما وصلت الملكة وزوجها الأمير “فيليب” إلى الموقع الذي يقف فيه السفير المصري وثلاثة من أعضاء السفارة -كنت أصغرهم- ابتدر الأمير السفير قائلاً: “ما الاسم الرسمي لبلدكم هذا العام؟”، فأجاب السفير كمال رفعت: “الجمهورية العربية المتحدة”، وكان ذلك بعد وفاة عبد الناصر بأشهر قليلة، فبدأ الأمير ذو الأصول اليونانية منتقداً الاسم قائلاً: “وأين كلمة مصر في هذا الاسم؟ إنكم أقدم حضارات الأرض، فلماذا تضعون أنفسكم تحت مظلة عربية؟!”.

كانت الملكة تتابع الحديث وهي تشعر بحرجٍ شديدٍ، وتكاد تذوب خجلاً من الطريقة التي يتحدَّث بها زوجها الذي لا يحترم التقاليد الملكيَّة وأسلوب فتح الحوار عند اللزوم.

وفي العام التالي كان الرئيس السادات غيَّر الدستور، وأصدر دستوراً جديداً عام 1971، وألغى اسم “الجمهورية العربيَّة المتحدة”، الذي حلَّ محله “جمهورية مصر العربية”، وكانت المفاجأة في العام التالي أن الأمير البريطاني سأل السؤال نفسه وبالطريقة ذاتها، كما فعل في العام الذي سبق، وأجاب السفير بالاسم الجديد للدولة المصرية، فردَّ الأمير: “هذا تحسُّن، لكنه ليس كافياً، لقد ظهرت كلمة مصر، لكنها مغطاة أيضاً بهُوية عربية”، وهنا كادت الملكة أن تحاول إسكاته، لكنه استطرد قائلاً: “إن مصر بلدٌ عريقٌ، ويجب أن يكون منفرداً، فأنت سفير مصر لدينا”، وتبادلنا الابتسامات مع زوج الملكة، وانصرفنا في دهشةٍ كبيرةٍ، ولم يتح لي بعدها أن أحضر حفلة للملكة البريطانية وزوجها، الذي تقاعد وهو في سن السادسة والتسعين بعد حادث مروري، وهو يقود سيارته بنفسه.

لذلك، فإنني أظنّ أن القُطرية هي تقسيمٌ محببٌ لدى من لا يريدون تضامناً قومياً، ولا تكاملاً عربياً، بل يفضّلون التعامل مع دول المنطقة وفقاً للخريطة التي وضعها الاتفاق (البريطاني – الفرنسي) في “سايكس بيكو” منذ أكثر من مئة عام، ونحن هنا في مصر منقسمون تجاه مفهوم الهُوية ومنظورها القومي، وهو خلافٌ يتجدد بشكل موسمي أمام الأحداث القوميَّة أو المشكلات الإقليميَّة، ولقد ارتفعت هذه النغمة بعد اتفاقيات “كامب ديفيد”، فبدأ المصريون يتحدَّثون عن أهمية وجود دولة مصريَّة حديثة ليست بالضرورة جزءاً من عالم عربي يختلف معها أو يتفق، بل يرون أن للعروبة مفهوماً خاصاً في مصر.

وأصدرت في عام 2018 كتاباً جرى استقباله بحفاوةٍ شديدةٍ، وهو بعنوان “العروبة المصريَّة”، ذلك أنني أعتقد أن المصريين يعيشون في ظلّ تصوّر محدد هو أنهم يختلفون عن بقية العرب، وأنا متأكدٌ أن مثل هذا الشعور ينتاب الشعوب العربيَّة الأخرى، فالشمال الأفريقي يرى أن لديه مشروعاً إقليمياً، يقوم على وحدة الجلباب و”الزعبوط” التي تبدو مظهراً متميزاً لأبناء تلك المنطقة العزيزة من العالم العربي، وهي منطقة قريبة من أوروبا، كما أن معظم أبنائها يتحدَّثون الفرنسيَّة إلى جانب اللغة العربيَّة، كما أن لديهم اعتزازاً خاصاً بالإسلام، حتى إنه يكاد يرقى لكي يكون قوميَّة، وليس مجرد ديانة.

ولقد لاحظنا أن الجزائريين البواسل حاربوا الاستعمار الفرنسي تحت مظلة الإسلام في وقت لم تكن الغالبية لديها تتحدث اللغة العربية، بل كانت الثقافة الفرنسيَّة عاملاً مشتركاً بين الشعب الجزائري وسلطات الاحتلال الفرنسي، كما أن عروبة الشوام تبدو متأصّلة وقويَّة، حتى إن مسيحيي الشام يعتبرون أنفسهم أكثر عروبة من غيرهم، إذ إن “الغساسنة” و”المناذرة” كانوا أقواماً عربية سكنت مواقعها على تخوم الشام والعراق قبل ظهور الإسلام وانتشار اللغة العربية بعدما حملها الدين الجديد إلى تلك المناطق، ولذلك كان طبيعياً أن يحمل أبناء سوريا الكبرى لواء الدعوة القومية، وأن يرفعوا أعلام العروبة قبل غيرهم.

ولعلنا نلاحظ أن كثيراً من قيادات القوميَّة العربيَّة في الشام والمهجر جاؤوا من عناصر غير مسلمة أحياناً، ذلك لأن الدين لم يكن هو جوهر القوميَّة، فكانت الثقافة العربيَّة هي المحور الذي ارتكزت عليه دعاوى القومية، بل إن قيادات الأحزاب العروبيَّة في الشام الكبير وحركة المقاومة الفلسطينية جاؤوا في معظمها من عناصر مسيحيَّة، ولعلنا نتذكَّر الآن أسماء مثل “ميشيل عفلق” و”جورج حبش” و”نايف حواتمة” وغيرهم من القيادات العربية غير المسلمة، وهي التي أكثر تشدداً من غيرها في رفع لواء القوميَّة العربيَّة، والتمسُّك بثوابت القضية الفلسطينية.

إن ما أريد أن أصل إليه من هذا الحديث الذي أكتبه اليوم هو أن أسجَّل ثلاث ملاحظات:

أولاً: أن العروبةَ ثقافةٌ أكثر منها أي عامل آخر، ولذلك فنحن نعتز بالتعريف الذي يقول إن العربي هو كل من كانت لغته الأولى هي العربية دون النظر إلى الأعراق البشريَّة أو الأصول الحضاريَّة، فالكل انصهر في بوتقة العروبة مع احترامنا وحفاوتنا بالقوميات التي سبقت وترسَّخت وتركت بصماتها القويَّة على شعوب المنطقة.

ثانياً: أن عروبة مصر ليست رداءً يرتديه المصريون حين يشاؤون، ويخلعونه حين يريدون، بل هي مكونٌ راسخٌ في ضمير كل من يؤمن بمصريته، لأنها لا تتعارض مع عروبته، فالانتماء إلى الكيان الأكبر لا يمس الانتماء إلى كيان أصغر.

ثالثاً: أن الإسلامَ يلعب دور العامل المشترك بين معظم الدول العربية، لكنه لا ينهض وحده لكي يكون العامل الأساسي، إذ إنه ليس كل العرب مسلمين، كما أنه ليس كل المسلمين عرباً أيضاً. لكن المعيار الثقافي هو الأكثر رسوخاً، لأنه يعتمد على اللغة المشتركة، وهي التي تحدد منصات التفكير والتعبير والقدرة على اتخاذ القرار.

إن العروبة كما وصفها الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر هي قدرٌ ومصيرٌ وحياةٌ، وأنا ممن يظنون أن العروبة هي خلاصةٌ لقوميات سبقت وحضارات قامت وتيارات فكريَّة عبرت على المنطقة، وتركت في النهاية سبيكةً واحدةً نطلق عليها “السبيكة العربيَّة”، التي ننتمي إليها، وندافع عنها رغم كل الإحباطات والإخفاقات والتحديات.

اندبندت