أثر ظاهرة «الدولة الإسلاميّة» في التيارات الإسلاميّة

أثر ظاهرة «الدولة الإسلاميّة» في التيارات الإسلاميّة

daeche-rai1

صعدت التيارات الإسلامية، بكل تنويعاتها واختلافاتها، مع ثورات «الربيع العربي»، إذ تبيّن أنها الأكثر تنظيماً، وامتداداً، بل وبرغماتية، من التيارات السياسية أو الفكرية الأخرى، إلى درجة أن البعض بات يرى في ما حصل مجرد ربيع إسلامي. بيد أن هذا المسار لم يصمد طويلاً، إذ سرعان ما هبطت التيارات الإسلامية بالوتيرة ذاتها التي صعدت فيها، بل إن تداعيات هذا الهبوط تكاد تبدّد قرابة قرن من عمر الحركات الإسلامية ومكانتها.

الأهم من ذلك، أن لحظة صعود هذه التيارات هي اللحظة التي أدّت إلى وضع أفكارها التأسيسية في الاختبار، في صورة أكثر من السابق، وعلى الصعيدين المجتمعي والدولتي، في ظرف مفتوح على حراكات او انفجارات شعبية. في النتيجة، فقد تمخّض الأمر عن كارثة، إن بتحميل الإسلام أكثر مما يحتمل، كما لدى الجماعات المعتدلة، أو بمحاولة العودة بالمجتمعات إلى الإسلام الأول، كما يدّعي «داعش» وأخواته، مع ملاحظة بعض التداخل بين الحالتين.

المشكلة لدى التيارات الإسلامية، المعتدلة والسلمية والدعوية، كما المتطرفة والإرهابية و «الجهادية»، أن ثمة محاولات تعسفية لتحميل الدين أكثر مما يحتمل، بمعنى تحميله مفاهيمها هي عما تعتقده حاجاتها وأولوياتها، ونظرياتها في الحكم وإدارة السلطة، وتطبيق الأحكام، من دون تمييز بين فقه الدين وفقه الدنيا، والإسلام المتخيل والإسلام الواقعي، والإسلام التاريخي وتاريخ المسلمين، إلى رؤيتها أفعالها ومواقفها في دائرة المقدس.

بديهي أن ذلك أدى الى انعكاسات سلبية وخطيرة، على نحو ما حدث في مصر، مثلاً، مع عدم مشروعية ما حصل، أو على نحو ما يحدث في العراق وسورية وليبيا مع ظهور جماعات مثل «داعش» و «جبهة النصرة» وغيرهما، بما لا يستثني تيارات الإسلام السياسي «الشيعية»، التي بلغت انحطاطها مع إصرارها على العيش لحظة الصراع الأولى في الإسلام، وتحوّلها إلى جماعات ميليشياوية تخوض حروباً أهلية، من اليمن إلى لبنان مروراً بالعراق وسورية، لصالح نظام طهران، وفي خدمة نفوذها الإقليمي، مع اختزالها «الشيعة» بتابعي بدعة «الولي الفقيه».

ثمة مفارقتان، في المشهد الحاصل، الأولى، مفادها أن هبوط معنى الجماعات الإسلامية ومكانتها لم يحصل بسبب صدّها من التيارات العلمانية أو القومية أو اليسارية أو الليبرالية، التي هي ضعيفة أصلاً، وإنما بسبب اختلافاتها وصراعاتها في ما بينها. فمن مصادفات الأقدار، أن الجماعات الإسلامية، بتنويعاتها، هي التي تنزع الشرعية عن بعضها البعض، أكثر من أي أحد آخر، وهي التي تكفّر بعضها البعض، والأهم أن كل واحدة منها تدّعي أنها الفرقة الناجية، أو الوكيلة الحصرية عن الله، أو الممثل الحصري للإسلام والمسلمين، بحيث كشفت هذه الجماعات ذاتها، وقوّضت نفسها بنفسها، أكثر بكثير مما حاول الآخرون. هذا يفسّر أن «داعش» يكفّر جبهة «النصرة» ويقاتلها، وهذه تكفر غيرها وتقاتله، و «جيش الإسلام» يفعل ذلك، وحركة «أحرار الشام» أيضاً، حتى أن هذا حصل مع قتال «داعش» و «النصرة» حركة «حماس»، في مخيم اليرموك، بل إن «داعش» ذاته ظهر داخله من يكفّره.

والحال، فقد بيّنت صراعات الجماعات الإسلامية واقتتالاتها في ما بينها أنها ليست نسيجاً واحداً، فثمة جماعات معتدلة ودعوية وسلمية ومنفتحة وصوفية، وثمة أخرى متطرفة وعنفية وعدمية و «جهادية» وسلفية، كما بيّنت أن المنهج التكفيري هو بمثابة فكرة عدمية، ودوامة لا نهاية لها، تبدأ بتكفير المجتمع، ولكنها لا تنتهي مع تكفير أية جماعة أخرى تخالفها.

أما المفارقة الثانية، فتنبع من الواقع الذي شكّله «داعش» وجبهة «النصرة» وأخواتهما، في واقع التيارات الإسلامية، فنحن إزاء حركات إسلامية عنيفة ومسلّحة، سلفية وأصولية، تتوخّى العودة بالمجتمعات إلى الماضي، وإقامة دولة الخلافة أو الشريعة، وادعاء الحكم باسم الله، بدعوى تمثيل الإسلام، و «السنة» حصراً، وقسراً. بيد أن هذه الجماعات، في ادعاءاتها وطريقة عملها، ووحشيّتها، أدت إلى نتائج معكوسة، إذ إنها قوّضت، دفعة واحدة، وبطريقة فجّة، الأفكار المؤسسة للتيارات الإسلامية، في شأن أن «الإسلام هو الحل»، و «الحاكمية»، وتطبيق الحدود، و «الجهاد» إلى يوم الدين، ومسخت فكرة الخلافة، وكشفت تهافت فكرة «أهل الحل والعقد»، وكسرت ادعاء أن ثمة فئة بعينها تحتكر تمثيل الإسلام والمسلمين. وكما شهدنا، فإن ذلك كله حصل بطريقة انفجارية، ووسط تكفير هذه الجماعات ومقاتلتها بعضها وغيرها.

معلوم أن هذه المفاهيم والمقولات كلّها من نتاج أدبيات الإسلام السياسي، التي أسبغت على لحظات معينة من تاريخ الإسلام، وعلى مفاهيم كانت ابنة ظرفها، مثل «الجهاد»، صفة الإطلاقية، في حين أنها طرحت في البدايات، في ظروف الدعوة والتمكين. أيضاً، ثمة مفاهيم من نتاج ما بعد مرحلة النبوة، أي نتاج المرحلة السياسية، والصراع على السلطة، في الإسلام، كالخلافة، و «أهل الحل والعقد» و «الحاكمية»، مثلاً، فهذه لم يأخذ ولم يوصِ بها الرسول الكريم، ولا يمكن التعامل معها كمقدس. بل وثمة كثير من المفاهيم، والتصورات المتخيلة، أدخلت على الدين، وفقاً لتحيزات السياسة والسلطة، عبر قرون، إلى درجة أنها حلّت محل الدين، ومسحت معناه السمح والقيمي، وبات ينظر إليها كمقدس، في تناقض مع قيم الرحمة والعدل والكرامة والحرية والمساواة، التي وردت حتى في النص القرآني: «وادعُ إلى ربك بالحكمة والموعظة الحسنة» و «لا إكراه في الدين»، و «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر»، في تجرؤ حتى على الذات الإلهية، وادعاء الوكالة عن الله في محاسبة الخلق والوصاية عليهم…

المشكلة في هذا المشهد المعقد والانفجاري، أن التيارات الإسلامية المعتدلة والدعوية، وباستثناء انتقاداتها بعض التصرفات التي اعتبرتها مجرد غلو وتصرفات جزئية وآنية، لم تقم بما عليها لا للدفاع عن الإسلام، ولا للدفاع حتى عن ذاتها، بالتمايز عن الجماعات المتطرفة والإرهابية والسلفية والعدمية، وكشفها ونزع شرعيّتها الدينية، وتقويض أطروحاتها. بل ربما أن بعضها ظنّ أنها تشتغل بعضاً من شغله، أو أنها ستصبّ عنده. وقد ثبت بالتجربة خطر هذه التوهمات، التي أدت إلى تآكل مكانة الجماعات المعتدلة لصالح الجماعات المتطرفة. كما أدت إلى شيوع نظرة مفادها، أن الفرق بين الجماعات الدينية هو في الشكل وليس في النوع، وأنها كلها تنتمي إلى الماضي، وتنزع إلى العنف، والتطرف، وأنها لا يمكن أن تتعايش أو تتكيف، مع الواقع والعصر والعالم، لا سيما أن الجماعات المعتدلة لم تحاول التماثل مع التجربة التركية أو الماليزية أو الإندونيسية، مثلاً، باستثناء الحالة التونسية. هكذا، أعادت الظاهرة الداعشية الجماعات الإسلامية إلى نقطة الصفر لمراجعة مفاهيمها وترشيدها وانتزاع شرعيتها.

ماجد الكيالي

صحيفة الحياة اللندنية