الأمم المتحدة قريبا تحت قيادة الصين

الأمم المتحدة قريبا تحت قيادة الصين

تواجه منظمة الأمم المتحدة انتقادات متصاعدة منذ سنوات بسبب فشلها في تحقيق أي اختراق يذكر في عدد كبير من القضايا الدولية وعدم قدرتها على القيام بالدور الرئيس الذي تأسست من أجله إثر الحرب العالمية الثانية. وفي السنوات الأخيرة توسّعت دائرة الانتقادات التي أصبحت مرفوقة بقلق مردّه تخلي الولايات المتحدة عن دورها القيادي، ما يفسح المجال لتقدم الصين وتنامي قوتها داخل المنظمة.

نيويورك – تنطلق الثلاثاء المقبل في نيويورك اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الـ74. سيجتمع الرؤساء ورؤساء الوزراء وغيرهم من كبار المسؤولين من أكثر من 190 دولة في نيويورك. وسيقضون أسبوعا وسط مدينة مانهاتن لسماع الخطب في 6 مؤتمرات كبرى ومناقشات ملفاتها الشائكة.

ولا يتوقع أن يتحقق اختراق هام في هذه الملفات، ولن تكون هذه الدورة سوى نسخة مما سبقها من تجمعات سنوية، لكن مع ذلك ستكون واحدة من أهم اللقاءات في تاريخ المنظمة. فخلال هذه الدورة، سيحاول النظام الليبرالي تخيّل ما سيحدث دون قيادة أميركية، وكيف سيكون مستقبل الأمم المتحدة تحت القيادة الصينية.

تغير الموازين
منذ تأسيس الأمم المتحدة في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية، لتكون الضامن الدولي لعدم اندلاع حرب عالمية ثالثة، كانت تسير على طريق متوازية مع سياسات الولايات المتحدة، قائدة عصر الأحادية القطبية، وأحد أهمم مموليها. لذلك فقدت الأمم المتحدة توازنها بمجرد أن بدأ ميزان هذا النظام العالمي يختلّ.

والولايات المتحدة هي أكبر ممول للأمم المتحدة، إذ تدفع 22 بالمئة من الميزانية الأساسية للمنظمة الدولية والبالغة 5.4 مليار دولار و28.5 بالمئة من ميزانية عمليات حفظ السلام الدولية البالغة 7.9 مليار دولار. لكن، سياسات الرئيس الأميركي دونالد ترامب تدفع نحو تقليص هذه المساهمة ما يفتح الباب أمام الصين التي تجد في تقليص الدعم الأميركي في المنظمة الدولية فرصة تجعلها تتقدم هي لتملأ الفراغ، وبالتالي الاضطلاع بدور دولي أكبر وتوسيع نفوذها في الساحة العالمية بطرق تخدم مصالحها.

وقال كيري براون، مدير معهد لاو الصين في كلية كينغز كوليدج في لندن، إن “موقف إدارة ترامب بشأن تغيّر المناخ وعدد من المجالات الأخرى يدفع الصين نحو القيام بدور أكثر نشاطا في القضايا الدولية، بسبب الفجوة التي ستخلقها الانعزالية الأميركية التي تتوخى المصلحة الذاتية”.

وتقول كريستين لي، زميل مشارك في برنامج أمن آسيا والمحيط الهادئ في مركز الأمن الأميركي الجديد، إن الصين، قدمت موارد كبيرة خلال جهودها المبذولة لتظهر قيادتها في الأمم المتحدة كبديل أكثر ديناميكية من الولايات المتحدة التي انسحبت من بعض الوكالات من جانب واحد ورفضت المؤسسات المتعددة الأطراف على نطاق أوسع.

وخلال السنوات القليلة الماضية، وضع الحزب الشيوعي الصيني المسؤولية على رأس 4 من الوكالات المتخصصة الـ15 التابعة للأمم المتحدة، بينما لا تقود الولايات المتحدة سوى وكالة واحدة. كما قدّم أكثر من عشرين مذكرة تفاهم لدعم مبادرة الحزام والطريق وحشد مجموعة من الدول غير الليبرالية للحد من الانتقادات الدولية التي كان يواجهها بسبب قمعه للأويغوريين في مقاطعة شينجيانغ.

وكتبت كريستين لي، في مجلة “فورين أفيرز”، قائلة “عندما يجتمع رؤساء الدول ورؤساء الوزراء في نيويورك، فسيكونون تحت رعاية نظام يمر بتحول كبير. حيث تخلت الولايات المتحدة عن دورها القيادي، وتقدمت بكين مبرزة استعدادها لتولي المسؤولية”.

في السنوات الأخيرة تكررت الدعوات المطالبة بإصلاح الأمم المتحدة، لكن وفي ضوء صعود الصين، تحولت هذه الدعوات من الحديث عن ضرورة الإصلاح إلى إعلان القلق من سعي الصين لتوجيه الأمم المتحدة بعيدا عن مبادئها التأسيسية.

وتؤكد كريستين لي أن الأمم المتحدة تحت قيادة الصين ستؤدي إلى تآكل القيم الأميركية ومصالحها في أمور مثل الحد من انتشار الأسلحة النووية والتنمية المستدامة، مشيرة إلى أن إدارة ترامب إذا كانت جادة في رغبتها في التنافس مع الصين استراتيجيا، فسيتعين عليها أن تغير طريقة لعبها في أعلى المسرح الدولي.

لعقود من الزمان، كانت الصين تقف على الجانب الآخر. فمن خلال الهيكل الدولي، سعت بكين إلى إعاقة جهود الولايات المتحدة والقوى الليبرالية الأخرى لفرض رؤية ليبرالية على العالم.

وعبّر الزعيم الصيني السابق، دينغ شياو بينغ، عن النظرة العالمية وراء هذه الجهود في خطاب ألقاه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1974. وندد بسعي “الولايات المتحدة للهيمنة على الساحة العالمية” وحذر من إنشاء أي بلد “لمناطق نفوذ”.

ولكن، ومع نمو قوة الصين ونفوذها، تطور نهجها تجاه المنظمات الدولية. واليوم، في عهد الرئيس شي جين بينغ، تخلت الصين عن الموقف الدفاعي الذي حدد دورها في الأمم المتحدة. وفي خطاب ألقاه العام الماضي، دعا شي الصين إلى القيام بدور “نشط في قيادة إصلاح نظام الحكم العالمي”.

وتضاعف دور الصين داخل الأمم المتحدة في وقت تقلص فيه دور الولايات المتحدة. وعلى سبيل المثال، واجهت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) أزمة تمويل منذ سنة 2011 عندما أيّدت منح فلسطين عضوية كاملة.

وكانت واشنطن أوقفت دفع حصتها السنوية البالغة 80 مليون دولار. ومثل هذا الرقم حوالي 22 بالمئة من ميزانيتها الكاملة. وقد سارعت الصين إلى سد الفراغ متعهدة بدفع الملايين من الدولارات كدعم لبرامج التعليم. وزادت بكين من مساهماتها النقدية في الأمم المتحدة 5 مرات في العقد الماضي، ووصفت نفسها بأنها “بطل التعددية”.

واكتسبت الصين شعبية لاستثماراتها. وترى كريستين لي أن بكين يمكن أن تستغل مقعدها لحماية نفسها من الانتقادات التي تعارض سياساتها في شينجيانغ والتبت، وعزل تايوان. وقد تتوسع التدخلات الصينية في أكثر الملفات الحارقة على مستوى العالم ككل من سوريا، التي سبق وأن رفعت حق النقض (الفيتو) في أكثر من مناسبة ضد مشاريع تقدمت بها دول غربية، أحدثها منع صدور قرار عن مجلس الأمن، تقدمت به ألمانيا والكويت وبلجيكا، ووافقت عليه 12 دولة لفرض “وقف فوري لإطلاق النار” في محافظة إدلب بشمال غرب سوريا.

واتخذ الحزب الشيوعي الصيني نهجا أوسع، ودافع عن الأوتوقراطيين المحاصرين في فنزويلا، وروّج للرأي القائل بأن احترام “السيادة” يعني السماح للحكومات بأن تتبرأ من طلبات الأفراد والأقليات باسم الأمن الداخلي.

ويمكن أن تلعب الصين دورا في مفاوضات تغير المناخ والرعاية الصحية الشاملة ومنع انتشار الأسلحة النووية، والتنمية المستدامة، وغيرها من المواضيع التي أبدى ترامب عدم اهتمام بها.

واستغلت الصين مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وهو الهيئة المكلفة بمحاسبة منتهكي حقوق الإنسان ونشر الاحترام العالمي لمبادئ الحريات الأساسية الدولية، للترويج لرؤيتها القائمة على أن “كل دولة تستطيع أن تختار نموذجها الخاص لحماية حقوق الإنسان حسب وضعيتها”، وهو الأمر الذي أضحى يلاقي آذانا صاغية وأحد الأسباب التي فتحت أبواب عدة دول للاستثمارات الصينية.

وساهمت الصين بأكثر من مجرد دفعات مالية للأمم المتحدة في السنوات الأخيرة، حيث بذلت البلاد جهدا لملء المناصب القيادية داخل المنظمة بعدد من مسؤولي الحزب الشيوعي.

وتلفت كريستين لي إلى أن الصينيين يترأسون اليوم أكثر من ربع منظمات الأمم المتحدة المتخصصة، بما في ذلك منظمة الأغذية والزراعة والاتحاد الدولي للاتصالات ومنظمة الطيران المدني الدولي ومنظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية. وتواصل الحكومة الصينية توظيف المزيد من الموظفين المدنيين من ذوي الخبرة العالية للعمل داخل هياكل المنظمة الدولية.

الحزام والطريق
مقابل الأموال والخبرات والموظفين الذين توفرهم، تسعى بكين للحصول على موافقة الأمم المتحدة على مبادراتها في السياسة الخارجية، ومن أبرزها مبادرة الحزام والطريق.

وحصلت مبادرة الحزام والطريق على جوائز تقديرية لدورها في توفير البنية التحتية اللازمة للبلدان النامية، لكنها واجهت انتقادات حادة لأنها لا ترقى إلى مستوى المعايير الدولية في ما يتعلق بالسلامة المالية وحماية البيئة وحقوق العمال.

عندما يجتمع رؤساء الدول ورؤساء الوزراء في نيويورك، سيكونون تحت رعاية نظام يمر بتحول كبير، حيث تخلت واشنطن عن دورها القيادي وتقدمت بكين

واستخدمت بكين مقعدها في الأمم المتحدة لدعم مشروعية المبادرة وتحقيق دعم دولي لها. كما حاولت الصين تحويل مبادرة الحزام والطريق إلى خطة لا يسهل تمييزها عن خطة التنمية المستدامة لعام 2030، التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في أواخر سنة 2015 لضمان الوصول إلى جميع الأمم وكافة الأشخاص في كل مكان وإشراكهم في تحقيق أهداف التنمية التي تركز على تخفيف حدة الفقر وتحقيق الاستدامة البيئية والأمن والسلام.

وقال ليو تشن مين، الذي عمل في وزارة الخارجية الصينية قبل أن يصبح وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الاقتصادية والاجتماعية، إن مبادرة الحزام والطريق تخدم “أهداف الأمم المتحدة ومبادئها”. كما وصف الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، فوائد المبادرة في وقت عبّرت فيه الأمم المتحدة عن دعمها الكامل للخطة دون تحقيق شامل في مخاطرها وقيودها.

وعلى الرغم من جهود الصين، تشكك العديد من الدول الأعضاء في قيادة بكين على مستوى الشؤون العالمية. وأظهر استطلاع حديث أجراه مركز بيو للأبحاث، أن 19 بالمئة من المجيبين يفضلون قيادة الصين عن الولايات المتحدة.

الأمم المتحدة “الصينية”
يبدو أن المستقبل الذي تشكله قيم الحزب الشيوعي الصيني ومصالحه يقترب بسرعة، وفق رؤية كريستين لي، التي ترى أنه ينبغي على واشنطن أن تتحرك لمنع جهود الصين الرامية إلى تقليص القيم الليبرالية في منظومة الأمم المتحدة، وخاصة في ما يتعلق بحقوق الإنسان.

وتقول إنه يجب على الولايات المتحدة، مع الدول التي تشاركها قيمها، التركيز على منع الصين من إدراج مصطلحات أيديولوجية في وثائق الأمم المتحدة مثل “التعاون المربح للجانبين”، و”مجتمع ذي مستقبل مشترك للبشرية جمعاء”، و”دمقرطة العلاقات الدولية”. فرغم أنها تبدو بريئة، فإن مثل هذه المصطلحات تؤدي إلى تقويض الإجماع حول حقوق الإنسان العالمية.

وعلى المدى الطويل، يتطلب تعطيل القيم غير الليبرالية بقاء الولايات المتحدة منخرطة في الأمم المتحدة. فلم يمثل الانسحاب من جانب واحد من الهيئات المهمة، مثل اليونسكو ومجلس حقوق الإنسان، سوى تنازل عن النفوذ لصالح الصين.

وبدلا من ذلك، يجب على الولايات المتحدة أن تستخدم نفوذها لدفع اتجاه تحرك وكالات الأمم المتحدة وتجنب ترك الفراغات في المناصب للصين التي تشغل المرتبة الثانية (بعد أميركا) كأكبر مساهم مالي في منظومة الأمم المتحدة ككل.

ومع ذلك، تتخلف الولايات المتحدة عن المساهمة بأفراد مختصين في الأمم المتحدة، وعليها أن تسعى لإصلاح ذلك من خلال معالجة الحواجز التي تحول دون دخول المرشحين الأميركيين.

وتنقد لي ذلك مشيرة إلى أن الأميركيين غالبا ما يفتقرون إلى اللغات الأجنبية، كما تحبطهم عمليات التوظيف المعقدة. وترى أنه يمكن أن تساعد وزارة الخارجية في تمهيد الطريق من خلال تبني برامج للعاملين المبتدئين والمتوسطين، أين تنظم دورات تناوب داخل البعثة الأميركية لدى الأمم المتحدة، ومن خلال تقديم دورات لغوية مكثفة لتحسين فرص أولئك الذين يسجلون في هذه البرامج.

وتسعى جميع القوى الكبرى إلى تعزيز مصالحها داخل المنظمات الدولية. كما أخبر الرئيس ترامب الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 2017 “سأضع أميركا دائما في المقام الأول، مثلكم تماما، فزعماء بلدانكم سيضعون بلدانكم دائما أولا، وينبغي أن يفعلوا ذلك دائما..”.

وتخلص كريستين لي بقولها إن سعي الصين لتحقيق مصالحها الأساسية في الأمم المتحدة أمر خطير، فمن بين هذه المصالح، ترغب الصين في تعزيز المنظمات داخل الهيكل تحت سلطة واحدة: الحزب الشيوعي الصيني. إذا نجحت بكين في استغلال الأمم المتحدة لتحقيق أغراضها، فلن تصبح الصين مثل بقية دول العالم بل ستصبح بقية دول العالم مثل الصين.

العرب