مشروع الشرق الأوسط الكبير في نسخته الروسية

مشروع الشرق الأوسط الكبير في نسخته الروسية

نشرت صحيفة “آيدنلك” التركية تقريراً وافياً عما سمته “مشروع أوراسيا للشرق الأوسط وشمال إفريقيا” واصفةً إياه بالبديل الروسي لمشروع “الشرق الأوسط الكبير” الأميركي الذي كانت وزيرة الخارجية الأسبق كوندوليزا رايس قد أعلنت عنه في أعقاب هجمات الحادي عشر من أيلول 2011. تقرير “آيدنلك” المعروفة بأنها الناطق باسم “حزب الوطن” بقيادة دوغو بيرينجك، هو بقلم محمد بيرينجك – ابن دوغو – الحاصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من إحدى الجامعات الروسية. وكان بيرينجك الأب، إلى ما قبل سنوات قليلة، ماركسياً ماوياً وكان حزب الوطن الذي يقوده اليوم يحمل اسم “حزب العمال التركي”. أما اليوم فهو قومي متشدد، مدافع عن “الدولة” التركية، مال إلى تأييد الرئيس أردوغان وحكم حزب العدالة والتنمية، بعدما كان من أشد منتقديهما، بصورة متزامنة مع تحالف حزب الحركة القومية بقيادة دولت بهجلي مع الرئيس وحزبه. إلى ذلك، بيرنجك – الأب – معروف في الرأي العام التركي بوصفه أبرز ممثلي ما يعرف بـ “التيار الأوراسي” في تركيا الذي يعمل على إبعاد تركيا عن حلف شمال الأطلسي وتقريبها من التحالف مع روسيا وما تمثله من قوى دولية مناهضة للهيمنة الأحادية الأميركية، وتربطه صداقة شخصية بالمفكر الروسي القومي المتطرف ألكسندر دوغين الذي يتمتع بنفوذ كبير على الرئيس بوتين. ويقال إن هناك ضباطاً كباراً في قيادة المؤسسة العسكرية التركية يميلون إلى هذا التيار “الأوراسي”.

وانتشرت تحليلات في الصحف التركية عن “تهميش” أولئك الضباط في قرارات الأول من آب الماضي، وهو الموعد السنوي للترقيات. وفي الإطار نفسه فسرت استقالات خمسة ضباط بصورة مفاجئة، أواسط آب الماضي، كانوا مكلفين بمهمات ميدانية لها علاقة بمنطقة خفض التصعيد في محافظة إدلب وجوارها التي تتعرض إلى هجوم روسي – أسدي منذ أواخر نيسان الماضي. فيما خص سوريا والصراع السوري، يقف بيرينجك وحزبه بثبات مع نظام الأسد وضد الثورة، متبنياً وجهة نظر النظام بصورة تامة. وقام بعض أركان حزبه – وهم من الضباط الكبار المتقاعدين – بزيارات عدة إلى دمشق، التقوا فيها برأس النظام الكيماوي، في سعيهم المعلن إلى إعادة العلاقات الطبيعية بين دمشق وأنقرة. من هذا المنظور يمكن اعتبار بيرينجك وحزبه “لوبي أسدي – روسي” في تركيا. وعلى رغم عدم تغيير الحكومة التركية لموقفها المعلن من النظام الكيماوي إلى الآن، فتعاونها مع روسيا في إطار مسار أستانة – سوتشي، واقتصار سياستها في سوريا، في السنوات الأخيرة، على مواجهة حزب الاتحاد الديموقراطي، وتخليها، عملياً، عن هدف إسقاط النظام، إضافة إلى سياستها القمعية ضد كرد تركيا، هي أسباب كافية لمواصلة حزب الوطن تأييده للحكومة التركية بقيادة الرئيس أردوغان، حتى لو قام هذا بتهميش الضباط “الأوراسيين” إذا صحت التكهنات بشأنهم.

بعد هذه المقدمة التعريفية بحزب الوطن وصحيفته “آيدنلك”، يمكننا الانتقال إلى تلخيص ما ورد في تقرير برينجك الابن حول يقول بيرنجك الابن عن المشروع الروسي إنه “لم يكتمل بعد” وإن كان العمل عليه يتم بإشراف مباشر من دوائر الحكم العليا في روسيا المشروع الروسي للهيمنة على الشرق الأوسط وشمال إفريقيا الذي ينطلق من واقع الفراغ السياسي الناجم عن “فشل” المشروع الأميركي المعروف باسم “الشرق الأوسط الكبير” أو “الموسع” الذي شكل، طوال السنوات السابقة، مورداً خصباً لنظريات المؤامرة الإمبريالية، في الرأي العام عندنا وفي تركيا أيضاً. يقول بيرنجك الابن عن المشروع الروسي إنه “لم يكتمل بعد” وإن كان العمل عليه يتم بإشراف مباشر من دوائر الحكم العليا في روسيا. صحيح أنه صيغ في وثيقة سرية لكنه ما زال منفتحاً على إدخال التعديلات والإضافات عليه، بالارتباط مع التطورات السياسية العاصفة التي تشهدها المنطقة المستهدفة. الهدف من المشروع هو ملء الفراغ الناجم عن فشل المشروع الأميركي وميل الولايات المتحدة إلى الانسحاب من المنطقة تحت وطأة هذا الفشل، وذلك على طريق التخلص من الهيمنة الأميركية الأحادية وإقامة نظام دولي متعدد الأقطاب وأكثر عدلاً. وعلى مستوى الإقليم، يهدف المشروع إلى “تحرر شعوبه التام من الاستعمار” ووضع حد للتأثير الأميركي الهدام، وتحقيق توازن في المصالح الجيو – سياسية، وإقامة تحالفات إقليمية على قاعدة التعايش بين الصيغ التقليدية للإسلام.

ويقترح المشروع الروسي أن يشكل ثلاثي أستانة (روسيا وتركيا وإيران) نواة الإطار الأوراسي الاستراتيجي، مع انفتاحه على جميع الدول الأخرى الرافضة للعقيدة النيوليبرالية، الراغبة في إقامة نظام دولي متعدد الأقطاب، ولها مصلحة في الحفاظ على هوياتها الثقافية. دول “ثلاثي أستانة” تمثل الإرث السياسي لثلاث امبراطوريات، وتمثل ثلاث عقائد دينية تقليدية هي الأرثوذكسية الروسية والتصوف الإسلامي والمذهب الشيعي. وهي، بهذه الإمكانيات، يمكنها تحمل مسؤوليات جيوسياسية وروحية، اليوم وفي المستقبل، في المنطقة الممتدة من الشرق الأوسط إلى المغرب العربي. تشكل روسيا، بين دول النواة، قلب الإطار الأوراسي وقوتها الضاربة في مواجهة العولمة والتحالف الأطلسي، إضافة إلى أنها تملك البديل الروحي في العالم المسيحي للغرب الذي تعرض عالمه الروحي للانحطاط التام. وتصف الوثيقة الروسية إيران الشيعية بأنها نموذج فريد “للثورة الروحانية المعاصرة” والتعبئة المجتمعية النضالية التي لا تهاب الموت في سبيل المثل العليا الوطنية – الدينية. أما تركيا فيمكنها أن تلعب، بما تملكه من تراث صوفي غني، دوراً مهماً في إعادة الإسلام السني إلى جذوره التقليدية، بعدما تم إفساده بمفهوم الجهادية الدموية، على طريق استئصال التكفيريين الراديكاليين الذين دعمتهم الولايات المتحدة وأتباعها في الشرق الأوسط. مع تطبيق المشروع الأوراسي، سيجد حلفاء الولايات المتحدة التقليديين في المنطقة (وبخاصة إسرائيل والسعودية وقطر) نفسها أمام خيارين: إما الاستمرار في التحالف القائم، أو اتخاذ خط استقلالي بجانب الكتلة الأوراسية.

مصير تلك البلدان على القرار الذي ستتخذه بهذا الصدد. ويزعم معدو الوثيقة الروسية، وفقاً لبرينجك، أن بمقدور “التحالف الأوراسي” أن يطور حلولاً لمشكلات دول المنطقة نتجت عن التدخلات الأميركية التخريبية، بما في ذلك حل المشكلتين الكردية والفلسطينية. ويمكن لروسيا أن تضمن أمن شعب إسرائيل، ووضع إطار للحل السلمي يتضمن تدويل الأماكن المقدسة في القدس. وترى الوثيقة الروسية أن التحالف الأوراسي سيمنح كلاً من إيران وتركيا دورين قياديين في العالم الإسلامي بشيعته وسنته. نكتفي بهذا القدر من تلخيص ما ورد في تقرير صحيفة “آيدنلك” لنتساءل ترى ما الذي يجعل من “الشرق الأوسط الكبير الروسي” مشروعاً أفضل ما الذي يعدنا به المشروع الروسي غير الحفاظ على الأنظمة المتوحشة مهما كان الثمن باهظاً، ومحاربة الإرهاب السني ورأينا طريقتها الروسية المتمثلة في قصف المستشفيات والمدارس وقوافل الإغاثة الأممية. من سميه الأميركي، أو أقل امبريالية؟

كان مشروع المحافظين الجدد، على الأقل ينطوي على وعود إيجابية (بصرف النظر عن صدقها أو نزاهتها أو فشلها) تمثلت في إنهاء الأنظمة الدكتاتورية وإقامة بدائل ديموقراطية تحترم حقوق الإنسان وتركز على تنمية بلدانها. فما الذي يعدنا به المشروع الروسي غير الحفاظ على الأنظمة المتوحشة مهما كان الثمن باهظاً، ومحاربة الإرهاب السني ورأينا طريقتها الروسية المتمثلة في قصف المستشفيات والمدارس وقوافل الإغاثة الأممية. لكن اللافت في المشروع الروسي أمران: أولاً، التحالف مع إيران استراتيجي، بما في ذلك الاعتراف بنفوذها الإقليمي. وهذا مما يتعارض مع كثير من التحليلات التي تتحدث عن رغبة روسية في إخراج إيران من سوريا بالذات. أضف إلى ذلك أن المشروع لا يقترح أي تعديلات على الإسلام الشيعي، على غرار ما اقترحته على السني، بل تنظر إليه بوصفه إيديولوجية نضالية إيجابية. ثانياً، تنصيب تركيا قائداً لعالم الإسلام السني، بعد فرمتة هذا الإسلام بصيغته الصوفية، أي بنزع السياسة عنه. وهذا ما يذكرنا بمشروع المحافظين الجدد الأميركيين الذين أرادوا أيضاً “تحديث” الإسلام السلفي الوهابي في السعودية بصورة خاصة. يلتقي المشروعان الأميركي والروسي، إذن، في اعتبار الإسلام السني مشكلة، وفي اعتبار العالم العربي “ساحة للعمل” أو موضوعاً، مقابل أدوار قيادية ثانوية لكل من إيران وتركيا. ملاحظة ختامية موجهة لتيارات “يسارية” ما زالت تنظر إلى روسيا وكأنها روسيا الشيوعية: الوثيقة الروسية تعتبر المذهب الأرثوذكسي هو العقيدة المعلنة للدولة الروسية، وليس الماركسية أو غيرها من العقائد الاشتراكية. روسيا دولة امبريالية طامحة، إذا كان لها أن تذكرنا فهي تذكرنا بألمانيا النازية التي نهضت رأسماليتها متأخرة عن الإمبرياليات الأخرى، فشنت حرب فتوحات على الجوار للحصول على حصتها من الغنائم.

سوريا