العلمانية ببلاد الثروة والعبادة.. لماذا تفقد أميركا هويتها الدينية؟

العلمانية ببلاد الثروة والعبادة.. لماذا تفقد أميركا هويتها الدينية؟

نشرت مجلة أتلانتيك الأميركية مقالا لكاتبها ديريك تومبسون تناول فيه الأسباب التي جعلت الولايات المتحدة تفقد هويتها الدينية. وجاء بالمقال أن الصفة الاستثنائية التي ميّزت أميركا عن غيرها من بلدان باتت سمة مشكوكا فيها حتى إن العبارة صارت تستخدم في الآونة الأخيرة من باب السخرية المحضة.
الاستثناء الأميركي
لكن عندما يتعلق الأمر بالدين، فإن الأميركيين يُعتبرون حالة استثنائية، فليس هناك دولة غنية يؤدي شعبها الصلوات كما يفعل الأميركيون. وليس ثمة دولة يداوم مواطنوها على صلواتهم تضاهي الولايات المتحدة ثراءً.

إن ما تتفرد به أميركا في الجمع بين الثروة والعبادة أثار حيرة المراقبين الدوليين وأبطل “أعظم النظريات العالمية” التي تتكهن بتولي العلمانيين زمام الأمور في البلاد، على حد قول ديريك تومبسون.

وأشار الكاتب إلى أنه في أواخر القرن الـ19 أعلنت مجموعة من مشاهير الفلاسفة -من أمثال فريدريك نيتشه وكارل ماركس وسيغموند فرويد- “موت الإله”، وأن الإلحاد سيقتفي أثر الاكتشافات العلمية ونزعة الحداثة في الغرب مثلما يعقب الدخان النار.

وتعرف الولايات المتحدة بتعدديتها الدينية، فهناك الطوائف المسيحية (73.7%) الرئيسية المكونة من الأنغليكانيين والكاثوليك والبروتستانت، وكذلك اليهود والأرثوذكس الشرقيين والمسلمين، وهناك التجديديون وشهود يهوه والمورمونية أو حركة قديسي الأيام الأخيرة.

الأميركيون الأتقياء
لقد ضرب الأميركيون “الأتقياء” بفكرة العلمانية عرض الحائط. فقد صرح تسعة أعشار الأميركيين إبان القرن الماضي بأنهم يؤمنون بوجود الله، وأنهم ينتمون لديانة منظمة، وقالت غالبيتهم العظمى إنهم مسيحيون. وظل هذا الرقم صامدا خلال حقب ستينيات وسبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم.

غير أن الحبل التاريخي الذي كان يربط الهوية الأميركية بالإيمان والعقيدة ما لبث أن انقطع مطلع تسعينيات القرن العشرين. فقد بدأت ظاهرة عدم الانتماء الديني تطل برأسها واستمرت في صعود مطرد، وتزايدت معدلات العلمنة بينما انخفضت نسب المتدينين.

وما إن بزغ فجر القرن الـ21 حتى تضاعف عدد الأميركيين الذين لا ينتمون إلى أي ديانة راسخة. وبحلول العقد الثالث من القرن الحالي، تتضاعف ثلاث مرات أعداد الملحدين والروحانيين الهواة واللا أدريين ممن يعتقدون أن وجود الله أمر لا سبيل إلى معرفته.

وطبقا لدراسة عام 2007، قال 78.4% من البالغين الأميركيين إنهم مسيحيون، وهي نسبة لا تزال مرتفعة بالمقارنة مع كندا وأوروبا، التي أظهر استطلاع يوروباروميتر لعام 2005 أن 52% فقط من مواطني دول الاتحاد الأوروبي “يؤمنون بإله”.

صعود الإلحاد
على أن صعود اللادينيين في أميركا يبدو من اللحظات التاريخية النادرة التي لا يمكن اعتبارها نزعة بطيئة الحركة، أو ذات طابع خفي، أو تحدث على فترات متعاقبة، بل ربما يمكن وصف ذلك الصعود بأنه استثنائي، حسب تعبير مقال أتلانتيك.

ويبقى السؤال: ما الذي حدث في تسعينيات القرن الماضي؟ يرجع كريستيان سميث -أستاذ علم الاجتماع والأديان بجامعة نوتردام وهي مؤسسة بحثية كاثوليكية بولاية إنديانا الأميركية- نزعة عدم التدين في أميركا إلى أنها نتاج ثلاثة أحداث تاريخية، وهي ارتباط الحزب الجمهوري باليمين المسيحي وانتهاء الحرب الباردة وهجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001.

الدين والسياسة
واتسمت سبعينيات القرن الماضي بصعود اليمين الديني في الولايات المتحدة، حيث نشط المسيحيون سياسيا لإحساسهم بالقلق من انتشار الثقافة العلمانية في البلاد.

وقد أنتجت المزاوجة بين اليمين الديني والسياسي زعماء من شاكلة الرئيسين رونالد ريغان وجورج دبليو بوش، وأسفرت عن انتصارات لهذا التيار على الصعيدين الولائي والقومي. لكن ذلك أقض مضاجع الديمقراطيين الليبراليين، خاصة من لهم ارتباط ضعيف بالكنيسة.

ويعتقد كريستيان سميث أن الليبراليين الشبان والمسيحيين ذوي الانتماء الديني الفضفاض ربما أشاحوا بوجوههم عن اليمين المسيحي في بواكير تسعينيات القرن الماضي، بعد أن كانوا شهودا طيلة عقد من الزمان على دوره الفعال في سياسات التيار المحافظ.

ولعل البعض ربما رأوا أنه ليس من الوطنية في شيء الإفصاح عن مكنوناته تجاه فكرة وجود إله في ظل انشغال الولايات المتحدة بمواجهات ذات طابع جغرافي سياسي مع إمبراطورية الشر التي لا تؤمن بالله، في إشارة إلى الاتحاد السوفياتي آنذاك.
وفي عام 1991 وضعت الحرب الباردة أوزارها وتفكك الاتحاد السوفياتي كما تحلل الإلحاد عن ارتباطه بخصم الولايات المتحدة اللدود.

أظهرت دراسة حديثة أن 13% من الأميركيين يعتبرون أنفسهم “كاثوليكا سابقين” كما تخلى الكثيرون منهم عن الانتماء لأي دين منظم (الأوروبية)

أظهرت دراسة حديثة أن 13% من الأميركيين يعتبرون أنفسهم “كاثوليكا سابقين” كما تخلى الكثيرون منهم عن الانتماء لأي دين منظم (الأوروبية)

وقد حل تنظيم آخر محل الاتحاد السوفياتي كعدو لأميركا، لكنه لم يكن دولة لا تؤمن بالله، بل على العكس من ذلك. فقد كان العدو الجديد حركة دينية لا تتبع لدولة بعينها وتتبنى ما سماه كاتب المقال “الإرهاب الإسلامي”.

القاعدة والإرهاب
وساق شواهد على الإرهاب الإسلامي -كما يسميه- في سلسلة عمليات القصف ومحاولات التفجير التي شنتها جماعات مثل تنظيم القاعدة تُوِّجت بهجمات 11 سبتمبر على مدنيتي نيويورك وواشنطن.

ولعل من التبسيط المفرط -بنظر أستاذ علم الاجتماع كريستيان سميث- الإيحاء بأن سقوط برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك آنذاك دفع الملايين للتخلي عن الكنيسة.

بيد أنه مع مرور الزمن، أصبح تنظيم القاعدة الذريعة التي لجأ إليها الملحدون لتبرير ادعائهم بأن كل الأديان هدامة بطبيعتها.

هالة القداسة
ويمضي ديريك تومبسون في مقاله إلى التأكيد أن الدين قد فقد في العقود الثلاثة الماضية هالة القداسة التي أحاطت به ليس بسبب إقدام العلم على إبعاد فكرة الإله من أذهان العامة، بل لأن السياسة هي التي فعلت ذلك. وهناك قوى اجتماعية أخرى لا تولي كبير اهتمام بالجغرافيا السياسية أو الحزبية، لعبت دورا رئيسيا في بروز اللادينيين.

ضعف الثقة بالمؤسسة
ثم إن الكنيسة ليست سوى واحدة من المؤسسات العديدة –مثل البنوك والكونغرس والشرطة- التي خسرت ثقة الجمهور في عصر تميز بفشل النخب. وقد ساهمت الفضائح التي ضربت الكنيسة الكاثوليكية في تسريع وتيرة فقدانها المكانة الأخلاقية التي كانت تتمتع بها.

وأظهرت دراسة أجراها مركز بيو للأبحاث أن 13% من الأميركيين يعتبرون أنفسهم “كاثوليكا سابقين”، كما تخلى الكثيرون منهم عن الانتماء لأي دين منظم، وهو مصطلح يشير إلى الدين بوصفه مؤسسة اجتماعية.

وبقدر ما ارتفعت أعداد غير المتدينين، زاد قبول المجتمع الأميركي لهم حتى بات من السهل عليهم الاجتماع والزواج وتربية الأطفال بعيدا عن أي انتماء ديني حقيقي.

على أن أهم عامل في ما يحدث تلك التغييرات المثيرة التي طرأت على المجتمع الأميركي. فقد تعرضت مؤسسة الزواج في الولايات المتحدة لضربات موجعة عدة. فقد ارتفعت نسب الطلاق في الفترة من سبعينيات إلى تسعينيات القرن العشرين، وتزامن ذلك مع تدني معدلات الزواج في ثمانينيات القرن نفسه.

وأخيرا، فقد تكون ظاهرة “البلوغ المتأخر” عاملا خفيا آخر ساهم في تفاقم الأمر. فأميركيون كثر، لا سيما خريجي الجامعات في المدن الحضرية الكبيرة، يرجئون الزواج والحمل حتى بلوغهم سن الثلاثين لصالح الوظيفة والاستمتاع بمرحلة الشباب والعزوبية.

ويقول تومبسون إن استفحال ظاهرة ارتفاع أعداد اللادينيين في أميركا لا تُظهر أي مؤشرات على تراجعها.

الجزيرة