عملية شرق الفرات: المواقف الدولية والتحديات التركية

عملية شرق الفرات: المواقف الدولية والتحديات التركية

مع اقتراب ساعة الصفر لبدء الجيش التركي بتنفيذ عملية عسكرية جديدة لإنشاء «منطقة آمنة» شرقي نهر الفرات شمالي سوريا، تتضح أكثر فأكثر السيناريوهات المتوقعة للعملية التي تهدد فيها أنقرة منذ سنوات، وباتت اليوم أقرب من أي وقت مضى للتنفيذ.
وحسب الكثير من المعطيات العسكرية على الأرض وخريطة نشر القوات التركية على الشريط الحدودي فإن المرحلة الأولى من العملية سوف تكون ما بين منطقتي تل أبيض ورأس العين وهي المنطقة الممتدة على طوال قرابة 100 إلى 120 كيلومتراً وستكون بعمق 30 كيلومتراً وهي العمق الذي حددته أنقرة سابقاً للمنطقة الآمنة في مرحلتها الأولى، وستكون هذه المنطقة بمساحة إجمالية 2600 كيلومتر مربع.
وإلى جانب الكثير من التقارير التي نشرتها الصحافة التركية، فإن خريطة الانسحاب الأمريكي حتى الآن تدعم هذا السيناريو حيث انسحبت القوات الأمريكية من نقطتين أساسيتين كانتا في تل أبيض ورأس العين، وباتت المنطقة الممتدة من تل أبيض وحتى رأس العين خالية من أي تواجد للقوات الأمريكية، يضاف إلى ذلك أن تصريحات الرئيس التركي رجب طيب اردوغان ركزت منذ سنوات على ذكر اسم هاتين المنطقتين ضمن أهم أهداف العملية المتوقعة شرق الفرات.

وأعلنت وزارة الدفاع التركية عبر موقع تويتر أنها أكملت الاستعدادات لبدء عملية عسكرية في شمال شرقي سوريا. وأوضحت الوزارة أنه من الضروري بالنسبة لها إقامة المنطقة الآمنة أو “ممر السلام” كما سمته، للمساهمة في الاستقرار والسلام بالمنطقة، وحتى يتمكن السوريون من العيش في أجواء آمنة.وأضافت أنها لن تسمح مطلقا بإنشاء ما وصفته بـ”الممر الإرهابي” على حدود تركيا، وأكدت أنها استكملت كافة الاستعدادات من أجل العملية العسكرية التي تستهدف منطقة شرق الفرات، حيث تنتشر ما تعرف بقوات سوريا الديمقراطية التي يقودها الأكراد وتدعمها الولايات المتحدة.

وفي غضون ذلك بدأت القوات الأمريكية الانسحاب من مواقع في شمال شرقي سوريا، لتفسح الطريق أمام عملية عسكرية تركية وشيكة، ضد قوات كردية مسلحة. ويرى الأكراد أن هذا التحول الأمريكي يعد “طعنة في الظهر” بعد السماح بعملية عسكرية تركية ضدهم. لكن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قال في تغريدة صباح اليوم إن الولايات المتحدة انخرطت “أكثر وأكثر في حرب بلا هدف في الأفق”.

وفي ذات الوقت هدد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بتدمير الاقتصاد التركي إذا “تجاوزت” تركيا الحدود، بعد قراره المفاجئ بسحب القوات الأمريكية من شمالي سوريا. ثم دافع الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن علاقات بلاده مع تركيا ووصفها بالشريك التجاري الكبير، وكتب ترامب على موقع تويتر اليوم الثلاثاء “ينسى الكثيرون بسهولة أن تركيا شريك تجاري كبير للولايات المتحدة، في حقيقة الأمر هم (الأتراك) يصنعون الإطار الهيكلي الفولاذي للمقاتلة الأميركية أف-35، كما أن التعامل معهم كان جيدا”.وأضاف “لنتذكر دائما -وعلى وجه الأهمية- أن تركيا عضو مهم من أجل المكانة الجيدة لحلف شمال الأطلسي”.وأشار الرئيس الأميركي إلى أن نظيره التركي رجب طيب أردوغان سيحل ضيفا عليه في 13 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل وفي سلسلة من التغريدات الغاضبة دافع الرئيس الأمريكي عن قراره الذي قد يمهد لشن تركيا هجوما على المقاتلين الأكراد عبر الحدود. وانتقد حلفاء ترامب من الحزب الجمهوري بشدة قرار سحب القوات.

وفي ظل التخبط المتزايد في الإدارة الأمريكية حول قرارات ترامب الأخيرة، والخلافات المتصاعدة بين البيت الأبيض والبنتاغون، لا يعرف حتى الآن ما إن كانت واشنطن ستفتح المجال الجوي في المنطقة لسلاح الجو التركي، أم أنها ستغلقه في محاولة لإعاقة العملية التركية وتعقيدها.
وفي حال كان المجال الجوي مفتوحاً، ستكون المهمة أسهل بكثير على القوات التركية، حيث أنهى سلاح الجو الاستعدادات لتنفيذ ضربات واسعة جداً بمشاركة عشرات الطائرات الحربية التي تنتظر الأوامر للإقلاع من قاعدتي ملاطيا وديار بكر، الأمر الذي سيساعد في تدمير الأهداف الرئيسية كافة قبل التحرك البري الذي سيحتاج أيضاً إلى دعم من المروحيات العسكرية.
ولكن في حال إغلاق المجال الجوي، فإن المهمة ستكون أصعب بكثير، حيث ستضطر الطائرات الحربية لتنفيذ ضربات بعمق محدود من داخل المجال الجوي التركي، كما سيواجه التقدم البري معضلة عدم تمكن الطائرات المروحية من تقديم الاسناد من ارتفاعات منخفضة، وهو ما يعني إطالة أمد العملية.

من جهتها، قالت قوات سوريا الديمقراطية إن التصريحات الصادرة عن الولايات المتحدة بعدم تدخل القوات الأمريكية في عملية تركية بشمال سوريا كانت “طعنا بالظهر” للقوات التي يقودها الأكراد. وقال كينو جبريل المتحدث باسم قوات سوريا الديمقراطية في مقابلة مع تلفزيون الحدث “كانت هناك تطمينات من قبل الولايات المتحدة الأمريكية بعدم السماح بالقيام بأي عمليات عسكرية تركية ضد المنطقة”. وأضاف أن قوات سوريا الديمقراطية التزمت التزاما “كاملا” باتفاق على “آلية أمنية” للمنطقة الحدودية كانت الولايات المتحدة ضامنة له. وتابع “ولكن التصريح (الأمريكي) الذي صدر اليوم كان مفاجئا ويمكننا القول إنه طعنا بالظهر لقوات سوريا الديمقراطية”.

مقابل التردد والتضارب الأمريكي شهد يوم أمس تضاربا في المواقف الكردية بين منتقد للنظام السوري وحليفتيه إيران وروسيا، وبين من يشير إلى إمكانية الحوار مع النظام توطئة لدخول قواته إلى شرق الفرات، فقد صرح القيادي الكردي البارز صالح مسلم بأنه «بالطبع الكل يقول إنه عقب سحب الولايات المتحدة قواتها من مناطقنا، وفي إطار الاستعداد لصد الهجوم التركي، يتعين علينا المسارعة بمد الجسور والتحالف مع روسيا والنظام السوري، بل والقبول بعرض إيران، لكن أقول للجميع: إن إيران وروسيا والنظام السوري متواطئون مع تركيا».
وفي موقف كردي آخر مناقض لتصريح مسلم، أعربت قوات سوريا الديمقراطية «قسد» عن نيتها التعاون مع نظام بشار الأسد لمواجهة العملية التركية المرتقبة شرق الفرات. جاء ذلك على لسان شاهين جلو الملقب بمظلوم عبدي قائد «قسد» حيث نقلت عنه وسائل إعلام مقربة من «ب ي د» قوله «إنهم يفكرون بالتعاون مع النظام السوري لمواجهة تركيا».

تقول الحكمة ما بعد الحدث إنه كان على الأكراد معرفة أنه لا يمكن الاعتماد على دونالد ترامب. يكفي إحصاء الاتفاقات التي خرقها الرئيس الأمريكي في فترة ولايته، التي تشمل الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران وخرق اتفاقات التجارة المختلفة و”صفقة القرن” التي تبين أنها مثل البالون وتجميد المساعدات المقدمة للفلسطينيين وإخفاقه الكبير في عقد اتفاقات جديدة أو حل نزاعات، من أجل أن نفهم بأن الأمر يتعلق بأسلوب هستيري ووحشي يستهدف تحطيم الأنظمة “القديمة”، لأن ترامب لم يكن شريكاً فيها.

إن التخلي عن الأكراد التي يتوقع حدوثها في شمال شرق سوريا هو حلقة أخرى في سلسلة الشرور. في نظر ترامب، الأكراد الذين سفك الكثير من دمائهم في الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وأثبتوا أنفسهم باعتبارهم القوة المحلية الأكثر نجاعة في محاربة الجهاديين.. ليسوا أكثر من مليشيا انتهى دورها، أما والآن فليذهبوا إلى الجحيم.

أمميّا، صرحت الأمم المتحدة إنه يجب حماية المدنيين من أي عملية عسكرية تركية في شمال شرق سوريا، حيث تأمل المنظمة الدولية في الحيلولة دون وقوع انتهاكات أو موجات نزوح عارمة. وقال منسق الشؤون الإنسانية الإقليمي للأزمة السورية بانوس مومسيس للصحفيين في جنيف إن الأمم المتحدة أعدت خططا طارئة لتقديم المساعدات. وأضاف “نأمل في الأفضل لكن نستعد للأسوأ”. وقال إن الأمم المتحدة شهدت “تاريخا مريرا” للمناطق الآمنة في أماكن مثل سربرنيتشا.

أوروبيّا، حذر الاتحاد الأوروبب من أي عملية تركية ضد قوات يقودها الأكراد في شمال سوريا، وقالت متحدثة في بيان صحفي “في ضوء التصريحات الصادرة عن تركيا والولايات المتحدة بخصوص تطورات الوضع، يمكننا التأكيد على أنه، في الوقت الذي نعترف فيه بمخاوف تركيا المشروعة، فإن الاتحاد الأوروبي قال منذ البداية إنه لن يتم التوصل إلى وضع مستدام بالوسائل العسكرية”.

 ومن جانبه قال متحدث باسم رئيس وزراء بريطانيا بوريس جونسون، إن بلاده قلقة للغاية من خطط تركيا للقيام بعملية عسكرية في شمال سوريا. وبسؤاله عن تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترمب، بأن بريطانيا «سعيدة جداً» بالتحول في سياسته بشأن سوريا، قال المتحدث باسم جونسون إن تحركات القوات الأميركية مسألة تخص الولايات المتحدة.

كما حذرت الحكومة الألمانية تركيا من شن هجوم عسكري في شمال سوريا، وقالت أولريكه ديمر نائبة المتحدث الرسمي باسم الحكومة اليوم في برلين. “مثل هذا التدخل العسكري سيؤدي كذلك إلى تصعيد آخر في سوريا “. وأظهرت المتحدثة في الوقت نفسه تفهماً للمصالح الأمنية لتركيا في المنطقة الحدودية. وقال المتحدث باسم وزارة الداخلية الاتحادية ستيف ألتر إن وزير الداخلية هورست زيهوفر أوضح للمسؤولين الأتراك في أنقرة الأسبوع الماضي أن الحكومة الاتحادية “لديها تحفظات” على الخطط التركية بخصوص إنشاء “منطقة آمنة” لإيواء اللاجئين في سوريا.

ودافع رئيس الوزراء الفرنسي إدوار فيليب عن سياسة بلاده في شمال شرقي سوريا قائلا إنه على عكس التردد الأمريكي، ظلت الأولوية لدى باريس هي هزيمة تنظيم «الدولة» والحفاظ على القوات التي تقاتل التنظيم ويقودها أكراد. وانتقد الوزير الفرنسي «التردد الواضح الذي أظهره شركاء محددون خاصة الأصدقاء الأمريكيين».

الانتقاد الذي يسمع من قبل دول الاتحاد الأوروبي ضد الخطوة الأمريكية وضد نوايا الغزو التركي يمر مرور الكرام عبر أذن اردوغان. فلديه ورقة رابحة تتمثل باتفاق اللاجئين الذي وقع عليه مع الاتحاد، والذي تلتزم تركيا –بحسبه- بمنع انتقال اللاجئين من أراضيها إلى الدول الأوروبية. هدد اردوغان مؤخراً بفتح البوابات وإعطاء إذن للاجئين بمغادرة تركيا كما يشاؤون إذا لم يستكمل الاتحاد تحويل المليارات التي تعهد بها في الاتفاق، وأذهل الاتحاد الذي يجري معه مفاوضات لمنع تطورات كهذه. على خلفية هذا التوتر، يمكن للاتحاد الأوروبي أن يطرق بلسانه أو يلوح بإصبعه، والتخمين بأن المكالمة الهاتفية الحاسمة بين اردوغان وترامب طرحت اتفاقاً للاجئين وتداعياته على الدول الأوروبية كسوط لوح به اردوغان من أجل إقناع ترامب بأن يسمح له بتنفيذ خطته في سوريا.

إلى ذلك، قال ديمتري بيسكوف المتحدث باسم الكرملين اليوم الاثنين إنه ينبغي الحفاظ على وحدة الأراضي السورية وذلك بعدما أعلنت الولايات المتحدة سحب قوات من شمال شرق سوريا. وأضاف بيسكوف للصحفيين أن موسكو تعلم أن تركيا تشاطرها نفس الموقف إزاء وحدة الأراضي السورية. وتابع “نأمل أن يلتزم رفاقنا الأتراك بهذا الموقف في جميع الظروف”.

وفي وقت لاحق، دعا وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف لحوار بين النظام السوري والأكراد حول الأوضاع في شمال شرق سوريا، وسط ترقب لعملية عسكرية تقول تركيا إنها ستطلقها في أي لحظة في المنطقة.ونقلت وسائل إعلام روسية عن لافروف قوله إن روسيا تشجع مثل هذا الحوار ومستعده لدفعه. كما دعا لافروف إلى حماية وحدة الأراضي السورية، وذلك بينما تستعد القوات التركية لعملية وشيكة. واعتبر لافروف أن الأنشطة الأمريكية في شمال شرق سوريا متناقضة وتظهر أن واشنطن غير قادرة على التوصل لاتفاقات، واصفا هذا السلوك بأنه “لعبة خطيرة قد تشعل اضطرابات في المنطقة كلها”.

إيرانيّا، أبلغ وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، نظيره التركي مولود تشاوش أوغلو، مساء الاثنين، أن طهران “تعارض” عملية عسكرية في سوريا، وفق ما جاء في بيان رسمي. كما حض ظريف، خلال مكالمة هاتفية مع تشاوش أوغلو، “على احترام وحدة أراضي (سوريا) وسيادتها الوطنية، وشدد على ضرورة مكافحة الإرهاب وإحلال الاستقرار والأمن في سوريا”، وفق ما جاء في بيان وزارة الخارجية الصادر في وقت متأخر ليل الاثنين، بعدما بدا كأن الرئيس الأميركي دونالد ترمب أخلى الساحة أمام هجوم تركي على القوات الكردية في شمال سوريا.

وترى التحليلات السياسية في قرار الانسحاب الأمريكي من شمالي شرق سوريا لفسح  لطريق أمام عملية عسكرية تركية وشيكة ضد قوات مسلحة ذات قيادة كردية. فذلك القرار ربما قدم بذلك هدية مسمومة وملغومة إلى الرئيس التركي، واستدرجه وجيشه إلى مصيدة بالغة الخطورة، قد يصعب الخروج منها، تمامًا مثل المصيدة السعودية في اليمن، والأمريكية في أفغانستان والعراق، مع تسليمنا بوجود بعض الفوارِق، فترامب لا يمكن أن يغفر للرئيس التركي شراءه لمنظومات صواريخ إس 400 الروسية، وتفضيلها على منظومة الباتريوت الأمريكية المنافسة.

وأن سحب ترامب للقوات الأمريكية من سوريا وإخراج بلاده من هذه الحرب العبثية ليس طعنة مسمومة جديدة في الظهر الكردي الذي لم يتعلم مطلقا من طعنات أمريكية سابقة، وربما يكون أيضا مقدمة للانسحاب العسكري الكامل من المنطقة برمتها، سواء من العراق أو السعودية أو الكويت، وكل القواعد الأمريكية في منطقة الخليج، وتنفيذًا للوعود التي تعهد بتنفيذها ترامب أثناء حملته الرئاسية.

ويقول حسين صقر في الثورة السورية إن “وراء الأكمة ما وراءها، ونيات النظام التركي إلى مزيد من التصعيد السيئ والخطير في الشمال السوري، حيث بات الرسم في مخيلته مكتملاً، لكن ليس ثمة صعوبات لتطبيقه على أرض الواقع وحسب، بل استحالة في التنفيذ”.

ويضيف الكاتب أن أردوغان “يؤسس للبقاء مدة طويلة في الأراضي السورية، ويريد من وراء ذلك إلحاق تلك المناطق بما سبق وتم احتلاله أيام الغزو العثماني والاستعمار الفرنسي، أي العودة إلى عهود الانتداب والتقسيم والسلخ، وهذا لن يتم أو يحصل، لأن ما حصل في السابق لن يتكرر اليوم، فضلاً عن أن العمل سيكون جارياً لتحرير ما تم احتلاله، وبالتالي فالمناورة في هذا الشأن ضرب من المقامرة الخاسرة ليس إلا”.

أما عبد المنعم علي عيسى فيكتب في الوطن السورية قائلا إن “السيناريو الأكثر رجحاناً هو أن القوات التركية ستدخل مناطق سيطرة (قوات سوريا الديموقراطية) بموافقة روسية وصمت أمريكي لن يكون أمامه من خيار سوى المضي في سحب قواته من تلك المنطقة … واللافت في هذا السياق هو أن (مجموعة دراسة سوريا) وهي لجنة تضم 12 عضواً من الجمهوريين والديمقراطيين على حد سواء كانت قد أوصت في تقرير قدّم إلى ترامب في 25 سبتمبر/أيلول الماضي بعدم الانسحاب من سوريا، إلا أن المؤكد أن مواقف هؤلاء ستكون ضعيفة عندما تقدم أنقرة على عمل عسكري، يبدو أنه بات أكيدا”.

يقول محمد خروب في الرأي الأردنية: “مرة أخرى -لا أخيرة- تُدير واشنطن ظهرّها لحلفائها وهم هذه المرة كُرد سوريا، الذين وضعوا كل بيضهم في السلّة الأمريكية”.

ويرى الكاتب أن الانسحاب هو “ضوء أخضر أمريكي للحليف الأطلسي الذي لن يجِد أحداً يمنعه من اجتياح شمال سوريا وإقامة منطقته الآمنة المزعومة وبالعمق الذي يريد … ما دام الذي دفعَ وسيدفع الثمن هو سوريا وشعبها ووحدة أراضيها وسيؤسس مُجدداً لإحياء مُخطَّط تقسيم سوريا”.

في السياق ذاته، يرى حازم عياد في السبيل الأردنية أن “البيت الأبيض قدم صورة أقل درامية من تغريدات ترامب في محاولة للتخفيف من وقع تخلي أمريكا عن حلفائها الأكراد الانفصاليين باستخدام لغة دبلوماسية، أعلن فيها البيت الأبيض أن الولايات المتحدة الأمريكية لن تدعم أو تشارك تركيا في عملياتها شمالي سوريا”.

ويضيف الكاتب أن “ما حدث شمالي سوريا سيحدث في أماكن أخرى إذ شهدنا السبت 29 سبتمبر/أيلول الماضي نقل القيادة الجوية من قاعدة العديد في قطر إلى أمريكا مؤقتا كمناورة تجريبية أثبتت نجاحها؛ فأمريكا ستنسحب من مناطق أخرى بالتأكيد من ضمنها أفغانستان قريبا؛ الأمر لم يعد بالإمكان إخفاؤه أو تبريره من قبل وزارة الدفاع أو الخارجية أو الدبلوماسيين المحترفين في البيت الأبيض”.

الدولة الوحيدة التي يمكنها منع العملية التركية هي روسيا، لكن لروسيا مصلحة في السماح لتركيا بتعزيز مكانتها في شمال سوريا، حيث تستطيع أن تنفذ الاتفاق الذي وقع بين موسكو وأنقرة في أيلول 2018 والذي –بحسبه- يتم نزع سلاح وتفريق عشرات آلاف المتمردين المسلحين المتركزين في منطقة إدلب. دعمت تركيا في السابق عدداً من هؤلاء المتمردين، ومنطقة سورية الواسعة التي تقع تحت سيطرتها ستمكنها من الاقتراح عليهم، على الأقل نظرياً، الخروج بهدوء من إدلب. هكذا سيتم منع حدوث معركة قاسية ضدهم من جانب القوات السورية والروسية، معركة يمكن أن تحرك موجة جديدة من اللاجئين نحو تركيا. السؤال الذي سيطرح هو هل سيوافق المتمردون على نزع سلاحهم ولن يناضلوا ضد قوات الرئيس بشار الأسد الذي بدأ باحتلال مناطق في محافظة إدلب.

لروسيا والأسد مصلحة في إعادة اللاجئين السوريين من تركيا ودول أخرى هربوا إليها، وذلك من أجل إثبات أن سوريا تحولت إلى مكان آمن، ومن أجل تعزيز الأساس العربي في المحافظات الكردية. ولكن سيطرة تركية ستضع أيضاً مشكلة كبيرة أمام الأسد وروسيا، حيث الوجود العسكري التركي في الأراضي السورية يعد عائقاً أمام نشر السيادة السورية على أراضي الدولة كلها. بسبب ذلك، ستضطر تركيا وروسيا للتباحث في هذا الأمر لتحديد جدول زمني للانسحاب المستقبلي لتركيا الذي سيتم تنسيقه كما يبدو مع تقدم العملية السياسية لإنهاء الحرب.

أما عسكريّا، يتوقع الخبراء عسكريون أن يكون التقدم التركي سهلا لعدة كيلو مترات، لكن تأمين تلك المنطقة وتمشيطها سيستغرق وقتا أطول، لا سيما وأن المنطقة تكتظ بالسكان ويسكنها عدة ملايين من أكراد وعرب وسريان، وهي في معظمها مناطق زراعية.كما أن قوات سوريا الديمقراطية التي يشكل المقاتلون الأكراد عمودها الفقري حصلت على كميات ونوعيات متقدمة من الأسلحة الأمريكية خلال المعارك ضد تنظيم داعش مما قد يصعب من مهمة الأتراك، كما ان غياب الغطاء الجوي للجيش التركي عن المناطق التي تبعد أكثر من عشرة كيلو مترات عن حدوده سيصعب من مهمته مع مرور الوقت، وسيدفعه للاستعانة بطائرات من دون طيار، وليس بسلاح الجو، نظرا لان مناطق العمليات تقع تحت السيطرة الجوية لقوات التحالف الدولي.

أما التحدي الأكبر، فهو احتمال قيام القوات الكردية، بإطلاق سراح المئات من مقاتلي ما يعرف بتنظيم داعش والذين تحتجزهم في سجونها، كرد على انسحاب القوات الأمريكية وتخليها عنهم، بعد أن حققوا نجاحا كبيرا في مساعدة واشنطن على هزيمة التنظيم المتشدد في شمال وشرق سورية وهو ما سيجعل تركيا في مواجهة من نوع آخر، في حال تسلل هؤلاء إلى أراضيها، أو أعادوا تنظيم صفوفهم هناك.

أما التحدي الآخر، فهو داخلي ويتعلق بموقف أكراد تركيا مما يجري، في ظل احتمال إندلاع أعمال عنف وشغب في المدن الكردية في جنوب وجنوب شرق تركيا، ما يضيف عبئا جديدا على كاهل المؤسسة الأمنية التركية، في ظل أنباء عن قيام الأمن التركي بتعزيز قواته في المدن ذات الغالبية الكردية، تحسبا لأي طارئ. يبقى أن نشير إلى أن شكل المواجهة وطبيعة الرد الكردي على التحركات التركية، قد ينعكس بشكل سلبي على الاقتصاد التركي وعلى أسعار صرف العملة المحلية، في ظل أزمة اقتصادية تعيشها البلاد منذ أعوام، وهو أمر من شأنه أن يزيد الأمور تعقيداً في حال طال أمد العملية.

وتعتبر الخنادق والأنفاق أسفل الأرض من أكثر المعيقات للعملية التركية، حيث أنشأت الوحدات الكردية هناك أنفاقاً محصنه بالإسمنت المسلح على امتداد كيلومترات عدة أسفل الأرض من أجل التنقل بحرية وتنفيذ عمليات في الخطوط الخلفية للقوات المتقدمة، وذلك على غرار ما جرى في عفرين .لكن من جانب آخر، فإن الجيش التركي وفصائل المعارضة السورية اكتسبت خبرة أكثر على التعامل مع هذه الأنفاق وطرق دفاع الوحدات الكردية من خلال عملية عفرين، كما أن الجيش التركي جمع معلومات استخبارية واسعة جداً طوال السنوات الماضية عن مقرات وخنادق وأنفاق الوحدات الكردية في المنطقة، وهو ما قد يساعده في التعامل مها بأقل الخسائر الممكنة.

وعلى الرغم من فشل اتفاق المنطقة الآمنة الأخير بين واشنطن وأنقرة، إلا أن الجيش التركي استفاد من الخطوات التي جرى تنفيذها طوال الأسابيع الماضية، سواء من خلال تدمير جانب من تحصينات الوحدات الكردية، أو من خلال جمع معلومات استخبارية أوسع في إطار الدوريات البرية والجوية التي نفذت بالتعاون مع الجانب الأمريكي.

خطوة ترامب التي تناقض موقف وزارة الدفاع الأمريكية والـ سي.آي.ايه سيكون لها تأثير بعيد المدى يتجاوز سوريا وعلاقات الولايات المتحدة مع تركيا. إنه يرسخ الفرضية التي تقول بأنه لا يوجد لأمريكا أصدقاء في الشرق الأوسط، وإن أي تحالف ما زال ساري المفعول مطروح طوال الوقت لإعادة الاختبار ومعرض لخطر الإلغاء من طرف واحد. الدولة الأولى التي يجب عليها أن تعرف عن التقلبات التي تميز الإدارة الأمريكية هي السعودية، التي شاهدت بذعر كيف سارع ترامب إلى إجراء مفاوضات مع إيران، ويعتبر الهجوم على منشآت النفط السعودية الذي يبدو أن إيران وراءه ونفذته من قبل قوات مشغلة بأيديها، كشأن سعودي يجب على الرياض وحدها أن تقرر كيفية الرد عليه.

إن تخلي أمريكا عن سوريا يفيد إيران بشكل جيد، على الأقل من الناحية السياسية. فهو يعزز ادعاءها بأنه لا يجب الاعتماد على الولايات المتحدة لأنها تتخلى عن حلفائها في أوقات الأزمة، وأن رفضها إجراء مفاوضات مباشرة مع الولايات المتحدة يستند إلى دعائم شرعية. إسرائيل، التي هي من الأتباع العميان لترامب، يمكن أن تجد نفسها في ضائقة أمام “المقاربة الترامبية”. ويبدو أنه يمكنها الاعتماد على أن ترامب سيعطيها يداً حرة في التصرف في المناطق، بما في ذلك ضمها، كما سبق وصرح مستشاروه. ولكن مؤقتية أي تحالف يعقده ترامب تقتضي الحذر والشك.

وحتى هذه الساعة لا يبدو واضحاً أن أنقرة تمارس لعبة تهديد كلامية فقط، لأن الاستعدادات العسكرية الميدانية بدأت منذ أسابيع وهي تجري اليوم على قدم وساق، والبرلمان التركي لن يتردد في منح الحكومة التخويل اللازم للبدء في عملية واسعة النطاق شمال سوريا. صحيح أن الأهداف المعلنة للعملية تشير إلى ضرورة إقامة منطقة آمنة أو «ممر يساهم في الاستقرار والسلام في المنطقة»، و«يمكِّن السوريين من العيش في أجواء كريمة» كما قال بيان وزارة الدفاع التركية، إلا أن الهدف الأكبر من وراء العملية هو ذاك الذي أوضحه اردوغان مراراً وتكراراً حول إخراج المسلحين الأكراد من مناطق متفاوتة العمق داخل الشمال السوري.

ومن هنا قد يكون من المنطقي ترجيح صفقة تفاهم بين واشنطن وأنقرة تم الاتفاق عليها خلال المكالمة الهاتفية التي جمعت أردوغان وترامب، وأن الخاسر الأول سوف تكون القوى الكردية التي تحالفت مع البنتاغون شرق الفرات، وراهنت عن خطأ على أن واشنطن سوف تمنع هذه العملية وتفرض حماية صريحة للمسلحين الأكراد في وجه الجيش التركي. وكما جرت العادة، أنصت الأكراد إلى تصريحات وزير الدفاع الأمريكي مارك إسبر خلال زيارته إلى أنقرة قبل أسابيع قليلة فقط، وصدقوا ما قاله حول إصرار واشنطن على منع أي توغل عسكري تركي داخل الأراضي السورية ومناطق انتشار المجموعات الكردية المسلحة.

ومن جانب آخر لا تتوفر مؤشرات واضحة أو كافية حول فاعلية بيانات الاعتراض والقلق التي صدرت عن إيران أو روسيا أو حتى بريطانيا، إذ يصعب الافتراض أن أنقرة لم تُنضج خيار التدخل على نار هادئة اقتضت مراحل من التشاور مع البيت الأبيض، وبالتالي فإنّ تغطية العملية لا تقتصر على التأمين الدبلوماسي وحده بل قد تشمل أيضاً مستويات مختلفة من التنسيق اللوجستي. ومما يثير الدهشة أن موسكو أبدت استغراباً مزدوجاً إزاء إعلان ترامب سحب عشرات الجنود الأمريكيين من شمال سوريا وإعلان أنقرة بدء الاستعدادات للعملية العسكرية، مقابل ادعاء المسؤولين الروس عدم معرفة الكرملين المسبقة بالتطورين معاً.
والسؤال البسيط والحاسم هو التالي: هل نضجت الصفقة، أخيراً، بين واشنطن وأنقرة والقوى الفاعلة المختلفة، على حساب الفصائل المسلحة الكردية، وكما تكرر مراراً في الماضي؟

وحدة الدراسات التركية

مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية