انتفاضة الغضب تعيد العراق إلى ذاته

انتفاضة الغضب تعيد العراق إلى ذاته

كالشرارة التي أشعلت الحقل، تنتقل الانتفاضة الشعبية من بلد إلى بلد على امتداد الأرض العربية، من المحيط إلى الخليج، كما كانت تنادي شعارات الحركة القومية الغاربة. هكذا عبَرت تونس إلى البحرين مرورا بليبيا ثم اليمن وسورية، قبل أن تشعل موجةً ثانيةً جماهير السودان والجزائر. ولكن عبورها نحو العراق يحمل اليوم معاني مختلفة، بمقدار ما يزيل الغشاوة عن الهوية العميقة لهذه الانتفاضات، ويسقط الطروحات الخاطئة التي حاولت، لأهداف متباينة، النّيل منها وتشويه صورتها وغاياتها.
أول هذه الطروحات التي أسقطتها انتفاضة العراقيين الراهنة هي الطابع السياسي والمدني الذي يحرّك جمهورها، فقد ترسخ في أذهان باحثين عرب وأجانب كثيرين، وهذا ما تلقفته أجهزة دعاية الأنظمة القائمة وحماتها، زعمٌ باطلٌ بأن شعارات الحرية والكرامة والديمقراطية التي كانت ترفعها التظاهرات الشعبية، هنا وهناك، ليست سوى غطاءٍ رقيقٍ لحقيقة التطلعات الدينية العميقة وراءها، والتي تتناقض تماما معها، وتجعل من الإسلام السياسي القوة الوحيدة المؤهلة للاستثمار فيها، وتجييرها لصالح تصوراتها السياسية ونمط حكوماتها. وهذا ما لم تكفّ الأنظمة القائمة عن التلويح به، والرهان عليه منذ أكثر من أربعة عقود، لتبرير استبدادها وتمسّكها بالسلطة، إن لم يكن تأبيدها.
لم تكذّب انتفاضة العراقيين التي تأتي بعد ستة عشر عاما من حكم الولي الفقيه، وانفجاراتٍ شعبيةٍ متعدّدةٍ سابقة، هذه الطروحات، مظهرةً بالعكس أن هوى المجتمعات ليس العودة إلى الماضي
“أهمية الانتفاضة العراقية الراهنة أنها حدثت ضد نظام سياسي تحكمه وتتحكّم به، المرجعية الدينية”الديني، وإنما التقدم نحو المستقبل المدني والتحرّري فحسب، ولكنها كانت ربما بين الانتفاضات العربية الأولى التي تداولت شعار الدولة العلمانية، وجعلته أحد أهم شعاراتها، تعبيرا مفهوما عن رفض الجمهور السافر لحكم الوصاية الدينية الذي فرضته أحداث ما بعد حرب 2003، والذي قبلت به الطبقة السياسية، وكان السبب الرئيسي في فسادها بمقدار ما جرّدها من المسؤولية السياسية والأخلاقية، وأجبرها على التسليم والطاعة لسلطةٍ مرجعيةٍ خارجةٍ عنها ومستقلةٍ بأفكارها. لقد أثبتت ثورة العراقيين، أكثر من أي ثورة أخرى، ضد المشكّكين بحقيقة التطلعات الشعبية التحرّرية التي تحرّك الشعوب العربية اليوم، وفي مقدمتهم الإسلامويون أنفسهم، أن الثورة التي تغلي بها أفئدة شباب المنطقة برمتها اليوم ليست العودة إلى أي إرث ديني أو قومي، وإنما الخروج من حكم الوصاية وتزوير إرادة الناس والغش الذي يقبع على صدورهم منذ عقود، وجعل حياتهم جحيما وأوصد أمامهم جميع أبواب الخلاص المادي والروحي. وأظهرت بالمعية أن استراتيجية يساريين وقوميين كثيرين الاصطفاف وراء النظم الاستبدادية القائمة أو الاحتماء بها، بذريعة تجنيب الشعوب آثارها المدمرة المفترضة، لا تقل فسادا عن استراتيجية الإسلامويين الذين حلموا بأنها، في النهاية، ثورتهم الموعودة، وقادوها، بسبب ذلك، إلى طريق مسدود، معبئين ضدّها الرأي العام الوطني والخارجي معا.
وثاني هذه الطروحات التي كنستها الانتفاضة العراقية كان المبالغة في ثقل الانتماء المذهبي، وفي سيطرة الطائفية على ديناميكية التحولات السياسية، فلم يحم الشحن بالروح الطائفية، من حكم الوصاية الدينية وتأجيج المشاعر المذهبية منذ عقود، حكومة عبد المهدي وشركائه من قادة الأحزاب السياسية الأخرى، من غضب الجمهور الشعبي، وحرق مقرّات الأحزاب التي تحمي نظام الطائفية وحرق مقرّاتها. لقد تطورت حركة الاحتجاج وتجذّرت، على الرغم من إتخام الشيعة العراقيين بالوجبات والشحنات المذهبية، داخل العراق وخارجه. وبالعكس، حملت الانتفاضة مطلب تجاوز الطائفية لأول مرة، وأحيت روح الوطنية العراقية، بدعوتها الجمهور السني الذي عانى من الاستبعاد والتهميش والتهجير المديد إلى الالتحاق بها، والعودة إلى احتلال موقعه في الحياة السياسية العراقية. وهذا يعني أنه، بعكس ما حاول منظّرو الفتنة والاستبداد تمريره، ليست الأحقاد الطائفية هي المحرّك الفعلي للانتفاضات الشعبية في أي موقعٍ اندلعت فيه، سواء كان في سورية أو البحرين أو اليمن وغيرها، تماما كما أن المطالب الدينية و”العودة إلى الإسلام”، الصحيح أو غير الصحيح، لم تكن، في أي حقبةٍ سابقة، الدافع العميق للخروج ضد الأنظمة الاستبدادية، حتى لو وصفت هذه الأنظمة في كثير من الشعارات بأنها مارقة وطائفية.
والطرح الثالث الذي أسقطته انتفاضة العراقيين الراهنة هو نسب الاحتجاجات إلى مؤامرة خارجية، وربطها بالتدخلات الأجنبية، على اعتبار أن من المستحيل للجمهور الشعبي الذي سلبت النخب الدينية والسياسية عقله، وشلت إرادته، ووجهته حشودا شعبية ضد شعوبٍ أخرى أن يفكّر من تلقاء نفسه بالحرية، أو بالمشاركة في السلطة، وفرض تطبيق القانون، فما بالك بالخروج على أسياده وتحدّي إرادتهم. وليس لنشر مثل هذا الادعاء وتعميمه سوى هدفٍ واحدٍ، هو تبرير العنف المفرط واستخدام الرصاص الحي ضد شبيبةٍ سلبت كل حقوقها، والتعامل معها بمثابة متمرّدين تحرّكهم أياد أجنبية، مباشرة أو عن طريق عملاء، لا هدف لهم سوى زعزعة استقرار البلاد وضرب السلام والأمن فيها، وتقويض أسس نهضتها، أو تنفيذ مشاريع تقسيمها لصالح قوى محلية أو إقليمية. ما حدث ويحدث في العراق جاء ليؤكد العكس، ويُثبت أن الانتفاضات الشعبية هي في العمق أيضا وطنية، تهدف إلى استعادة السيادة وانتزاعها من بين أيادي المتدخلين الأجانب الذين لا أمل لحكومات الفساد والعجز والمحاصصة بالوجود والبقاء من دونهم، كما أراد الثاثرون العراقيون أن يثبتوا ذلك، في حرقهم قنصلية إيران في بعض المدن العراقية.
(2)
تكمن أهمية الانتفاضة العراقية الراهنة في أنها حدثت ضد نظام سياسي تحكمه وتتحكّم به، بشكل صريح وشبه رسمي، المرجعية الدينية، ولا يستطيع أي حاكم سياسي فيه أن يقوم بأي مبادرة من دون موافقة هذه المرجعية التي تشكل مرشدا فعليا للدولة والطبقة السياسية برمتها، وهاديا لها
“هذه معركة الديمقراطية الحقيقية التي يدشّنها موت الاستبداد، ونهايته السياسية المحتومة” ورقيبا عليها. وحصلت في إطار نظامٍ هو الوليد الشرعي للطائفية السياسية، والذي لا يتردّد في إعلانه التمسّك بها صراحة، والدفاع عنها وتكريسها، على جميع مستويات السلطة السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية والدينية، وفي مجال توزيع المناصب أو المواقع أم الموارد معا. ووجّهت سهامها، منذ البداية، نحو الركيزة الكبرى التي يستند إليها نظام الفساد الأكبر بين جميع نظم العالم ربما، أعني عهد الوصاية الإيرانية الأجنبية. وقد أظهرت أنه إذا كانت هناك مؤامرة خارجية ضد استقلال العراق، وتقدّم شعبه، وقيام نظام سياسي فيه يحفظ مصالح الشعب، ويضمن حقوقه وأمنه، فهي كامنةٌ في طبيعة النظام القائم نفسه الذي لا يمثّل، على الرغم من المظاهر الخارجية، سوى التسلط الإيراني على شؤون العراق، ومنع العراقيين من بناء حكم وطني حقيقي يمثلهم، ويخضع لإرادتهم، ويدافع عن استقلالهم وحرياتهم. لذلك أصبحت انتفاضة العراقيين أيضا انتفاضة الاستقلال، وانبعاث روح الوطنية المستقلة والجامعة التي حاولت طهران خنقها إلى الأبد بروح الطائفية العقيمة.
باختصار، ما أظهرته انتفاضة العراق الراهنة وأكدت عليه أنه، فيما وراء التناقضات والانقسامات الدينية والطائفية والتدخلات الخارجية، الموجودة بالفعل، وعلى الرغم منها، تستمد الاحتجاجات والانتفاضات الشعبية العربية الراهنة قوتها الرئيسية من تطلعات ومطالب شعبية حيوية، في مقدمها مطلب إلغاء الوصاية الخارجية، السياسية أو الدينية أو الأجنبية، والاعتراف بحق الأفراد في المشاركة في تقرير مصيرهم والمساهمة في حياةٍ سياسيةٍ حقيقيةٍ وناجعة، انطلاقا من الاعتقاد الصحيح أن هذه المشاركة في السيادة والقرارات السياسية وحدها التي تضمن لهم أن يكونوا مواطنين، لا شذاذ آفاق، وأن يملكوا وسائل الدفاع عن حقوقهم الأساسية، الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، أي حقهم في الأمن والرعاية وفرص العمل وبقية الخدمات الاجتماعية التي حرموا منها. وهذا هو معنى ومضمون الثورات السياسية التي عرفتها من قبل معظم شعوب العالم وأهلتها لحقبة طويلة من الاستقرار والتعاون على تحسين شروط حياة المجتمعات، وتأهيلها للمشاركة في حضارة عصرها. فلا إرضاء المطالب الروحية والمشاعر الدينية، ولا الحرص على الهوية، دينية كانت أم قومية أم مذهبية، ولا الخوف من التدخلات الأجنبية أو التمسّك بالسيادة الوطنية، تمنع الأفراد والجماهير من التفكير في الحاجات الأساسية التي يدور من حولها محور وجودهم. ولا يستطيع اللعب على الهوية والمشاعر الدينية والتخويف من تهديد السيادة الوطنية أن يقضي على المطالب التحرّرية التي تدفع الفرد إلى تأكيد دوره وموقعه في شبكة علاقات السلطة، وحقه في المشاركة في تقرير مصيره الشخصي والعام معا. ولا يمكن لهذه المطالب أن تقنع المجتمعات بفائدة الانعزال عن باقي شعوب المعمورة وقطع الصلات بمسارات الحضارة والمدنية وتغذية العداء الدائم والمريض للمجتمعات الأخرى وللعالم أجمع الذي هي جزءٌ منه، وبالتالي من تطوير وسائل التواصل والتفاعل والتعاون المثري مع شعوبه ومجتمعاته.
وإذا لم يكن هناك شك في أن التلاعب بمشاعر الهوية، المذهبية أو القومية، واستعداء الشعوب والجماعات بعضها على بعض، يمكن أن يجلب بعض الشعبية والفائدة للسياسيين الصغار ومتسلقي المناصب السياسية، خصوصا عندما تبدو هذه الهويات مهدّدة بالفعل، لكنه لا يكفي لبناء سياسة اجتماعية ووطنية بعيدة المدى، وهو على كل الأحوال مهدّد بأن يفقد أي قيمة أو أثر في الأوضاع الطبيعية، عندما يسود السلم والاطمئنان على الهوية، حتى لدى الجماعات الأقلية التي تعيش باستمرار حرب الدفاع عن الذاتية الخاصة في مواجهة ضغط البيئة الغالبة الدائم عليها لتغيير أفكارها.
لا يعني هذا أن أجندة الديمقراطية أصبحت جاهزة، ولا أن الشعوب أصبحت ناضجةً لتطبيقها. بل هنا المشكلة الحقيقية التي تواجه هذه الانتفاضات، فالوعي بالشيء لا يعني تحقيقه وإدراك الشعوب العربية أنه لا خلاص من دون امتلاك السيطرة على النخب الحاكمة، وإجبارها على تطبيق
“معركة العراق من أجل الاستقلال والتحرّر السياسي والوطني المزدوج لن تقل صعوبة ودموية عن معركة السوريين”برنامج اجتماعي وسياسي، يستجيب لمصالحها ويحترم حقوقها، ويضمن تحسين أحوالها، ويقضي على الفساد والغش وهدر المال العام، وسيطرة مافيات المال والأعمال على الحكومات وسلبها إرادتها، لا يعني أن هذه الشعوب امتلكت منذ الآن القدرة على ممارسة الضغط المنظم والتنظيم الذي يمكّنها من فرض رأيها على النخب الحاكمة، والمساهمة في إنتاج القوى الاجتماعية، وإنشاء التوازنات السياسية، ووضع أسس النظام الديمقراطي المنشود الذي يلبي هذه المطالب التحرّرية، فهذه معركة أخرى، ترتبط بقدرة الأفراد والمحتجين والثائرين على التحرّر، هم أيضا، من أسمال عبوديتهم السابقة وأقماطها، وارتقائهم في مشاعرهم وتفكيرهم وسلوكهم، تجاه بعضهم بعضا وتجاه المجموع، إلى ما يقتضيه منطق السيادة، ونجاحهم في إخضاع وجودهم الاجتماعي، الفردي والكلي، لقيم ومبادئ والتزامات أخلاقية وسياسية متفاوض عليها وثابتة.
وهذه هي معركة الديمقراطية الحقيقية التي يدشّنها موت الاستبداد، ونهايته السياسية المحتومة، سواء نجح الجمهور في الإجهاز على نظمه بضربة واحدة، أو عجز عن ذلك، ووقف عند تقويض أركانها وتحويلها إلى نظم مهلهلة ونافقة، تنتظر ساعة دفنها. ومعركة الديمقراطية التي ليست في الواقع سوى معركة بناء الشعب سيدا، والفرد مواطنا حرّا، والوعي عقلا مستقلا، لا يمكن إلا أن تكون طويلة ومعقدة، تحتمل التقدم والتراجع وربح جولات وخسارة جولات أخرى. فلا تتحقق هذه السيادة إلا عندما ينجح الشعب في تحطيم آلية قيام نخب ثابتة ومكرّسة، في شكل طبقة أرستقراطية أو نخبة حزبية أو طائفة اجتماعية، وإحلال نخب سياسية خاضعة له، ومرتبطة به، متغيّرة ومتبدّلة، مكانها، تعمل بالوكالة عنه، ويمتلك هو وحده آلية تكوينها وتجديدها ونزع السلطة والصلاحية منها عندما تقتضي الحاجة. وهذا ما ترمي إليه الانتخابات الدورية التي أصبحت علامة فارقة على الحكومات الديمقراطية، عندما لا يتم، كما يحصل كثيرا في المجتمعات الانتقالية، تزويرها وتفريغها من مضمونها، والالتفاف عليها لإعادة إنتاج النخب الحاكمة المكرّسة والثابتة، المنفصلة عن الشعب والمتحكّمة به من خلال سيطرتها على جهاز الدولة وتكريسه لخدمة أهدافها. وهذا ما نجحت في إقامته النخب العراقية الحاكمة اليوم، التي لا يساوي فسادها إلا عبوديتها لحكم الوصاية الأجنبية السافرة، والتي نجحت في جعل الانتخابات مقصلة الديمقراطية وقبرها.
ونحن إذ نحيي انتفاضة العراقيين البطولية، ندرك أيضا أن معركة العراق من أجل الاستقلال والتحرّر السياسي والوطني المزدوج لن تقل صعوبة ودموية عن معركة السوريين، ولا تنفصل عنها.

العربي الجديد