المال السياسي في العراق: وجه آخر للفساد

المال السياسي في العراق: وجه آخر للفساد

بالتزامن مع التظاهرات التي تشهدها بغداد ومدن جنوب العراق ووسطه، عاد الحديث من جديد عن المال السياسي في البلاد كأحد أوجه الفساد الذي تتورط به أحزاب وقوى سياسية مشاركة في الحكومة والبرلمان، فيما كان رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، قد تعهّد أخيراً بالعمل على القضاء على الفساد ومنع استغلال المسؤولين للمال العام في الترويج لأنفسهم.

مستوى الإعمار أو حتى المشاريع المدشّنة في محافظة دون أخرى في العراق، يكشف عن المال السياسي، وخصوصاً في مدن شمال العراق وغربه، المدمرة والمحررة أخيراً من تنظيم “داعش”. فالمدينة أو المحافظة التي ينحدر منها مسؤول حكومي أو وزير، نالت أكثر من جارتها التي لم يسعفها الحظ بأن يكون أحد أبنائها مسؤولاً، وهو ما يصفه مراقبون بأنه استغلال للمال العام في الترويج من قبل سياسيين ومسؤولين لأنفسهم، بإنجازات على الأرض تضمن فوزهم مجدداً.


يعزو مراقبون الأمر إلى المحاصصة السياسية وضعف الرقابة ولعب العلاقات الشخصية دوراً في رسم مشاريع وخطط التنمية في المحافظات


ففي غرب العراق وشماله، تبدو محافظة صلاح الدين أقلّ المحافظات التي تحظى بالاهتمام، وفي الجنوب تبرز المثنى كإحدى محافظات العراق الأكثر فقراً والأقل بمشاريع التنمية. ويعزو مراقبون ذلك إلى المحاصصة السياسية وضعف الرقابة وأداء العلاقات الشخصية دوراً في رسم مشاريع التنمية وخططها في المحافظات.

وتشهد ظاهرة استخدام المال العام لأغراض سياسية تصاعداً واضحاً قبيل الانتخابات المحلية المقرّر إجراؤها في أبريل/نيسان من العام المقبل، التي ستسفر عن اختيار حكومات محلية للمحافظات العراقية كافة، باستثناء إقليم كردستان العراق، وعددها 15 محافظة. وهو أمر يصفه النائب المستقلّ كاظم الصيادي بأن بعضه عبارة عن “سرقات تجري في الوزارات”، مضيفاً في حديث مع “العربي الجديد”، أنّ “المال السياسي سبب رئيسي في خراب البلاد، وهو إما أن يكون عبارة عن أموال الدولة التي يتصرف بها المسؤول، فيطلق مشاريع ومبادرات هي من صلب عمل الدولة، لكنه يجيرها لمصلحته الانتخابية، أو أنها أموال تأتي من الخارج لشراء ذمم”. ويؤكد أنّ “كل الأحزاب السياسية العراقية لا تمتلك استثمارات، ولا اقتصاداً، ولا أي شيء، فمن أين يأتي أعضاؤها وزعماؤها بكل هذه الأموال؟”.

ويلفت الصيادي إلى أنّ المال السياسي سيؤثر في المحافظات العراقية المحررة من سيطرة تنظيم “داعش” وبقية مناطق البلاد، موضحاً بقوله: “نلاحظ بعض التحركات الانتخابية من قبل بعض الشخصيات السياسية في قضية إعادة النازحين أو إعطاء أموال من أجل بناء بعض المنازل المهدمة”.

من جهته، يؤكّد مسؤول عراقي في وزارة التخطيط، طلب عدم ذكر اسمه، في حديث مع “العربي الجديد”، أنّ “استفحال موضوع المال السياسي تطور من دفع أموال لدعايات انتخابية، ليصل إلى بدء كل مسؤول بتحصيل مشاريع ومنح مكاسب لمدينته، مستغلاً منصبه، لذا صار لدينا مدن فيها حركة تنمية وأخرى جامدة، لأنه لا يوجد مسؤول منها في الحكومة”. ويتساءل: “لدينا في العراق 19 محافظة و132 قضاءً وأكثر من ألف منطقة، فهل يتطلب أن يكون عدد المسؤولين في الحكومة والبرلمان وديوان الرئاسة على عدد هذه الوحدات حتى تحصل كل مدينة على مكرمة؟”.

ويلفت المسؤول نفسه إلى أنّ “الموضوع لا يتعلّق فقط بالمدن المنكوبة أو المحررة من داعش، بل يمتد إلى الجنوب. فهناك وزير بحكومة رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي، أنشأ جسراً في قريته، على الرغم من وجود جسر قائم، بينما البلدة المجاورة تفتقر إليه وتحتاجه بشدة. ومسؤول آخر استقدم برنامج مساعدات أممي إلى بلدته، وترك البلدات الأخرى، وهؤلاء يسجلون ما يقومون به كإنجازات حتى يُنتخبوا مرة جديدة”. ويقول إنّ “مدينة مثل تلعفر غربيّ الموصل، أو الحويجة جنوب غربي كركوك، أو سليمان بيك قرب تكريت، أو المشخاب في النجف والصويرة في واسط على سبيل المثال، عليها الحرص في المرة المقبلة على أن يكون هناك مسؤول منها، ولو مديراً عاماً، حتى يجلب لها على الأقل مشاريع تنظيف وتعبيد طرق”، معتبراً أنّ “هناك خللاً من قبل الأمانة العامة لمجلس الوزراء، وهذه الظاهرة هي أحد إفرازات ضعف الحكومة العراقية برئاسة عادل عبد المهدي”.


مسؤول: هناك خلل من قبل الأمانة العامة لمجلس الوزراء، وهذه الظاهرة هي كأحد إفرازات ضعف الحكومة


ولا يقتصر الموضوع على الوزراء أو من هم أقل منهم درجة، بل يتعداه إلى الحكومات المحلية في المحافظات العراقية. ويعرب عضو البرلمان عن تحالف “سائرون” سعد مايع، في حديث مع “العربي الجديد”، عن أسفه “لتكرار هذا المسلسل قبل كل انتخابات، سواء أكانت تشريعية أم محلية”، معتبراً أنّ “مصطلح المال السياسي هو الوجه القبيح للفساد في العراق، لكونه يستغل معاناة الناس ويعطيهم شيئاً هو من حقهم بلا منّة أو تفضيل، فيما يعود كل ذلك إلى الإرباك الذي رافق الحكومات المتعاقبة، فضلاً عن الفقر والعوز”. ويوضح أنّ مصادر هذا المال متنوعة، “فهي أحياناً تكون من خلال استغلال المناصب الحكومية، وأحياناً أخرى يأتي مقابل تطبيق بعض القوى لأجندات خارجية”.

ويشدد مايع على ضرورة توعية جمهور الناخبين وتثقيفهم تجاه اختيار الشخصيات النزيهة التي تمتلك القدرة على تحقيق متطلباتهم، ومأسسة الدولة، والارتقاء بالواقع الخدمي، مضيفاً: “يجب توحيد الخطاب الموجه إلى المواطنين، لحثّهم على الاختيار الصحيح في الانتخابات بعيداً عن الضغوط، لأننا بحاجة إلى فوز شخصيات تمثل الشعب العراقي بنحو صحيح”. ويتابع قائلاً إنّ “المرحلة الحالية تحتاج إلى صدق وبناء واحترام إرادة المواطن الذي ينتج القلة التي تحكم”، مؤكداً أنّ “الطروحات الحالية لا يمكن أن تبني الدولة”.

والشهر الماضي، قال عضو البرلمان العراقي عن محافظة ديالى رياض التميمي، إنّ “المال السياسي بدأ باحتكار شوارع المحافظة من خلال الدعاية الانتخابية استعداداً لانتخابات مجالس المحافظات المقرر أن تجرى العام المقبل”، مشيراً إلى أنّ “بعض الشوارع أصبحت لشخصيات محددة تستغل تنفيذ المشاريع كدعاية انتخابية، وكأن الحزب هو الذي يقدّم الأموال لأهالي ديالى، في حين أنّ واقع الأمر يشير إلى أنّ هذه المشاريع تنفّذ من أموال الشعب، وأن هذه الأحزاب تسرقها وتقدم مشاريع رديئة للمواطنين”.


لا يقتصر الموضوع على الوزراء أو من هم أقل منهم درجة، بل يتعداه إلى الحكومات المحلية

وتعليقاً على ذلك، يقول أستاذ العلوم السياسية في الجامعة المستنصرية، كاظم الخفاجي، إنّ “المال السياسي شوّه التجربة الديمقراطية في العراق، بسبب سيطرته على الانتخابات ونتائجها”، مؤكداً في حديث مع “العربي الجديد”، أنّ “الأحزاب تنفق ملايين الدولارات على حملاتها الدعائية من دون أن يكون لها مورد ثابت يحدد مصدر هذه الأموال التي يمثل أغلبها سرقات من أموال العراقيين”.

ويوضح الخفاجي أنّ “المال السياسي ليس بالضرورة أن يدفع كله للناخبين، فقد يُقدّم جزء منه على شكل مساعدات للفقراء، أو خدمات للنازحين، أو تجمعات ومؤتمرات تروج لشخصيات محددة”، مشيراً إلى أنّ “تركيز أغلب هذه الأموال سينصبّ في المرحلة المقبلة على المناطق المحررة التي يعاني أهلها من العوز الذي سيرغمهم على بيع أصواتهم مجدداً”.

العربي الجديد