الورطة التركية ونتائجها المحتملة

الورطة التركية ونتائجها المحتملة

في مقالة نشرها، في صحيفة نيويورك تايمز قبل أيام، استخدم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تعبير «الجمهورية العربية السورية» ممتثلاً للغة التعاملات في الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، وذلك بدلاً من «النظام السوري» مرفقاً بالصفات السلبية التي اعتاد على استخدامها طوال السنوات السابقة. في حين تحدث الناطق باسم الكرملين عن «اتصالات» بين الأتراك ونظام بشار على مستوى «المؤسسات». وفي طريق عودته من زيارة أذربيجان تحدث أردوغان إلى الوفد الإعلامي المرافق، عن وضع منبج، فقال إن تركيا ليست ضد دخول قوات النظام إلى تلك المدينة، «فهي أرضهم على كل حال».
ما كان لهذه التغيرات أن تحدث قبل تورط القيادة التركية في العملية العسكرية في شمال شرق سوريا، بعد قرار الرئيس ترامب القاضي بسحب قواته من هناك. لماذا هو تورط؟ هذا ما ستحاول هذه المقالة الإجابة عليه.
بدا، للوهلة الأولى، أن العملية العسكرية التركية تحظى بمظلة سياسية مزدوجة من واشنطن وموسكو معاً، بدلالة الفيتو المزدوج الأمريكي – الروسي نادر الحدوث الذي حمى ظهر القيادة التركية في مجلس الأمن من إدانة أممية لعمليتها العسكرية. كذلك كانت ردة الفعل الأوروبية ضد العملية التركية مفاجئة بالنظر إلى أن هم الأوروبيين، في الصراع السوري، يتركز على موضوع اللاجئين بل يكاد يقتصر عليه، وأحد أهداف العملية إيجاد حل عملي لتلك المشكلة. لكن حسابات البيدر لم تتطابق مع حسابات الحقل، فلم تكتف الدول الأوروبية بإدانة العملية لفظياً، بل أتبعتها بإجراءات عملية تمثلت في تعليق بعض الدول تزويد تركيا بالسلاح. كذلك تحول الموقف الأمريكي من الموافقة الترامبية على العملية إلى تهديد بالعقوبات، بل تطبيق موجة أولى منها على 3 وزراء في الحكومة التركية ووزارتين. أما روسيا التي بدت، في الأول، أقرب إلى تشجيع تركيا على مغامرتها العسكرية الجديدة، فقد غيرت تعاطيها أيضاً، وبخاصة في إشرافها على اتفاق «المصالحة» بين نظام بشار و«قسد». اتفاق قلب كل الوقائع على الأرض بصورة فورية، نظراً لاندماج قوات قسد في جيش النظام ورفع علم النظام بدلاً من الرموز الخاصة لتلك القوات وإدارتها الذاتية، وفقاً للاتفاق، وما يعنيه ذلك من حصول قسد على مظلة حماية في مواجهة القوات التركية ومجموعات المرتزقة السوريين الملتحقين بها.
بمحصلة الاتفاق المذكور، ربحت روسيا كل شيء وتلقى تابعها في دمشق جرعة معنويات «انتصارية»، في حين وجدت أنقرة نفسها في عزلة دولية كبيرة. أما قسد فقد خسر مشروع إدارته الذاتية وعاد صاغراً إلى حضن النظام وروسيا بعدما خسر الحضن الأمريكي.
هل يمكن لأنقرة أن تستمر في عمليتها العسكرية ومشروعها الخاص بإسكان قسم من اللاجئين السوريين بعد تغير المزاج الدولي ضدها بصورة حادة؟

مقابل العزلة الدولية، ربح أردوغان «إجماعاً وطنيا» في الداخل بعودة أحزاب المعارضة إلى الاصطفاف وراءه (ما عدا حزب الشعوب الديمقراطي طبعاً). أي أنه تمكن من فرط عقد تحالف معارضيه ضد حكمه

موقف موسكو التي باتت متفردة في التحكم بالتفاعلات السورية، واضح ويتمثل في تلبية الهواجس الأمنية التركية من خلال إعادة تفعيل اتفاق أضنة للعام 1998 الذي يمنح تركيا شريطاً عازلاً بعمق لا يتجاوز 5 كلم. وتتطلب إعادة التفعيل مفاوضات بين أنقرة وحاكم دمشق.
كانت القيادة التركية، إلى ما قبل عمليتها العسكرية الجديدة، تحاول إقامة نوع من التوازن في علاقاتها بين موسكو وواشنطن، على رغم كل التوتر الذي ساد علاقتها مع الثانية. بخروج القوات الأمريكية من شرقي الفرات خسرت تركيا إمكانيات الضغط على موسكو بالاستقواء بالوجود الأمريكي في سوريا، فاختل التوازن وبقيت رهينة القرار الروسي وحده.
«قسد» الخاسر الآخر من الانسحاب الأمريكي، حظى بتعاطف دولي لم يكن يحلم بمثله، من روسيا والولايات المتحدة والدول الأوروبية والجامعة العربية معاً. إلى درجة حصول قائدها مظلوم عبدي على اتصال هاتفي مباشر مع الرئيس الأمريكي الذي قال له: «في هذه الغرفة أشخاص يحبونكم أكثر من حبهم لوطنهم أمريكا». صحيح أن هذا الكلام المعسول لن يعوض ما خسرته قسد وإدارتها الذاتية على الأرض، لكنه يعني أيضاً أن الانسحاب العسكري الأمريكي لن يتبعه تخلٍ سياسي موازٍ، وهو ما يحتمل أن نرى نتائجه في الفترة القريبة القادمة. فمن المحتمل، مثلاً، إدخال ممثلين لحزب الاتحاد الديمقراطي أو «مجلس سوريا الديمقراطية» في ترتيبات الحل السياسي على الطريقة الروسية (اللجنة الدستورية أو غيرها من الأطر) بضغط أمريكي ـ روسي وإذعان تركي بعد معارضة مديدة. ففي قاعدة حميميم الروسية تم الاتفاق بين «قسد» والنظام على الترتيبات العسكرية، مع تأجيل الخوض في الأمور السياسية إلى ما بعد انتهاء العملية العسكرية التركية. لا عودة إلى صيغة «الإدارة الذاتية» والسيطرة العسكرية لقسد في المنطقة، ولا عودة، بالمقابل، إلى سيطرة السلطة المركزية كما كانت الحال قبل 2011. هذا ما يمكن أن تعمل عليه موسكو في الفترة القادمة، وبتفاهم مع واشنطن.
مقابل العزلة الدولية، ربح أردوغان «إجماعاً وطنيا» في الداخل بعودة أحزاب المعارضة إلى الاصطفاف وراءه (ما عدا حزب الشعوب الديمقراطي طبعاً). أي أنه تمكن من فرط عقد تحالف معارضيه ضد حكمه، ذلك التحالف الذي كان ينذر بتطورات خطيرة بشأن مستقبل بقائه في السلطة. وبات من الصعب أن تستعيد أحزاب المعارضة توافقاتها في مواجهة السلطة في الفترة القادمة.
الواقع أن السياسة القومية التي انزلق إليها الحكم، في السنوات القليلة الماضية، لم تكن خياراً إجبارياً. ولا من شأنها أن تخرج تركيا من أزماتها أو تحل مشكلاتها. بل أكثر من ذلك، كان من شأن العودة إلى طريق الحل السلمي للمشكلة الكردية في الداخل أن تجنب تركيا مغامراتها العسكرية غير المحسوبة في سوريا، وألا تخسر حليفها الأمريكي (والأوروبي)، وألا تتحول إلى حليف ضعيف لروسيا.
يوفد ترامب نائبه مايك بنس إلى تركيا في مهمة هي «التشجيع على التفاوض مع جميع القوى في سوريا» حسب تصريح بنس قبيل الزيارة. وهو ما يمكن أن يفهم منه التفاوض مع «قسد» أو حزب الاتحاد الديمقراطي، وفي يد بنس تهديد بالعقوبات هي آخر ما يحتاجه الاقتصاد التركي.

القدس العربي