مقتدى الصدر يقدّم نفسه مجدّدا حلاّ لمشكلة هو جزء منها

مقتدى الصدر يقدّم نفسه مجدّدا حلاّ لمشكلة هو جزء منها

موجة الاحتجاجات العارمة في العراق، والإصرار الشعبي على التمادي فيها رغم القمع الدامي للمحتجّين من قبل القوات النظامية والميليشيات المسلّحة، وضعت نظام الأحزاب الشيعية أمام مأزق غير مسبوق وجعلت سقوطه أمرا مطروحا يعيه القائمون على النظام والمستفيدون منه، والذين شرعوا بالفعل في تنسيق جهودهم لمحاولة إنقاذه.

كربلاء (العراق)- عاد رجل الدين الشيعي العراقي مقتدى الصدر، الثلاثاء، من إيران التي زارها بشكل عاجل لينغمس مباشرة في الاحتجاجات الشعبية وينضمّ إلى آلالاف من المتظاهرين في مدينة النجف جنوبي بغداد، وذلك في محاولة لركوب موجة الغضب الشعبي والتحكّم فيها وتوجيهها نحو أهداف مطلبية آنية بعيدا عن مطلب إسقاط النظام.

ورأى متابعون للشأن العراقي أنّ الرجل بصدد محاولة فرض نفسه مجدّدا كحل لمشكلة هو جزء منها في نظر المحتجّين أنفسهم والذين لم يعودوا يفرّقون بين جميع المشاركين في العملية السياسية بغض النظر عن صفاتهم وأدوارهم ومستوى مشاركتهم في النظام القائم منذ 16 سنة.

وتوقّعت مصادر أن يكون الصدر قد ناقش في طهران خطّة عاجلة لتسلّم زمام قيادة الشارع استعدادا لتولّي زمام السلطة بعد التضحية بحكومة عبدالمهدي.

ومثّلت الأحداث الدامية في مدينة كربلاء ذات القدسية الخاصة لدى الطائفة الشيعية، والقمع الشديد الذي واجهت به السلطات المحتجّين هناك، منعطفا مفصليا في الأحداث الجارية بالعراق، حيث اعتبرت بمثابة “طلاق نهائي” بين النظام القائم في البلد بقيادة الأحزاب الشيعية وما كان يعتبر حاضنة شعبية لذلك النظام.

وقال متابعون لسير الأحداث في العراق إنّ فرضية سقوط حكومة رئيس الوزراء أصبحت مطروحة أكثر من أي وقت مضى، مؤكّدين أن الأولوية الآن هي للتفكير في إنقاذ النظام نفسه من السقوط.

وبرز في هذا السياق، الدور الذي يمكن أن يقوم به الصدر، الذي يحتفظ بقدر من الشعبية قياسا بباقي الرموز الدينيين والسياسيين الذين تورّطوا أكثر منه في تجربة الحكم الفاشلة، كما أنّ له تجربة عملية في ركوب موجات الاحتجاج الشعبي والتحكّم بها وتوجيهها نحو قضايا مطلبية لا تمسّ جوهر النظام.

ووجه الصدر الثلاثاء الدعوة لزعيم ميليشيا بدر هادي العامري الذي يرأس كتلة وازنة في البرلمان للعمل معه بشأن إجراء تصويت في مجلس النواب على سحب الثقة من رئيس الوزراء.

وتوجّه بالخطاب لعبدالمهدي قائلا في بيان “جوابا على كلام الأخ عادل عبدالمهدي كنت أظن أن مطالبتك بالانتخابات المبكرة فيها حفظ لكرامتك. أما إذا رفضت فإنني أدعو الأخ هادي العامري للتعاون من أجل سحب الثقة منك فورا”.

ومع أن السلطات العراقية تعاني تحت ضغط الاحتجاجات منذ مطلع الشهر الجاري في بغداد ومدن ومختلفة، إلا أن ما حدث في كربلاء فجر الثلاثاء زلزل أركان المؤسسة الدينية، التي وفرت الغطاء طيلة أعوام للطبقة السياسية في البلاد.

ولكربلاء خصوصية كبيرة في الوجدان الشيعي، حيث يقع مرقد الإمام الحسين بين علي وأخيه العباس، اللذين يقصدهما الملايين من المسلمين الشيعة من العراق وبلدان أخرى، في مناسبات عديدة خلال العام الواحد، لحضور طقوس ذكرى مقتلهما، لذلك تحرص السلطات على ضمان الهدوء فيها، بوصفها مركز الإشعاع الروحي في أوساط الأغلبية الشيعية العراقية، إذ يعتمد آيات الله ورجال الدين على نفوذهم فيها للسيطرة على المراكز السكانية في أنحاء البلاد.

وبرغم أن كربلاء ليست مقر المرجع الأعلى للشيعة في العراق آية الله علي السيستاني، إلا أن جميع خطبه وبياناته وفتاواه تعلن من خلال منبري مرقدي الحسين والعباس أسبوعيا، في دلالة على خصوصيتها وتأثيرها الروحي الكبير.

وكانت كربلاء التحقت بحركة الاحتجاج التي بدأت في بغداد مبكرا، لكن تظاهراتها كانت نهارية على الدوام، واتسمت بالهدوء والتنظيم العالي، لكن الوضع تغير مساء الاثنين، عندما اتخذت القوات الأمنية قرارا بفض الاحتجاجات المتمركزة في تقاطع مديرية التربية، وسط المدينة.

وقال نشطاء من كربلاء لـ”العرب”، إن قوات الأمن بدأت عملية محاصرة التقاطع المذكور واستخدمت في بادئ الأمر الهراوات لتفريق المتظاهرين، وعندما فشلت العملية لجأت إلى استخدام قنابل الغاز المسيل للدموع، حتى تطور الأمر إلى استخدام الرصاص الحي. وتضاربت الأنباء بشأن عدد الضحايا الذين سقطوا في تلك الأحداث، حيث سرعان ما تراجعت مفوضية حقوق الإنسان بالعراق عن حصيلة سابقة ذكرت فيها مقتل 18 شخصا ليلة الإثنين في كربلاء، مؤكدة مقتل شخص واحد وإصابة 192 آخرين.

واعتبر مراقبون وصول الحركة الاحتجاجية إلى هذا المستوى من الغضب في كربلاء، دليلا على التمرد الشيعي ضد المؤسسة الدينية، التي تستمد العملية السياسية في العراق شرعيتها منها.

وتميزت موجة احتجاجات أكتوبر 2019، بتحريك الوضع النقابي الراكد منذ عقود، إذ اندفعت نقابات المعلمين والمحامين والصيادلة إلى التضامن مع المتظاهرين.

وقالت مصادر سياسية في بغداد لـ”العرب” إن الحكومة هددت نقيب المعلمين العراقيين بإجراءات عقابية شديدة إذا أصر على المضي في قرار الإضراب الذي اتخذه، حتى نهاية الأسبوع الجاري.

وبرغم أن مجتمع المعلمين في العراق يخضع لسلطة الحكومة بموجب قانون العمل النافذ، ما يحد من تأثير القرارات النقابية عليه، إلا أن حالات عديدة في بغداد والمحافظات أكدت خروج هيئات تدريسية كاملة على موقف السلطات الحاكمة، من خلال السماح للطلبة بالمشاركة في الحركة الاحتجاجية.

لكن السلطات الأمنية لجأت إلى أسلوب غريب في بغداد، بهدف التحكم بمسارات الطلبة ومنعهم من الوصول إلى ساحة الاحتجاج، إذ نشرت نقاط تفتيش في العديد من الطرق الرئيسية المؤدية إلى المركز، لتفتيش المركبات وإنزال الطلبة منها، والطلب منهم أن يعودوا إلى مدارسهم وجامعاتهم أو بيوتهم.

سياسيا، خرج رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي من صمته الذي استمر أياما، في مواجهة ضغوط كبيرة يمارسها زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر الذي يطالب بالاستجابة لمطالب المتظاهرين.

ووجه عبدالمهدي رسالة مكتوبة إلى الصدر، خلاصتها أن الحل الأمثل هو بقاء الوضع السياسي على ما هو عليه، متذرعا بصعوبة إيجاد البديل.

وقال عبدالمهدي مخاطبا الصدر “طالبتني بالذهاب إلى مجلس النواب والإعلان من تحت قبته عن انتخابات مبكرة تحت إشراف الأمم المتحدة و(تشكيل) مفوضية (انتخابات) جديدة”، معتبرا أن “من حق أي قائد وأي مواطن أن يطالب رئيس الوزراء بما يراه مصلحة وطنية وقد يكون المقترح المقدم أحد المخارج للأزمة الراهنة”.

زعيم التيار الصدري يدعو قائد ميليشيا بدر للتعاون معه في إجراء تصويت بالبرلمان على سحب الثقة من رئيس الوزراء

ويرى عبدالمهدي أن الانتخابات المبكرة التي يدعو لها الصدر يمكن أن تأتي بنتائج حاسمة “وبالتالي يمكن تشكيل حكومة أغلبية سياسية واضحة تتمتع بدعم برلماني واضح، فيما قد يساهم الحراك الشعبي نتيجة التظاهرات الأخيرة في مشاركة واسعة من الشباب في الانتخابات القادمة وقد تقود التعديلات الدستورية والإصلاحات المطروحة لتغيير كامل المناخ السياسي في البلاد ويحدث تجديد في القوى السياسية الحاملة لمشروع المرحلة المقبلة”.

لكنه قال إن “هناك خطوات أستطيع أنا القيام بها وأخرى تتعلق بأطراف أخرى، كذلك هناك تحفظات على اختيار هذا المخرج للأزمة”.

وبدا أن عبدالمهدي يحاول إحراج الصدر، عندما قال “إذا كان هدف الانتخابات تغيير الحكومة فهناك طريق أكثر اختصارا وهو أن يتفق سماحتكم مع الأخ هادي العامري (زعيم ميليشيا بدر الذي يقود تحالف الفتح الممثل السياسي للحشد الشعبي) لتشكيل حكومة جديدة”.

وقال مراقبون إن محاولة عبدالمهدي تلافي أي انتخابات مبكرة، تعكس الانهيار الكبير في شعبية الأحزاب الشيعية الموالية لطهران، ما يهدد بفقدان الهيمنة الإيرانية على الشأن العراقي، في لحظة فارقة.

وعن مطالبة الصدر بعدم مشاركة الأحزاب الحالية في الانتخابات الجديدة إلا من ارتضاه الشعب، قال عبدالمهدي إن “الأحزاب السياسية قد تخلفت عن فهم المعادلات الجديدة فلم تقم بواجبها، كما تخلفت عن ذلك الدولة، فنزل الشعب إلى الشوارع يعبر عن رأيه. وهذه نتيجة اجتماعية سياسية تمر بها كل التجارب والأمم”. وتابع “لكن
من سيعرف الأحزاب التي يرتضيها الشعب.

وأسهب عبدالمهدي في استعراض وقائع تاريخية تتعلق بتجارب الأمم والشعوب، لكنه بدا في النهاية متمسكا بموقعه، وفقا لمراقبين قالوا إن رئيس الوزراء يستغل حالة الانغلاق السياسي وتعقيدات آلية تغيير الدستور للبقاء في المنصب أطول مدة ممكنة.

العرب