أسئلة على هامش مقتل البغدادي

أسئلة على هامش مقتل البغدادي

أسدِل الستار مؤخرا على حقبة قيادة أبو بكر البغدادي لتنظيم “الدولة الإسلامية”، وذلك ليلة الأحد (27 أكتوبر/تشرين أول 2019) بغارة جوية أميركية شاركت فيها مقاتلات حربية وطائرات مسيرة مفاجئة، وقتلت خلالها قوةٌ أميركية خاصة البغدادي في محافظة إدلب شمال غربي سوريا. وقد أثيرت جملة من الأسئلة منها: ماذا يشكل مقتل البغدادي؟

يشكّل مقتل البغدادي نهاية مرحلة كانت من أهم علاماتها صعوده في 4 تموز/يوليو 2014 منبر الجامع النوري العتيق في الموصل لإعلان «دولة الخلافة»، وسجّل عام 2016 ذروة نفوذه حيث حكم التنظيم مساحة شاسعة من العراق وسوريا، كما أعلن أفراد يستلهمون أفكاره عشرات المدن في العالم، وصولا إلى دحر التنظيم في جميع أماكن وجوده، وانتهاء زعيمه مطاردا ومختبئا في قرية صغيرة تدعى باريشا في محافظة إدلب السورية.

لا يمكن فهم مسار حياة البغدادي، من دون الانتباه إلى علاقتها بالاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، وتأثيره في انضمامه لحركة سلفية لمقاومتهم، والقبض عليه ثم إطلاق سراحه، مرورا بالكوارث الرهيبة التي جرت في العراق بعد ذلك، وبتأسيس تنظيم «الدولة»، وصولاً إلى مقتله السبت الماضي. البغدادي، بهذا المعنى، هو أحد «منتجات» الاجتياح الأمريكي للعراق. إنه المسخ الذي قام الأمريكيون بتأسيس ظروف نشوئه، وتكفّلت الدولة العراقية الهجينة بتوفير أسباب أخرى لإطلاقه.
بين «النواتج» الأخرى التي أطلقها الاحتلال الأمريكي للعراق كانت سيطرة إيران على البلاد، وساهم ظهور تنظيم داعش والبغدادي، بفتوى السيستاني الشهيرة لتحشيد الشيعة ضد التنظيم السلفيّ السنّي بعد أن رفضت إيران تنفيذ مهمة محاربة التنظيم في العراق بناء على طلب الأمريكيين وأدّى ذلك إلى ظهور ما يسمى بـ«الحشد الشعبي»، فيما وظّف الأمريكيون قيادة حزب العمال الكردستاني، المقيمة في جبال قنديل العراقية، لتحشيد الأكراد للقضاء على القسم السوري من تنظيم «الدولة». ضمن هذا السياق، يبدو مقتل البغدادي، متناسقا مع قرار ترامب بوقف الدعم عن الأكراد في سوريا وسحبهم من حدود تركيا، فالوظيفة قد انتهت وصار يجب الانتهاء من تكاليفها، أما في العراق فتظهر مقاومة ميليشيات لحقيقة انتهاء وظيفتها بالفجور الوحشيّ ضد المتظاهرين العراقيين. والسؤال الذي يطرح في هذا السياق : هل زال خطر داعش الإرهابي؟

يؤكد محللون وخبراء عسكريون أن القضاء على “الخلافة” لا يعني أن خطر “المنظمة” قد زال؛ فالإعلان عن هزيمة التنظيم، ينطوي على خلط بين الهزيمة المتحققة للمشروع السياسي للتنظيم كدولة “خلافة” تفرض سيطرتها على مساحات جغرافية واسعة وتقيم حكامتها على عدة ملايين من السكان، وبين حالة المنظمة التي تعمل بطريقة مختلفة، وبهذا لم يهزم تنظيم “الدولة الإسلامية” كمنظمة.

فحسب تقرير معهد “دراسات الحرب” في واشنطن، بعنوان “عودة داعش الثانية: تقييم تمرد داعش المقبل” الصادر نهاية يونيو/حزيران 2019، فإن تنظيم داعش اليوم أقوى مما كان عليه إبان حقبة “دولة العراق الإسلامية” التي ورثت “القاعدة في بلاد الرافدين”، فعندما انسحبت أميركا من العراق عام 2011 كان لدى التنظيم في العراق حوالي 700 إلى 1000 مقاتل، بينما بلغ عدد مقاتليه بالعراق وسوريا في أغسطس/آب 2018 -وفقًا لتقديرات وكالة الاستخبارات العسكرية- 30 ألف مقاتل.

وقد استطاع “تنظيم الدولة” تأسيس جيش كبير مكنه من استعادة الفلوجة والموصل ومدن أخرى في العراق، والسيطرة على معظم شرق سوريا خلال ثلاث سنوات فقط، وسوف يتعافى التنظيم بشكل أسرع بكثير مما حدث في العودة الأولى، وسيصل إلى مستوى أكثر خطورة من القوة في ولادته الثانية.

إذا كان أبو بكر البغدادي قد ورث منظمة ضعيفة وهشة من سلفه أبو عمر البغدادي، فإنه سيوّرث خلَفه منظمة متماسكة هيكليا وممتدة جغرافيا؛ فقبل مقتله ظهر في شريط مصور يوم 29 أبريل/نيسان 2019 بعنوان “في ضيافة أمير المؤمنين”، مدشنا بذلك عودة مرتقبة للتنظيم بعد اكتمال عملية إعادة الهيكلة التنظيمية العسكرية والأمنية والإدارية والمالية والشرعية والإعلامية، وإقرار الخطط العسكرية لاستئناف “حرب استنزاف”.

وقد تم استعراض “تقارير شهرية” عن فروع التنظيم وعددها 12 ولاية، وأعلن التنظيم وجوده رسميا في العراق وسوريا وليبيا ومصر واليمن والسعودية والجزائر، وفي خراسان (منطقة أفغانستان وباكستان) و”القوقاز” و”شرق آسيا” وينشط غالبا في الفلبين والصومال، وفي “غرب أفريقيا” وينشط غالبا في نيجيريا.

تُظهر البيانات التي جمعها قسم المتابعة الإعلامية في “بي بي سي”، أنه رغم خسارة التنظيم للكثير من الأراضي التي كان يسيطر عليها في سوريا والعراق بنهاية عام 2017؛ فإنه كان وراء 3670 هجوما في العالم خلال عام 2018 (حوالي 11 هجوما يوميا)، هذا بالإضافة إلى 502 هجوم في أول شهرين من 2019 أثناء حصار الباغوز.

ورغم ذلك؛ لا يزال التنظيم مقتصدا في تكتيكاته المفضلة ممثلة بالعمليات الانتحارية والانغماسية المتنوعة والمركبة، وقد اعتمد -منذ 31 مايو/أيار 2019- على تكتيكات جديدة في إطار “حرب الاستنزاف”، تقوم على مبدأ أطلق عليه “إسقاط المدن مؤقتا كأسلوب عمل للمجاهدين”، وقد نشرت صحيفة “النبأ” التابعة له سلسلة من أربعة أجزاء لشرح التكتيك الجديد، حيث دعا التنظيم مقاتليه إلى تجنب الاشتباكات المباشرة مع العدو.

والسؤال الذي يطرح في هذا السياق : ما العمل كي لا تتكرر نسخة البغدادي؟ لا بد أن نتذكر أن «داعش» تمكن من الولادة حين تصدعت دول وتمزقت اللحمة في مجتمعات. ولد في ظل كراهيات الغلبة والإحباط والتهميش ومحاولات الاستئثار وشطب الآخر واغتيال الملامح. لنتذكر أن «داعش» ولد في العراق المتصدع. وفي سوريا المتصدعة. ولد وسط الكراهيات المذهبية. وأنه عثر على فرصته حين ساد منطق الاستباحة، وحين فتحت أبواب الحدود التركية على مصراعيها للمقاتلين الجوالين ليدخلوا سوريا ويخوضوا في دم انتفاضتها وشعبها.
كي لا نقعَ في بغدادي آخر لا حل إلا بناء الدولة العصرية التي تتسع لكل مكوناتها. لا حل إلا بمناهج وبرامج تفتح النوافذ على العالم وتشجع على التعايش وقبول حق الاختلاف. لا حل إلا بإعادة الأمل بالمستقبل والاستقرار والازدهار وحماية الشباب من «داعش» وكل تعصب يرمي إلى شطب من لا يشاطره القراءة القاتمة للعالم.

أن مقتل البغدادي يشكل ضربة لتنظيم «داعش» ولا شك في ذلك، لكن هذه الضربة ليست بالأهمية التي تحاول الإدارة الأمريكية أن تصورها للناخبين وللعالم، كما أن سقوط البغدادي ليس معناه بالمطلق أن الإرهاب سيتبدد ويتلاشى، وإنما الحقيقة أن محاربة الإرهاب لا تستدعي اصطياد رؤوسه فقط، وإنما يحتاج الى تجفيف الأسباب التي تغذيه، وتعزز وجوده في العالم، ومن المعروف طبعاً أن أبرز أسباب الإرهاب والعنف في هذه المنطقة هو غياب الديمقراطية والحريات، وتفشي الأنظمة القمعية التي ترتكب الجرائم اليومية بحق شعوبها المقهورة.
محاربة الإرهاب حقاً تستدعي وقف الدعم لأنظمة القمع والقهر والفساد، التي تمارس العنف والارهاب الحقيقي ضد شعوبها، وتحرمهم من المشاركة السياسية، وتزور الانتخابات وتسرق ثروات البلاد والعباد، وفي الوقت نفسه تتلقى الدعم من الولايات المتحدة، أما عملية قتل البغدادي فلا تزيد عن كونها مجرد استعراض إعلامي يقوم به الرئيس الأمريكي لأغراض انتخابية.

وحدة الدراسات الأمنية

مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية