ردود كردية إقليمية على سياسة الولايات المتحدة في سوريا

ردود كردية إقليمية على سياسة الولايات المتحدة في سوريا

في عام 2015 – خلال المنتدى السنوي في الجامعة الأمريكية في السليمانية بكردستان العراق – تسنّى لي أن أطلب من المبعوث الرئاسي الأمريكي الخاص للشرق الأوسط السابق بريت ماكغوريك أن “يُخبر أصدقاءنا في الإدارة بعدم إرباكنا [الأكراد] بالسياسات الخارجية الأمريكية المتضاربة المتّبعة كل أربع سنوات”. إذ شرحت له، أننا كشعب كردي “مرتبكون أصلاً بسبب الصراعات والنزاعات التاريخية والسياسية في المنطقة!”. ولكنّ ميل السياسة الأمريكية إلى خوض تحولات سريعة بل وحتى انتكاساتٍ بعد كل دورة انتخابات ساهم مرارًا وتكرارًا في إحداث تحديات هائلة على أرض الواقع. إنّ مثل هذه السياسات، التي تكتب من المنطقة، لا تضفي المصداقية على أي من الطرفين أثناء وجوده في المنصب، بل تقوّض بسرعة الثقة مع الجماعات التي تأمل الولايات المتحدة أن تعمل معها.

ومع فشل الإدارات الأمريكية المتعاقبة في اتّباع هذه النصيحة، فإن التحولات السريعة في السياسة الأمريكية كان لها تأثير خاص على حياة الشعب الكردي في مختلف أنحاء المنطقة، ولا سيّما بالنسبة للحلفاء الأمريكيين في العراق أو سوريا. وقد طُلب من هؤلاء الأكراد مرارًا وتكرارًا تقديم تضحيات كبيرة من أجل المصالح الأمريكيّة، فقط لمواجهة انتكاسات غير متوقّعة للسياسة الأمريكية ودفع ثمن غير منظور.

وفي التحول السياسي الأخير، توقّع الأكراد أن تدعمهم سياسة الولايات المتحدة الإقليمية لقاء الأحد عشر ألف كردي سوري الذين استشهدوا دفاعًا عن أراضيهم، وحياتهم، ولتعزيز استقرار المنطقة. وعملت القيادة الكردية السورية على أمل أن تصادق الولايات المتحدة على الحقوق السياسية للشعب الكردي وتحمي كرامته. إنّ قبور هؤلاء الشهداء تشكل دليلاً واضحًا على أن الأكراد السوريين العاديين عملوا أيضًا على أساس أنهم كانوا يضحون بحياتهم من أجل الحفاظ على استقرار المنطقة باعتبارها عنصرًا راسخًا يمكن الاعتماد عليه في الاستراتيجية الإقليمية للولايات المتحدة.

ولكن من المؤسف أن الوضع الحالي في سوريا لم يؤد إلى التخلي عن عضو في قوات التحالف الذي قاتل تنظيم “داعش” بنشاط على الأرض وخيانته فحسب، بل لقد تصرّفت إدارة ترامب بعكس التعهدات التي قطعتها على الشعب الأمريكي وقوات التحالف – بما في ذلك الشعب الكردي في روج آفا – في ما يتعلق بجهودها الرامية إلى إلحاق الهزيمة بتنظيم “داعش”. وكما أظهر الدور الكبير الذي لعبته في اغتيال زعيم تنظيم “الدولة الإسلامية” البغدادي، فإن قوات الدفاع السورية ذات الأغلبية الكردية تُعتبر عاملاً رئيسيًا في استمرار تدمير تلك المنظمة في سوريا.

فضلاً عن ذلك فإن عكس مسار السياسة الأمريكية في سوريا مؤخرًا يخلّف تأثيرات مباشرة على بنية شرق سوريا بحد ذاتها. فرغم نزوح الملايين من اللاجئين من سوريا لسنوات، فإن الارتفاع الهائل الذي سجله اللاجئون السوريون الأكراد من روج آفا يضيف مأساة أخرى إلى النزوح السوري يمكن تفاديها. تجدر الإشارة إلى إنّ هذه الهجرة الجديدة ليست عَرَضية أبدًا. كما يبدو أنّ العملية التركية الحالية مصمّمة بوضوح لتغيير التركيبة الديموغرافية للمنطقة الكردية في سوريا، حتى أنها أعلنت صراحة عن خطة لتوطين الملايين من اللاجئين المقيمين حاليًا في تركيا في المناطق الكردية السورية على طول الحدود التركية. وبينما يشير الإعلان الأخير عن استئناف الدوريات الأمريكيّة على طول الحدود إلى حدوث تحوّل آخر في سوريا، فإن هذه الدوريات لا تكفي لحل التهديد الأوسع الذي يواجه الأكراد السوريّين، وقد تؤدي إلى تفاقم الصراع.

ومع ثقل هذه التأثيرات الذي يقع على كاهل الأكراد السوريين على الأرض، فمن المهم إدراك الإرث الذي ستخلّفه هذه الواقعة في أذهان الشعب الكردي. فالسياسة المشوّشة التي تنتهجها الولايات المتحدة في سوريا وعواقبها المأساوية على الأكراد في سوريا تكفل إلحاق الضرر الشديد بمصداقية أي حكومة أمريكية تأمل في بناء تحالفات مستقبلية في المنطقة.هذه ليست المرة الأولى التي يشعر فيها الشعب الكردي بالخيانة من قِبَل الحكومة الأمريكية جرّاء قيامها بتغيير سياستها في سوريا. تجدر الإشارة إلى أن الولايات المتحدة كانت في البداية تدعم بقوة الثورة الكردية ضد صدام حسين في عام 1974، لتتخلى عن الحركة وتخذلها بعد التوصل إلى اتفاق سياسي مناسب مع الاتحاد السوفييتي السابق والشاه الإيراني.

وفي حين أن هذا التراجع والتراجعات الأخرى في تأييد الاستقلال الكردي العراقي قد ترسخت في أذهان الشعب الكردي، فمن المهم أن ندرك أن الخيانة الأخيرة للأكراد السوريين ليست كمثل الحالات السابقة. إذ يفهم الكثير من الأكراد أن هذه الأمثلة السابقة كانت انعكاسًا ونتيجةً للصراعات بين الدول القومية وظهور حركات سياسية قومية في المنطقة تهدد المصالح الأمريكية. أمّا الدوافع إلى التراجع في سوريا فليست واضحة المعالم أبدًا، بل إنها أشد إيلامًا نظرًا لعدم توفر حافز واضح.

كما وتبرز هذه الخيانة الأخيرة من ناحية أخرى: ففي الماضي كانت انعكاسات السياسة الأمريكية بشأن الأكراد محفّزة بقرارات اتُخذت خارج البيت الأبيض أو من خلال انعكاسات كبرى في استراتيجيات القوى الإقليمية. وفي الحالة السورية، من الواضح أنّ إدارة ترامب ذاتها كانت متورطة بشكل مباشر وشفاف في تنسيق مثل هذا التراجع في دعم حلفائها الأكراد، ما يشوه سمعة المؤسسة نفسها في نظر الكثير من الأكراد.

يتعين على الولايات المتحدة أن تدرك الضرر الحقيقي والدائم الذي قد تحدثه مثل هذه الانعكاسات على علاقاتها مع حلفائها الإقليميين. والواقع أنّ مثل هذه الأخطاء الجسيمة في إدارة العملية الطويلة والصعبة المتمثلة في تحقيق الاستقرار في سوريا تشكّل عقبة أمام عملية إعادة التوطين والجهود الرامية إلى التوفيق بين المجتمعات المختلفة في البلاد. وبالنسبة للولايات المتحدة، يجب أن تكون حماية أرواح الناس ركيزة أساسية لفهم الحقوق السياسية المشروعة للسوريين.

وما يتعين على الولايات المتحدة أن تفهمه أيضًا هو التأثير الذي يخلّفه الإضرار بالتقدير الذي لطالما شعر به الكثير من الأكراد في مختلف أنحاء الشرق الأوسط تجاه البلاد. وفي حين أن أولئك البعيدين عن النزاع قد يدافعون عن التخلي عن حلفاء الولايات المتحدة على أساس أن كل دولة فيها سكان أكراد تُعد منفصلة ولها سيادتها الخاصة، فمن غير المرجح أن يتردد صدى هذا المنطق.

إنّ الشرق الأوسط منطقة حيث يمكن أن يكون للخطر الذي يهدد استقرار وأمن إقليم ما تأثيرات متعاقبة. وفي هذا الإطار، يخشى الكثير من الأكراد غير السوريين من أن يكون لهذا الحدث آثار مدمرة دائمة على الأكراد كشعب. إذ يُنظر إلى الهجمات في سوريا على نطاق واسع باعتبارها تهديدًا حقيقيًا للوجود الكردي ونذيرًا محتملاً بإبادة جماعية أخرى. فإن الرغبة التركية في تدمير إدارة الحكم الذاتي التي تم إنشاؤها في روج آفا – والتي كانت تدير الموارد المحلية، بما في ذلك النفط، بينما تدافع عن المنطقة – واضحة، لا سيّما بالنظر إلى إصرار تركيا على اعتبار “وحدات حماية الشعب” الكردية السورية مرادفًا وجزءًا لا يتجزأ من منظمة “حزب العمال الكردستاني” المصنّفة من قبل تركيا على أنها إرهابية. ويرى عدد كبير من الأكراد أن تركيا تعمل وفقًا لعقيدة مفادها أنّ النجاح في روج آفا ربما كان ليشجع مجتمعاتها الكردية على المطالبة بحقوقها السياسية في جنوب شرق تركيا.

في سياق دولي، يمكن الشعور بأن الأكراد يعاقبون باستمرار بل ويتم لومهم لعدم وجود تمثيل سياسي مناسب من أجل الدعوة لمناهضة مثل هذه الحالات. ولكن حتى لو لم يتمكن الممثلون السياسيون الأكراد من تحقيق الحكم الذاتي السياسي الفعلي إلا في بعض أجزاء المنطقة، لا ينبغي لهذا الواقع المؤسف أن يحرم الأمّة من حقوقها السياسية الأساسية ومن فرصة تطوير النطاق المطلوب للتمثيل السياسي الذي عملت من أجل تحقيقه منذ أكثر من قرن.

وعلى الرغم من كل هذه التحديات، يتوفر بديل للموقف الحالي في سوريا قادر على الحد من الضرر الناجم عن تقلّبات الإدارة الأمريكية في سوريا. فإن الهدف الاستراتيجي الأساسي الذي ينبغي أن يظل بوضوح الشغل الشاغل لجميع الأطراف يكمن في وضع خارطة طريق واضحة لمستقبل شمال شرق سوريا تهدف إلى تحقيق السلام بين جميع الأطراف المعنية. ومن الضروري إدراج الشعب الكردي في هذه الحسابات، هذا وينبغي الاعتراف رسميًا بالحقوق السياسية للشعب الكردي. فإنّ التفاوض المباشر مع الشعب الكردي ومشاركته الحقيقية هو السبيل الصحيح الوحيد لحل الصراع، سواء من منظور حقوق الإنسان أو بسبب التضحيات الكبرى التي قدمها الأكراد السوريون لحماية المنطقة والكفاح ضد تنظيم “الدولة الإسلامية”. وفي الواقع، يتمتّع الأكراد السوريون بتمثيل سياسي، ويجب أيضًا إشراك قوات سوريا الديمقراطية. وكما هو الحال مع أي صراع، يجب تطبيق القواعد والإجراءات القانونية الدولية على شمال شرق سوريا، ويجب إجراء المفاوضات من خلال أطراف ثالثة، مثل الأمم المتحدة، والولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والممثلين الرسميين للحكومات الإقليمية.

هذه هي الطريقة المناسبة الوحيدة لحل هذا الصراع. ويتعين على الأطراف المعنية كافة، وبصورة خاصة تركيا، الاتفاق على التفاهم المتبادل مع الممثلين الفعليين للشعب الكردي في المنطقة، حتى يتوفر نوع من الاستقرار في هذه المنطقة من سوريا. وإذا لم تحدث مثل هذه العملية، فإن العملية العسكرية التركية الحالية ضد الشعب الكردي على الحدود السورية التركية سوف تترك بلا أدنى شك تأثيرًا سلبيًا دائمًا، إنّما ليس على الأكراد السوريين فحسب، بل على كل المجتمعات الكردية التي تعيش في بلدان الشرق الأوسط الأخرى.