فرص خطة العراق لتمويل المشاريع الصغيرة

فرص خطة العراق لتمويل المشاريع الصغيرة

NB-11994-635306597536377124

بعد مطالبات متكررة من جهات اقتصادية عديدة بضرورة استغلال المصرف المركزي العراقي احتياطاته النقدية الكبيرة لدعم اقتصاد بلاده وتقديم التمويل إلى القطاع الخاص، خصوصاً المشاريع الصغيرة والمتوسطة، أطلقت الحكومة العراقية أخيراً خطة ذات مسارين، الأول، لدعم القطاع الخاص، والثاني، لدعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة.

وسيموَّل مسارا الخطة من قرض حدده المصرف المركزي العراقي بخمسة بلايين دولار، وخصص مبلغ تريليون دينار أو 800 مليون دولار منها كدفعة أولى. وستؤتمَن المصارف الخاصة على تقديم القروض لهذه المشاريع. ورحبت جهات متعددة في العراق بهذه الخطوة، خصوصاً المصارف الخاصة التي ترى في الخطوة دوراً جديداً لها سيطغى على موجة الاتهامات الموجهة إليها بتبييض الأموال وتهريبها.

يشار إلى أن مطالبة المصرف المركزي بالاهتمام بتمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة ليست جديدة، وإنما تعود إلى حزيران (يونيو) 2013، عندما نُظَّم أول مؤتمر للتمويل الصغير في بغداد حضره المصرف المركزي العراقي والبنك الدولي والمصارف العراقية الخاصة والمنظمات الدولية للتمويل الصغير وشبكة التمويل في العراق ووزارة المال وخبراء. وطالب رئيس رابطة المصارف الخاصة رئيس شبكة التمويل الصغير الحكومة العراقية والمصرف المركزي بتوفير التمويل اللازم للمشاريع الصغيرة والمتوسطة. وطالب صندوق النقد الدولي في تقريره السنوي في آذار (مارس) 2013 المصرف المركزي العراقي باتخاذ إجراءات وآليات جديدة لدعم النظام المصرفي في العراق.

معروف أن الدول المتقدمة والعديد من الدول النامية كالصين وتركيا وماليزيا والفيليبين والهند والبرازيل وغيرها تمكنت من إيجاد صناعات صغيرة ومتوسطة ناجحة ومستدامة ساهمت في تقدمها الاقتصادي وفي إيجاد فرص عمل وفي احتلالها الأسواق العالمية من خلال جودة الإنتاج والالتزام بالمواصفات العالمية والعقود والاتفاقات المبرمة. وما تجربة «نمور آسيا» و «النمور الأناضولية» في تركيا إلا نموذجاً بارزاً لنجاح المشاريع الصغيرة والمتوسطة. ولم تنجح دول نامية أخرى في إيجاد تجربة ناجحة في هذا المجال. فهل كان التمويل عامل النجاح في الأولى، وفقدانه أو قلته سبب الفشل في الثانية؟

قبل التمويل، على الدولة أن تتبنى استراتيجية واضحة الأهداف والآليات تسعى إلى إيجاد قطاع مستدام للصناعات الصغيرة والمتوسطة وتطويره ليكون منتجاً وقادراً على إيجاد فرص عمل حقيقية. ومن هذه الآليات تبني سياسات إنمائية واقتصادية وتجارية ومالية ونقدية داعمة لهذه الصناعات وغير مناهضة لها. وعندما لا يكون الاهتمام بتطوير الصناعات الصغيرة والمتوسطة في صلب أهداف السياسة الاقتصادية الكلية وطموحاتها، لا يكون الحديث عن تطويرها إلا نوعاً من الدعاية الإعلامية. وفي هذه الحالة لا يكون نقص التمويل هو المشكلة الحقيقية أمام نشوء هذا القطاع وازدهاره وإنما عدم القدرة على إيجاد المناخ المناسب. وحينها تنشأ صناعات صغيرة تحمل في الغالب بذور فشلها مع ميلادها لأنها لا تملك مقومات النجاح والاستدامة. فهي لا تتكامل في إنتاجها وتسويقها مع منتجات أخرى، كما هي الحال في الدول التي خاضت تجارب ناجحة.

ومن شروط النجاح التأسيس وفق دراسات جدوى تقوّم إمكانية نشوء المشروع واستدامته والحاجة إلى وجوده وعدد الصناعات المنافسة وفرص التسويق المتاحة. ويجب تدريب الأفراد، خصوصاً الشباب، ضمن برامج متكاملة على كيفية البدء بمشروع صغير أو متوسط توجد حاجة فعلية إليه ويمكن استمراره. لذلك عندما تبدأ الدولة بتوفير التمويل من خلال الاقتراض من المصارف قبل إيجاد مقومات المناخ المناسب الأخرى، لا تلبث هذه المشاريع أن تفشل وينتهي أصحابها إلى السجن لعجزهم عن تسديد القروض، وهي حالات معروفة وموثقة في العديد من الدول النامية حيث تؤدي العلاقات الشخصية دوراً مهماً في منح القروض المصرفية.

وفي حالات أخرى قد تعلن الدولة اهتمامها بتطوير الصناعات الصغيرة والمتوسطة لكنها تمارس سياسات نقدية متشددة لا تلتزم التوزيع الجغرافي لقروض ولا تعطي أولوية التسليف إلى النشاطات الإنتاجية. وقد تتبنى الدول سياسات تجارية قائمة على فتح الاستيراد من كل المصادر، الأمر الذي يقضي على فرص تسويق منتجات هذه المشاريع. وقد تحابي إجراءات الاستيراد والتخليص الجمركي وتسهيل المعاملات التجارية الشركات الكبيرة ذات القدرات المالية العالية، بينما لا تعتبر الشركات الصغيرة والمتوسطة مؤهلة لمعاملة تفضيلية في هذا المجال. وبعد توافر مقومات هذا المناخ، يأتي توفير التمويل بأسعار معقولة للفائدة ليكون اللبنة التي تكمل الجهود الأولية وتفسح المجال لجعل هذه المشاريع حقيقة واقعة.

إن الاستثمار، خصوصاً للمرة الأولى، حتى ولو بمبالغ متواضعة، يتطلب قبل كل شيء استقراراً أمنياً ومناخاً عاماً مواتياً وهي شروط غير متوافرة حالياً في العراق. هناك مساحات لا يستهان بها خارج سيطرة الدولة وثلاثة ملايين مهجر من المحافظات الشمالية والغربية والوضع الأمني العام هش ولا يمكن التعويل عليه. كما أن الحكومات العراقية المتعاقبة، منذ الاحتلال في 2003، لم تتبنَ سياسات اقتصادية كلية محابية للقطاعات الإنتاجية، خصوصاً الصناعة والزراعة اللتين لا تعانيان فقط إهمالاً كبيراً، وإنما قتلاً متعمداً من خلال تبني سياسة الباب المفتوح أمام الاستيراد من كل المنافذ. أضف إلى ذلك أن قطاع الصناعة التحويلية الخاص مشلول تماماً، فمئات المشاريع متوقفة عن العمل وتقيم غالبية الصناعيين العراقيين في الخارج.

من ذلك يمكن الاستنتاج أن توفير التمويل من دون توفير المقومات الأخرى أولاً لن يجدي نفعاً وإنما هو إهدار لأموال كان يمكن الاستفادة منها في مجالات أخرى. وهنا أشارك عضواً في لجنة الاقتصاد والاستثمار النيابية قلقها من أن يصبح التعامل مع قروض المشاريع الصغيرة والمتوسطة كحال القروض السابقة التي خصِّصت لدعم الزراعة والصناعة والعاطلين عن العمل لكنها منِحت إلى جهات أخرى واستفاد منها تجار ومضاربون بالعملة.

ذكاء مخلص الخالدي

الحياة