المرأة العراقية: «نازلة آخذ حقي»

المرأة العراقية: «نازلة آخذ حقي»

بعد سنوات من التغييب القسري، خرجت المرأة العراقية الى الشارع منتفضة بجانب الرجل. أجاب خروجها على سؤال ملح طالما طرحه متابعو المظاهرات والاعتصامات التي تغطي شوارع المدن وساحاتها منذ الغزو الانكلو – أمريكي وما تلاه من انتهاكات وجرائم. كان السؤال: اين هي المرأة العراقية؟ متضمنا سردية إنجازاتها، وهي المعروفة بنضالاتها التاريخية والمعاصرة؟ لماذا الغياب والبلد المحتل بأمس الحاجة الى صوتها؟ كيف تسكت من ساهمت ببناء العراق منذ عشرينيات القرن الماضي، وهي الرائدة في مجال التعليم، والأدب، والنشاط السياسي، والدفاع عن الوطن ضد الاستعمار والظلم والقمع؟
أثار خروج المرأة الى ساحات مدنها وهي تصدح «نازلة آخذ حقي»، اهتماما بالغ الأهمية في داخل العراق وخارجه. فالمرأة التي تتمتع بحرية الحركة في الفضاء العام هي المؤشر الحضاري لأهل البلد، بعيدا عن المتاجرة بحضورها من قبل الأنظمة القمعية.
نساء وفتيات من مختلف الأعمار، من مختلف المهن، خريجات وطالبات، ربات بيوت وعاملات، يشاركن، يوميا، في مظاهرات واعتصامات بشكل لم يشهدها العراق المحتل سابقا. في كل المظاهرات السابقة، منذ الاحتلال ثم في أعوام 2011 و2015 و2018، كان هناك، دائما، عدد لا يزيد على أصابع اليد الواحدة، من ناشطات المجتمع المدني، أو أمهات وزوجات المعتقلين، يقفن أمام معسكرات الاعتقال او المراكز الأمنية، أملا في أن يسمعن خبرا عن أحبائهن، مخاطرات بتعريض أنفسهن للامتهان والاذلال.
أما الآن وخاصة منذ 25 تشرين/ أكتوبر، فقد بات حضور المرأة جزءا لا يتجزأ من المطالبة باستعادة الوطن، بديمومة الانتفاضة، ونسغها المتصاعد في ساحات صارت مدنا بفضل مساهماتها. فهي التي ترسم، وتحاجج مقدمي البرامج التلفزيونية المشككين بأهمية الاحتجاجات وماهية المطالب، وتعالج الجرحى، وتعزف الموسيقى، وتشارك في أعداد الطعام وحملات تنظيف أماكن الاعتصامات. نراها بعينيها المحمرتين جراء الغازات المسيلة للدموع والقنابل الدخانية، وهي توزع قناني الماء لغسل عيون الآخرين المستهدفين مثلها.
تثير مشاركة المرأة في انتفاضة تشرين، تساؤلا آخر عن سبب عدم خروجها سابقا؟ أين كانت، بهذه الاعداد الكبيرة في حراك التظاهرات المتواصلة منذ عام الغزو؟ لقد استهدفت المرأة، بشكل خاص، بحملات الترهيب والترويع، المتبدية بالاختطاف والتعذيب ناهيك عن التحرش الجنسي والاغتصاب. وقائمة المعتقلات وتعرضهن لأبشع أنواع التعذيب منذ اليوم الأول للغزو، تحت مختلف الأسباب، طويلة. صار الحرص على سلامة المرأة، الى حد منعها من مغادرة البيت، أولوية المجتمع الذي يحمل، أساسا، الموروث المجتمعي لمفهوم الشرف، المجسد بالمرأة، والذي تستغله السلطات القمعية والاحتلال، كسلاح ضد المرأة وعائلتها وعشيرتها.
وجاء استهداف المرأة العاملات في المجال العام، خطفا وقاتلا، سواء من قبل أفراد أو ميليشيات أو جهات حكومية، ومع انتشار التفاصيل، بدون إلقاء القبض على الجناة أو تقديم توضيح من الجهات المسؤولة، ليرسخ حالة الخوف بين النساء، ومنعها من ممارسة أي نشاط عام.

لم تعد المرأة، كما بقية الشباب، مخدوعة بخطاب الأحزاب المنمق ووعود الحكومات الفاسدة. تعبت من التهجير القسري من بلاد هي ملكها ووطن استحوذ عليه الحرامية. فخرجت مع أشقائها الشباب الى الشوارع، ليعيدوا للعراق كرامته المتمثلة بهم

ولأن المرأة هي المسؤولة عن العائلة عند غياب الرجل قتلا او اعتقالا، لم تعد أولوية المرأة، كما السابق، المساهمة بالشأن العام، بل باتت أولوياتها متعلقة برعاية العائلة، وتوفير بعض الأساسيات الضرورية لمواصلة الحياة. ولايزال لحملات التهجير القسري وسياسة العقاب الجماعي، والعيش في المعسكرات تأثيرا يماثل الإصابة بالشلل وتفتيت القدرة على التفكير ابعد من اللحظة. ينطبق هذا الحال المأساوي على عموم النساء مما أدى الى انكفائهن بعيدا عن الفضاء العام.
بالمقابل، لعبت الطائفية ومحاصصاتها، دورا في استقطاب مجموعات نسوية، وكان لفساد الأحزاب السياسية تأثيره اختيار البرلمانيات اللواتي اقتصرت أدوارهن، غالبا، على ترديد سياسة أحزابهن وان كانت ضد المرأة، وامتد التأثير على الحراك النسوي العام، عبر المنظمات النسوية وتحديد أولوياتها، وفقا لأجندات الجهات الداعمة، سواء كانت داخلية أو خارجية.
ففي الفترة التي تلت ما بعد الغزو مباشرة، نشطت ضمن «العملية السياسية» التي صاغها المحتل، نسوة استعماريات اخترن أن يكن وجها للاحتلال واداة لتسويغ الغزو والحرب وبخطاب غالبا ما يستبدل أو يعارض القضايا الوطنية والاجتماعية والطبقية الأساسية بقضايا التمايزات الثقافية الأخرى الجنسوية أوالجندرية، مع أهميتها كجوانب على المجتمع الانتباه اليها في سياق تطوره لكنها تصبح بحال «كلمات حق أريد بها باطل» مقابل الصراع الوطني والاجتماعي الدموي العاتي.
اختفى هذا النوع من الناشطات، تدريجيا الواحدة بعد الأخرى، معلنات بان المجتمع العراقي ذكوري، ابوي، بعد أن تضاءلت حصتهن في الاستيزار الى الصفر، وأصبحت نسبتهن في البرلمان أداة تبييض وجه أمام الدول الغربية أكثر منها تمثيلا حقيقيا للمرأة وحافزا لتنشيطها وتوفير فرص العمل والانتاج.
ومع تبني قوات الاحتلال الأمريكي سياسة تفعيل تعاون المرأة العراقية التي قادها قائد قوات الاحتلال الجنرال دافيد بترياس، متبعا بذلك نصيحة مستشاره في مكافحة التمرد دافيد كيلكولان، القائل: «احصل على دعم المرأة فتفوز بدعم العائلة كلها. أملك العائلة، حينئذ تخطو خطوة كبيرة إلى الأمام في تعبئة السكان»، ومع استحداث «مبادرة دعم المرأة العراقية» التي أطلقها فيلق مهندسي قوات الاحتلال ويرتبط معظمها بالقواعد العسكرية، تحت شعارات «تمكين المرأة» و «مشاركة المرأة في بناء الاقتصاد». ومنح النساء المتعاونات عقودا بقيمة 180 مليون دولار، أدى هذا كله، خاصة في فترة تزايد عمليات المقاومة ضد المحتل، الى الحاق الضرر وتلويث سمعة عمل المرأة في المجال العام. وإذا اضفنا الى ذلك فرض رجال الدين السياسي (وكلهم رجال) تفسيراتهم الطائفية المتماشية لا مع التدين كمعتقد شخصي، بل مع سياسة الأحزاب المتبنية لهم، وغالبا ميليشياتها، على المرأة بكل تفاصيل حياتها منذ طفولتها وكيفية تزويجها الى تصويتها للانتخابات وتغسيلها عند وفاتها، لوجدنا أن كاهل المرأة كان ينوء بالكثير مما لا يحتمل، فبدت وكأنها تخلت عن ذاتها المقاومة.
إلا أنها عادت، مع بقية الشباب لتعيد إلينا الأمل. متألقة بشبابها لتكون، كما كانت، قوية، أبية، رافعة الرأس، وهي ترفض العودة الى البيت ما لم يتم تحقيق مطالب المنتفضين وهي منهم. في لحظات التعب والضعف الإنساني، تقف وهي ملتفة بعلم بلادها، لتقسم مع بقية الشباب بأنهم لن يكونوا للعِــدَى كالعبيد، مرددين « موطني»، بكلماته المتجذرة عميقا في الوعي العربي الجماعي، من فلسطين الى العراق. لم تعد، كما بقية الشباب، مخدوعة بخطاب الأحزاب المنمق ووعود الحكومات الفاسدة. تعبت من التهجير القسري من بلاد هي ملكها ووطن استحوذ عليه الحرامية. فخرجت مع أشقائها الشباب الى الشوارع، ليعيدوا للعراق كرامته المتمثلة بهم. العراق الذي لم يعودوا قادرين على تحمل رؤيته محتلا، مهانا، مستباحا.

القدس العربي