هل فشل نهج التعاطي الأميركي مع الصين؟

هل فشل نهج التعاطي الأميركي مع الصين؟

على رغم كل الكلام عن دخولنا حقبة عالمية جديدة، فإن العام الماضي يحمل تشابهاً صارخاً مع عام 2008. ففي تلك السنة، غزت روسيا جارتها، جورجيا، وكانت التوترات مع إيران وكوريا الشمالية مرتفعة باستمرار. إضافة إلى ذلك، واجه العالم تحديات اقتصادية عالمية قاسية.

لكن أحد الاختلافات الملحوظة هو وضع العلاقات بين الصين والولايات المتحدة. في ذلك الوقت، كان التعاون القائم على المصلحة الذاتية ممكناً حتى في خضم الخلافات السياسية والأيديولوجية، وتضارب المصالح الأمنية، ووجهات النظر المتباينة حولالاقتصاد العالمي، بما في ذلك تقييم العملة الصينية والإعانات الصناعية. وبصفتي وزيراً للخزانة، عملت مع القادة الصينيين خلال الأزمة المالية لعام 2008 من أجل منع انتشارها، وتخفيف أسوأ آثارها، واستعادة استقرار الاقتصاد الكلي.

ولكن حاضراً، لا يمكن تصور مثل هذا التعاون. فبخلاف فترة الأزمة المالية، فشلت جائحة كورونا في تنشيط التعاون بين الصين والولايات المتحدة، بل على العكس زادت من حدة العداء بينهما. فهما تهاجمان بعضهما بعضاً، ويقوم كل منهما بلوم الآخر على السياسات السيئة، كما وتتبادلان الاتهامات بشأن التباطؤ الاقتصادي العالمي الذي لم يتعاف منه البلدان والعالم بعد.

من دون علاقة مستقرة بين الولايات المتحدة والصين فإن العالم سيصبح مكاناً خطراً للغاية وأقل ازدهاراً

ومن الواضح أن العالم قد تغير. فالصين تخضع الآن لقيادة مختلفة جداً وأكثر حزماً. كما ازداد حجم اقتصادها أكثر من ثلاثة أضعاف منذ عام 2008 ولديها حاضراً قدرات أقوى لانتهاج سياسات أكثر عدائية. وفي الوقت نفسه، بذلت جهوداً أقل بكثير، من أجل فتح اقتصادها أمام المنافسة الأجنبية، مما دعا إليه كثيرون في الغرب وتوقعوه. وفي تلك الأثناء، تحولت المواقف الأميركية تجاه الصين إلى سلبية بشكل حاد، وكذلك الأمر بالنسبة إلى السياسة في واشنطن. لكن الشيء الذي لم يتغير هو حقيقة أنه من دون علاقة مستقرة بين الولايات المتحدة والصين يكون خلالها التعاون بشأن المصالح المشتركة ممكناً، فإن العالم سيصبح مكاناً خطراً للغاية وأقل ازدهاراً.

وخلافاً لعام 2008، ينظر الطرفان إلى كل جانب تقريباً من جوانب العلاقات بينهما في عام 2023 من منظور الأمن القومي، حتى الأمور التي كانت تعتبر ذات يوم إيجابية، على غرار الاستثمارات التي تخلق فرص العمل أو الابتكار المشترك في التقنيات المتقدمة. في الواقع، تعتبر بكين ضوابط التصدير الأميركية التي تهدف إلى حماية تقنيات الولايات المتحدة تهديداً لنمو الصين في المستقبل، وفي المقابل، تنظر واشنطن إلى أي شيء قد يطور القدرة التكنولوجية الصينية على أنه يتيح صعود منافس استراتيجي ويساعد في تعزيز القوة العسكرية العدوانية لبكين.

من مصلحة واشنطن العمل بطرق تكاملية مع الصين والحفاظ على علاقة اقتصادية مفيدة مع ثاني أكبر اقتصاد في العالم

واستطراداً، تشهد العلاقات بين الصين والولايات المتحدة تراجعاً شديداً، من علاقة تنافسية ولكن تعاونية في بعض الأحيان إلى علاقة تصادمية من جميع النواحي تقريباً. ونتيجة لذلك، تواجه الولايات المتحدة احتمال وضع شركاتها في ظروف غير مواتية ومكانة أضعف مقارنة بحلفائها، مما يحد من قدرتها على تسويق الابتكارات. كذلك، من الممكن أن تفقد حصتها في السوق في بلدان أخرى. وبالنسبة إلى أولئك الذين يخشون أن تخسر الولايات المتحدة السباق التنافسي مع الصين، فإن الإجراءات الأميركية تهدد بأن يتجسد هذا الخوف بالتأكيد على أرض الواقع.

تحالف الراغبين

تحاول الولايات المتحدة إنشاء تحالف من البلدان ذات التفكير المماثل، وبخاصة الديمقراطيات في آسيا وأوروبا، وذلك من أجل إنشاء قوة مقابلة للصين والضغط عليها. لكن يبدو أن هذه الاستراتيجية غير ناجحة، لا بل هي تضر بالولايات المتحدة والصين على حد سواء، وعلى المدى الطويل، من المحتمل أن تؤذي الأميركيين أكثر من الصينيين. ومن الواضح أيضاً أنه من مصلحة واشنطن التعاون أو العمل بطرق تكاملية مع الصين في مجالات معينة والحفاظ على علاقة اقتصادية مفيدة مع ثاني أكبر اقتصاد في العالم.

عوضاً عن الانفصال عن الصين أو فك الارتباط الاقتصادي بها، تعمل بلدان كثيرة على توطيد التجارة معها

وعلى رغم أن دولاً كثيرة تشارك واشنطن كراهيتها ونفورها من سياسات الصين وممارساتها وسلوكها، إلا أن أياً منها لا يتبع سبل واشنطن في معالجة تلك المخاوف. وصحيح أن كل الشركاء الرئيسين للولايات المتحدة تقريباً يشددون على ضوابط التصدير على التقنيات الحساسة، ويمعنون النظر في الاستثمارات الصينية ويوقفونها في كثير من الأحيان، ويفضحون سياسات بكين الاقتصادية القسرية والضغط العسكري الذي تمارسه، ولكن بالمقارنة مع واشنطن، فحتى أقرب الشركاء الاستراتيجيين لها ليسوا بنفس درجة استعدادها لمواجهة الصين أو محاولة احتوائها أو فك الارتباط الاقتصادي بها.

في الواقع، ثمة دول عدة تفعل نقيض ما تطلبه الأصوات المتشددة في واشنطن. وعوضاً عن الانفصال عن الصين أو فك الارتباط الاقتصادي بها، تعمل بلدان كثيرة على توطيد التجارة معها حتى في الوقت الذي تتحوط فيه ضد الضغوط الصينية المحتملة من خلال تنويع العمليات التجارية وبناء سلاسل إمداد جديدة في دول أخرى وتقليل الانكشاف في المجالات الأكثر حساسية. ربما لهذا السبب، وعلى رغم سنوات من التحذيرات الأميركية، تفوقت الصين في عام 2020 على الولايات المتحدة باعتبارها الشريك التجاري الأكبر للاتحاد الأوروبي. وفي عام 2022، نمت كل من صادرات الاتحاد الأوروبي إلى الصين ووارداتها منها. ويبدو الآن أن القادة الآسيويين والأوروبيين، الذين تشجعوا بعد زيارة المستشار الألماني أولاف شولتز في نوفمبر (تشرين الثاني) 2022 إلى بكين، سيتهافتون ليجتمعوا بالرئيس الصيني شي جينبينغ، ومن المرجح أن رحلات رئيس الفيليبين فرديناند ماركوس جونيور والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيسة الوزراء الإيطالية جيورجيا ميلوني إلى هناك ستحفز الآخرين على أن يحذو حذوهم.

تخاطر واشنطن بمقاومة الجاذبية الاقتصادية

واستكمالاً، فإن نهج واشنطن الرامي إلى “تقليص دور الصين” يحقق نتائج أسوأ في دول الجنوب. لقد وصلت التجارة بين الصين وأفريقيا إلى مستوى غير مسبوق في عام 2021، مرتفعة بنسبة 35 في المئة مقارنة مع عام 2020. في المقابل، حققت حملة أميركية مكثفة ترمي إلى إخراج شركات التكنولوجيا الصينية مثل “هواوي” من البنية الأساسية للاتصالات السلكية واللاسلكية أداء جيداً نسبياً في أوروبا والهند، وضعيفاً في كل مكان آخر تقريباً. فلنأخذ السعودية على سبيل المثال. فأكبر شريك تجاري لها هو الصين، وبطريقة موازية، فإن خطة إصلاح رؤية 2030 التي تنتهجها تعتمد بشكل كبير على التعاون المنشود مع شركات التكنولوجيا الصينية، بما في ذلك “علي بابا” و”هواوي”، حتى في المجالات الحساسة التي تستهدفها واشنطن بشكل مباشر، مثل الذكاء الاصطناعي والخدمات السحابية. أما إندونيسيا، وهي دولة ديمقراطية آسيوية ضخمة حاولت واشنطن التودد إليها بهدف إنشاء قوة مقابلة للنفوذ الصيني، فقد جعلت من “هواوي” شريكتها المفضلة في حلول الأمن السيبراني، وحتى في الأنظمة الحكومية.

ومن المرجح أن تكون هذه الجهود الأميركية أقل نجاحاً الآن بعد أن أعادت الصين فتح حدودها. وفي مقابل استراتيجية “تقليص دور الصين” التي انتهجتها واشنطن، اعتمدت الصين استراتيجيتها الخاصة القائمة على “زيادة التعامل مع الجميع باستثناء أميركا”.

بكين أيضاً بدأت بالتراجع عن سياساتها التقييدية لاحتواء فيروس كورونا، معيدة فتح حدودها، ومتقربة من القادة الأجانب، وتسعى إلى رأس المال الأجنبي والاستثمار من أجل إعادة تنشيط اقتصادها. في العام الماضي، قام شي بأول رحلاته الخارجية منذ تفشي الوباء فتوجه إلى آسيا الوسطى والشرق الأوسط، مما يؤكد استراتيجيته الرامية إلى تعزيز علاقات الصين عالمياً. والآن مع استئناف سفراته حول العالم مجدداً بعد توقف دام ثلاث سنوات، وتجديد تعهداته في ما يتعلق بالاستثمارات والبنية التحتية والتجارة الصينية في كل محطة، فإن واشنطن هي التي قد تجد نفسها محبطة قريباً، وليس بكين.

هذه الجهود الرامية إلى إقصاء الصين ستؤذيها بالتأكيد، لكنها في الوقت نفسه ستسبب ضرراً للولايات المتحدة

وتعتبر قواعد التجارة خير مثال على ذلك. في عام 2017، انسحب الرئيس الأميركي دونالد ترمب من الشراكة عبر المحيط الهادئ (TPP)، وبعد ست سنوات، من الواضح أن واشنطن لا تملك أية نية بالعودة إليها. وعلى رغم ذلك، تقدمت بكين بطلب للانضمام لتلك الشراكة، التي أصبحت تسمى الآن الاتفاق الشامل والمتقدم للشراكة عبر المحيط الهادئ (CPTPP). كذلك، صادقت الصين على الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملةRegional Comprehensive Economic Partnership  في آسيا، وتقدمت بطلب للانضمام إلى اتفاق شراكة الاقتصاد الرقمي  Digital Economy Partnership Agreement. إضافة إلى ذلك، قامت بتحديث أو إطلاق اتفاقات تجارة حرة جديدة مع دول من الإكوادور إلى نيوزيلندا. وتعد الصين الآن أكبر دولة في العالم من حيث حجم التجارة، إذ إن ما يقرب من ثلثي دول العالم تتاجر مع الصين أكثر منه مع الولايات المتحدة.

تبدأ المنافسة مع الصين من داخل الوطن

في غضون ذلك تنتهج الولايات المتحدة سياسة تجارية “تتمحور حول العمال” تشبه إلى حد كبير سياسة الحمائية، وبالمقارنة معها، فإن مبادرة الإطار الاقتصادي للمحيطين الهندي والهادئIndo-Pacific Economic Framework  التي أطلقتها واشنطن تبدو خجولة. في الواقع، تواجه هذه المبادرة صعوبات، لأسباب ليس أقلها أنها تمنع البلدان المنضمة إلى الاتفاقات التي تجنبتها واشنطن من الوصول إلى الأسواق الجديدة.

وتخاطر واشنطن بمقاومة الجاذبية الاقتصادية. صحيح أنها نجحت في التحكم في أكثر التقنيات حساسية، بما في ذلك أشباه الموصلات المتقدمة، بيد أنها ستحقق نجاحاً أقل إذا انتهجت استراتيجية تقوم على التشجيع على انفصال تكنولوجي أوسع مع الصين، وذلك لأن معظم الدول لا تحذو حذو الولايات المتحدة وقد تجد في النهاية طرقاً للتكيف.

ينبغي على الولايات المتحدة أن تكون رائدة في التجارة، عوضاً عن الانسحاب من الاتفاقات ذاتها التي تقدمت الصين بطلب للانضمام إليها

هذه الجهود الرامية إلى إقصاء الصين ستؤذيها بالتأكيد، لكنها في الوقت نفسه ستسبب ضرراً للولايات المتحدة. فالشركات الأميركية في وضع تنافسي غير موات على الإطلاق، والمستهلكون الأميركيون هم من يدفعون الثمن. إحدى الخطوات المعقولة لتصحيح هذه المشكلة تتمثل في الحد من التعريفات الجمركية على واردات السلع الاستهلاكية الصينية التي تقوم بجعلها أكثر كلفة بالنسبة إلى المستهلكين الأميركيين. هذه التعريفات تحظى بشعبية سياسية ولكنها غير منطقية من الناحية الاقتصادية. فهي أضرت بالصين ولكنها تسببت في الوقت نفسه بأضرار لمنشئي الوظائف في الولايات المتحدة، بما في ذلك الشركات العادية المعتمدة على الموردين الصينيين، وتلك التي لا تملك سوى قليل من الحلول البديلة، أو التي سحقت تحت وطأة التضخم وفواتير الطاقة المرتفعة. لكن ينبغي ألا تلغى هذه التعريفات من دون الحصول على شيء في المقابل. على سبيل المثال، يجب على واشنطن دفع الصين للالتزام بشروط المرحلة الأولى من اتفاق التجارة الموقعة عام 2020، بما في ذلك عن طريق شراء مزيد من المنتجات الزراعية الأميركية. كذلك، يجب أن يطلب من الصين فتح أسواقها أمام مزيد من السلع الأميركية.

حل المسألة بالنقاش

في نهاية المطاف، تبدأ المنافسة مع الصين من داخل الوطن. في الواقع، لدى الولايات المتحدة والصين أنظمة سياسية مختلفة للغاية. تتفوق الولايات المتحدة، لكن يجب إثبات ذلك من خلال النتائج. وهذا يعني التمسك بالمبادئ التي جعلت الاقتصاد الأميركي محط أنظار العالم، ودعم الأمن القومي الأميركي. ويعني أيضاً الاضطلاع بدور اقتصادي ريادي في الخارج.

ومن المهم للغاية أن تفوز واشنطن بسباق تطوير التقنيات وجذب المواهب، إذ سيكون النجاح الاقتصادي مدفوعاً إلى حد كبير بالتفوق التكنولوجي. وهذا لا يتطلب من الولايات المتحدة تطوير تلك التقنيات المستقبلية فحسب بل تسويقها تجارياً عوضاً عن الاحتفاظ بها لنفسها. كما أنه يستدعي وضع معايير عالمية بدلاً من التخلي عن ميدان التنافس للصين. واستكمالاً، ينبغي على الولايات المتحدة أن تكون رائدة في التجارة، عوضاً عن الانسحاب من الاتفاقات ذاتها التي تقدمت الصين بطلب للانضمام إليها وحرمان العمال الأميركيين من فرص التصدير.

ومن المؤكد أن التوترات الأمنية تشكل جزءاً من هذه العلاقة. في الواقع، تعتبر الصين في عهد شي منافساً ضخماً يجب على الولايات المتحدة أن تتبع معها نهجاً صارماً للغاية. تنتهج بكين سياسات معادية لمصالح الولايات المتحدة في عديد من المجالات، ومن غير المرجح تعديل هذا النهج في أي وقت قريب. إذاً، تحتاج واشنطن إلى أن تكون حازمة وفي الوقت نفسه عادلة، ومنفتحة على الحوار ولكن ليس بما يصب في مصلحتها الخاصة، وأن تكون مستعدة لمسار شاق وصعب وطويل في سعيها إلى التنسيق مع الصين بشكل يخدم أهدافها.

كان هذا التعاون مفيداً في الماضي. ففي ذروة الأزمة المالية لعام 2008، كانت الصين مالكاً ضخماً لسندات تعود إلى بعض الشركات والمصارف وإلى شركتي الرهن العقاري “فاني ماي” و”فريدي ماك”. كذلك، فالتنسيق الوثيق الذي أقامته واشنطن مع القادة الصينيين من خلال الحوار الاقتصادي الاستراتيجي ساعدها في إقناع بكين بعدم بيع الأوراق المالية الأميركية، وهو أمر كان بالغ الأهمية من أجل تجنب كساد كبير آخر. واستطراداً، فإن حزمة التحفيز الصينية التي أعقبت قمة مجموعة الـ20 الأولى في عام 2008 ساهمت في مواجهة آثار الأزمة والمساعدة في التعافي الاقتصادي العالمي.

في الواقع، لا يمكن تجنب الأزمات المالية. ولكن إذا كان أكبر اقتصادين وأعظم محركين للنمو الاقتصادي قادرين على التواصل والتنسيق من أجل استباق الاضطرابات الاقتصادية وإحباطها والتخفيف من آثارها، فستكون إدارة تلك الأزمات أسهل بكثير من خلال اعتماد طرق تحد من الصعوبات الاقتصادية في كلا البلدين والعالم. ومن مصلحة الصين والولايات المتحدة المشتركة أن تفعلا ذلك بالضبط، بيد أن هذا يتطلب من وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين وزملائها إجراء حوار منتظم مع نظرائهم الصينيين يناقشون ويراقبون فيه الاقتصاد الكلي العالمي والمحلي والمخاطر المالية.

ومن الممكن أن تنتقل الصدمة في الاقتصاد الحقيقي بسرعة إلى النظام المالي، وقد تؤدي التجاوزات المالية إلى إحداث فوضى في حياة الناس إذا تركت من دون حل. والجدير بالذكر أن التمويل الحديث، الذي يمكن فيه للمال أن يتحرك حول العالم بسرعة خارقة، يجعل العالم يبدو وكأنه مكان يتقلص حجمه أكثر فأكثر. والاقتصاد الصيني كبير جداً ومتكامل عالمياً لدرجة أن الاضطرابات التي حدثت في الصين في عامي 2015 و2021 امتدت على الفور من خلال الأسواق المالية العالمية. وبالطبع، فإن الروابط الأولية والثانوية على الصعيدين الاقتصادي والمالي بين الصين والولايات المتحدة واسعة جداً وعميقة لدرجة أنه لا يمكن التخلص منها بسهولة، ما يجعل من المهم بشكل خاص أن تتبادل الدولتان وجهات النظر حول مخاطر الاقتصاد الكلي. واستكمالاً، فالصين هي ثاني أكبر مساهم في سندات الخزانة الأميركية الطويلة الأجل وتعتبر مستثمراً كبيراً في الأوراق المالية الأميركية الأخرى، لذلك من مصلحة كلا البلدين أن يكون لدى الصين فهم للسياسة الاقتصادية الأميركية وثقة في صناع السياسة الأميركية، بخاصة عندما يكون الكونغرس في جدل حول سقف الدين. وتجدر الإشارة إلى أن الافتقار إلى الشفافية حول إقراض الصين لبعض الاقتصادات المضطربة للغاية والاستثمار التجاري الأميركي الكبير في الاقتصاد الصيني، الذي يمكن أن يبدو غامضاً بالنسبة إلى المحللين الخارجيين وحيث يمكن للتغييرات المباغتة في السياسات أن تفاجئ السوق، يعني أنه من المهم لكلتا الدولتين أن يكون لدى صانعي السياسة في الولايات المتحدة فهم أفضل للسياسات والتحديات الاقتصادية الصينية.

علاوة على ذلك، تحتاج الولايات المتحدة إلى تعزيز الدفاعات التي حاولت إدارة بايدن وضعها من أجل التحوط من التدهور الحاد. وفي الواقع، هذا أمر ضروري لأن الحلفاء والشركاء الذين تأمل واشنطن في تجنيدهم للضغط على الصين يتوقعون جهوداً صادقة في السعي إلى التعاون معها، حيثما أمكن ذلك. وهذا أحد الأسباب التي دفعت الرئيس الأميركي جو بايدن، في اجتماعه مع شي في إندونيسيا في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، إلى اتخاذ خطوات تهدف إلى منع التدهور في العلاقات.

ومن أجل تحسين التنسيق بين الطرفين، يجب على صانعي القرار في الصين والولايات المتحدة الاجتماع بشكل متكرر والتحدث بصراحة أكبر. والجدير بالذكر أن الصداقة ليست شرطاً أساسياً لمثل هذا التنسيق. والتوترات السياسية والأمنية والأيديولوجية الواضحة لا تمنع التعاون القائم على المصلحة الذاتية في قضايا مثل استقرار الاقتصاد الكلي، والتأهب للأوبئة، وتغير المناخ، ومكافحة الإرهاب، ومنع انتشار الأسلحة النووية، وحماية النظام المالي العالمي من الأزمات المستقبلية وإمكانية انتشارها. في ذلك الإطار، يعتبر الاجتماع المقبل لوزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن مع عضو مجلس الدولة الصيني وانغ يي نقطة انطلاق جيدة. بطريقة موازية، يجب أن تتحدث يلين بانتظام مع القيصر الاقتصادي الجديد للصين، خو ليفانغ. كذلك، ينبغي أن يتحدث رئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول مع محافظ البنك المركزي الصيني.

على واشنطن أن تتفاوض بحزم مع بكين لفتح الطريق أمام فرص تعود بالنفع على الأميركيين في سوقها

وفي المقابل، يجب ألا تقيد بكين التعاون في القضايا العالمية مثل تغير المناخ لأنها منزعجة من قضايا لا صلة لها بالموضوع. في الحقيقة، يؤدي الربط بين القضايا المختلفة في السياسة الخارجية إلى تقويض الجهود التي تبذلها الصين من أجل تقديم نفسها على أنها حلال بناء للمشكلات العالمية.

إضافة إلى ذلك، يجب على الولايات المتحدة أن تميز بدقة بين ما يجب أن تحصل عليه من حلفائها وما ستحصل عليه بمبادرة لطيفة منهم. من الضروري مثلاً التحكم في التقنيات المتعلقة بالأسلحة والتقنيات ذات الاستخدام المزدوج والمتعدد، وزيادة التدقيق في الاستثمارات الصينية وعمليات الدمج والاستحواذ مع شركات التكنولوجيا العالمية. في مقلب مغاير، لا تحتاج واشنطن إلى تشجيع فك الارتباط في المجالات غير المهمة بالنسبة إلى الأمن القومي أو المنافسة بين ديمقراطيات العالم في مجال التكنولوجيا المتطورة.

ولكن هناك مستوى معين من الفصل لا مفر منه. في مجال التقنيات العالية، سيكون بعض الفصل الموجه ضرورياً جداً، في المقابل، لا جدوى من الفصل بالجملة. فالأميركيون يستفيدون من قدرة الوصول إلى أسواق العالم، وستظل الصين سوقاً ضخمة يمكن لهم إما المشاركة فيها أو التخلي عنها للمنافسين. علاوة على ذلك، فالصين هي ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وتحتل المرتبة الأولى عالمياً في التصنيع والتجارة. وعلى مدى عقود مقبلة، ستشكل السوق الصينية جزءاً كبيراً من الصورة المالية العالمية. فبدلاً من القبول بشكل محتوم بإسدال ستار اقتصادي حديدي [إنشاء حواجز اقتصادية]، يجب على واشنطن أن تتفاوض بقوة مع الصين من أجل فتح الطريق أمام فرص تعود بالنفع على الأميركيين في سوقها. ويتعين على مسؤولي الإدارة إجراء مناقشات جادة مع القيادة الصينية حول كيفية إدارة الانفصال الاقتصادي بطريقة تسمح بتجارة ذات منفعة متبادلة. في الوقت الحالي، تتبادل الدولتان في الغالب اتهامات واتهامات مضادة بينما لا تفعلان شيئاً لتوسيع الفرص الاقتصادية المفيدة للطرفين.

في الواقع، لا يمكن التخلص من التوترات الأمنية الصينية الأميركية، ويحق للأميركيين، بخاصة بعد الغزو الروسي الوحشي لأوكرانيا، القلق من أن تستخدم بكين نفوذها، ولا سيما عن طريق إخضاع تايوان. ويشكل تعزيز قوة الردع جزءاً كبيراً من الحل، وكذلك الأمر بالنسبة إلى تحسين العلاقات مع الحلفاء. بيد أن حلفاء الولايات المتحدة وشركائها لم يخفوا عدم رغبتهم في عزل بكين أو احتوائها. وهذه رسالة يجب أن تستخلصها واشنطن من رفض بقية العالم التوقف عن التعامل مع الصين، ومن محاولات الصين إحداث شرخ بين واشنطن وبقية العالم.

الرياح السياسية عاتية وتسيطر على كثيرين في الكونغرس الرغبة في معاقبة الصين حتى لو كان ذلك على حساب الولايات المتحدة. سيحتاج بايدن إلى شجاعة كبيرة لكي يواجه هذه التحديات بذكاء وجرأة.

اندبندت عربي