تناقلت الأنباء أخبار انخفاض أسعار النفط بنحو 5 في المئة، يوم الجمعة الماضي، بعد إصابة ترمب بفيروس كورونا. وهناك تخوُّف من البعض، من أن تفاقم المشكلة سيعمق من انخفاض أسعار النفط، ولكن لا يمكن لأي شخص أن يثبت أن هذا الانخفاض جاء كله بسبب إصابة ترمب، حيث إن هناك دلائل كثيرة تشير إلى أن إصابته سبب من أسباب عدة، ولعل من أهم الدلائل أن أسعار النفط انخفضت بنسبة قريبة في اليوم السابق لإعلان إصابته.
لنتذكر أننا كنا في أول الشهر، وأغلب البيانات تصدر في تلك الفترة، وكل هذه البيانات تقريباً جاءت مخفضة لأسعار النفط. وتضمنت هذه الأنباء ما يلي: زيادة إنتاج النفط في “أوبك”، وزيادة صادرات النفط من السعودية وإيران وفنزويلا، وارتفاع إنتاج النفط الأميركي في شهر يوليو (تموز) بأكثر من 500 ألف برميل يومياً، وارتفاع عدد حفارات النفط الأميركية للأسبوع الثالث على التوالي مع زيادة في عدد الآبار المكملة، وفي تراخيص الإكمال، وارتفاع في عدد الفرق العاملة على إكمال الآبار في حقول الصخري. وفي الوقت نفسه، بدأت بعض المدن تغلق اقتصادها جزئياً بسبب تفشي كورونا، كما حصل في مدريد ونيويورك وباريس.
والأخبار السلبية لا تتوقف هنا، فقد أشارت بيانات إدارة معلومات الطاقة الأميركية إلى ارتفاع صادرات النفط الأميركية وانخفاض استهلاك النفط الأميركي بكميات كبيرة، بخاصة الطلب على الديزل ووقود الطائرات.
أثر ترمب
لا شك أن هناك أثراً لإعلان إصابة ترمب بفيروس كورونا، ولكن الأثر في كل الأسواق، وليس النفط فقط. وهذا الأثر يتكون من ثلاثة أجزاء، الأول أثر عام نتيجة تخوف المضاربين من مفاجآت في السوق، وكلنا يعرف أن رأس المال جبان يهرب عندما يحس بالخطر. الثاني يتعلق بوقف أي مساعٍ لتقديم حزمة مالية لدعم الاقتصاد في حالة تدهور صحة ترمب. الثالث يتعلق باحتمال العودة إلى الإغلاق شبه التام في حالة تدهور صحة ترمب وعدد كبير ممن حوله، ليس فحسب في الولايات المتحدة، وإنما عالمياً.
ويرى بعض المحللين أن الأسواق، بما فيها أسواق النفط، لم تحسب حساب فوز جو بايدن كاملاً، ومن ثم فإن تدهور صحة ترمب سيجبرهم على زيادة احتمالات فوز بايدن، وهو أمر، في رأيهم سيخفض أسعار النفط.
إلا أن نظرة سريعة للأسعار تشير إلى أن خام برنت، رغم كل العوامل السلبية المذكورة سابقاً، ما زال فوق 39 دولاراً للبرميل، وتجاوز 40 دولاراً عند كتابة هذا المقال، وهذا يعزز فكرة أن هناك أرضية صلبة للأسعار، إلا في حالة اللجوء إلى الإغلاق مرة أخرى في الدول الرئيسة المستهلكة للنفط. خلاصة الأمر أن أثر مرض ترمب في أسعار النفط محدود، ولكن الأمور قد تتغير إذا تدهورت صحته. ويثبت ذلك أنه حسب وسائل الإعلام نفسها، أن خروج ترمب من المشفى مساء يوم الأحد لتحية مشجعيه بالقرب منها رفع أسعار النفط بنحو 2 في المئة فقط.
نظرة مستقبلية
تشير البيانات إلى أن الطلب العالمي على النفط ما زال منخفضاً مقارنة بالعام الماضي. وتختلف الهيئات والمنظمات في تقديراتها لمقدار الانخفاض النهائي في عام 2020 مقارنة بالطلب في 2019. إلا أنه قبل التركيز على النقاط الأساسية هنا لا بد من توضيح أن المقارنة الصحيحة لمعرفة أثر فيروس كورونا ليست مقارنة الطلب في 2020 بالطلب في 2019، وإنما مقارنة الطلب في 2020، كما كان يتوقع سابقاً قبل انتشار كورونا بالطلب في 2019، وهذا يعني أن الأثر الحقيقي أكبر من حالة النظر إلى الفرق بين العامين فقط.
وكما نعلم فإن الناس لا يشترون النفط الخام، وإنما المنتجات النفطية. فإذا نظرنا إلى المنتجات النفطية نجد أن الطلب عليها كلها منخفض مقارنة بالعام الماضي، ولكن بنسب متفاوتة. وأكبر انخفاض هو في وقود الطائرات وأنواع النفط المستخدمة في القطاع الصناعي.
ومن الواضح أن هناك ثلاث ظواهر تستحق المتابعة؛ الأولى زيادة استخدام السيارات الخاصة على حساب المواصلات العامة في أغلب دول العالم، وهذا يعني زيادة استهلاك البنزين على كل الحالات، إلا أن انخفاض عدد الناس التي لا تستخدم المواصلات العامة لا يعني بالضرورة انخفاض استهلاك الديزل، وهو الوقود الغالب في الحافلات والقطارات، لأن هذه الحافلات والقطارات ستسير بغض النظر عن عدد الركاب.
الظاهرة الثانية تتعلق بأعياد الميلاد، نحو 60 في المئة من مشتريات الأسر الأميركية تتم قبل فترة أعياد الميلاد، والأمر قريب منه في أوروبا. بسبب فيروس كورونا سيكون هناك ضغط شديد على التسوق الإلكتروني، وهذا يعني عشرات الألوف من السيارات التي تجوب الشوارع لتوزيع المشتريات على البيوت، الأمر الذي سيؤدي إلى ارتفاع استهلاك المحروقات، بخاصة الديزل.
الظاهرة الثالثة هي “مصيدة الطلب على النفط”؛ فهناك جزء من الطلب لا علاقة له بأسعار المنتجات النفطية، ولا علاقة له بالدخل، وهذا يعني أنه مهما انخفضت أسعار المحروقات، فإن بعض هؤلاء الناس لن يشترونها، ومهما قدمت لهم من إعانات مالية، أو ضمنت لهم دخلاً، فإنهم لن يشتروها، والسبب هو عدم رغبتهم بالحركة أو السفر خوفاً من الإصابة بكورونا، وهذا يفسر عدم نمو الطلب على وقود الطيران، وعدم العودة الكاملة للطلب على البنزين والديزل. وبناءً على ذلك فإنه لن يتم الخروج من “المصيدة” وعودة الطلب للنمو مرة أخرى إلا بانتهاء وباء كورونا أو إيجاد علاج حقيقي له. خلاصة الأمر أن الطلب على النفط لن يتعافى إلا بانتهاء كورونا بطريقة أو بأخرى.
في المقابل، في جانب المعروض، نجد أن إجمالي فائض المخزون التجاري والعائم ما زال نحو 150 مليون برميل، ويجب التخلص منه قبل أن نرى زيادة كبيرة في أسعار النفط، ولكن ليست هذه المشكلة الوحيدة: طلب المصافي على النفط الخام ما زال منخفضاً لأن نمو الطلب على منتجات المصافي ما زال ضعيفاً، وأرباح المصافي منخفضة بشكل كبير. ومن ثم فليس هناك حافز للمصافي بأن تقوم بزيادة نسبة تشغيلها.
رغم كل هذه العوامل الضاغطة على أسعار النفط، فإنه من المتوقع ارتفاع الأسعار في الشهور المقبلة، ولكن ضمن حدود ضيقة، لثلاثة أسباب رئيسة:
1- تخفيض “أوبك+” للإنتاج.
2- الانخفاض الطبيعي في الإنتاج العالمي نتيجة انخفاض الاستثمار في الاستكشاف والتنقيب في جميع أنحاء العالم بنسبة كبيرة، وبالتالي لا يمكن التعويض عن معدلات النضوب في الآبار.
3- انخفاض إنتاج النفط الصخري الأميركي بسبب معدلات النضوب العالية في هذه الآبار في وقت انخفضت فيه معدلات الاستثمار بشكل كبير، وتوقفت البنوك عن اقراض هذه الشركات.
وفي حال فوز جو بايدن في انتخابات الرئاسة الأميركية بعد شهر من الآن، فإنه من المؤكد أنه سيضيق الخناق بطريقة أو بأخرى على شركات النفط العاملة في الأراضي الفيدرالية، حيث وعد أن يمنع التكسير المائي فيها، وسيكون لهذا القرار أثر كبير في نمو إنتاج النفط الصخري لأن أكثر المناطق الواعدة في حقل برميان الشهير تقع في ولاية نيو مكسيكو، وهذه الأراضي فيدرالية، وهو ما يفسر زيادة عدد الحفارات مؤخراً في المنطقة، حيث تحاول الشركات أن تحفر وتكمل الآبار قبل الانتخابات.
الخلاصة
أي أخبار تتعلق بالإغلاق في الأيام المقبلة ستكون سلبية بالنسبة للنفط. أخبار ترمب لن تؤثر كثيراً في أسعار النفط إلا إذا ساءت صحته بشكل كبير، وسيكون ضمن الآثار العامة في السوق، وليس النفط بشكل خاص. ويجب توخي الحذر عند قراءة الأخبار لأن وسائل الإعلام ستحاول ربط أي تغيرات في أسعار النفط بأكثر الأخبار فرقعة، وبالتالي ستربطها بترمب على كل الحالات. ويصعب التنبؤ بما يمكن أن تقوم به “أوبك” حال انخفاض أسعار النفط، خصوصاً أن “أوبك” لا تريد أن يصبح النفط كرة في ملعب الانتخابات الرئاسية الأميركية.
أما بعد ذلك فإنه يتوقع أن يكون الانخفاض في المعروض أكبر من الانخفاض في الطلب على النفط، وسيكبر الفرق في حال فوز بايدن بالانتخابات الرئاسية الأميركية. بايدن أفضل لدول الخليج نفطياً، ولكنه قد لا يكون الأفضل في المجالات الأخرى. والنفط أمر من أمور كثيرة، بعضها أكثر أهمية من النفط بكثير.
أنس بن فيصل حجي
اندبندت عربي