تسبب فيروس متغير أكثر عدوى من “كوفيد-19” في حالة طوارئ جديدة، لذلك على البلدان كلها، التي تستطيع إصدار سندات دائمة لتمويل تكاليف مكافحة الفيروس، أن تفعل ذلك. والبلدان المرشحة أكثر من غيرها للقيام بذلك هي المملكة المتحدة والبلدان المسماة الخمسة المقتصدة: النمسا والدنمارك وفنلندا وهولندا والسويد.
ليست الأوقات الحالية عادية. لقد تسببت هذه الجائحة بحالة طوارئ، لأن السلطات لم تتمكن من السيطرة عليها بسرعة كافية لتجنب حدوث صدمة اقتصادية عالمية. وسرعان ما ستجري السيطرة عليها بفضل عمل رائع من أعمال علم الأوبئة والعلوم الطبية. وسيصبح عدد من اللقاحات متاحاً على نطاق واسع في غضون سنة واحدة، لكن في هذه الأثناء، تسبب الفيروس في حالة من الفوضى، وكان أثره الاقتصادي أسوأ من الأزمة المالية عام 2008، وهذا يتطلب استجابة اقتصادية جريئة.
لكن من المؤسف أن استجابة أوروبا جاءت قاصرة. وبوسعنا أن نعزو أسباب هذا الفشل إلى العلاقة المعقدة بين المؤسسات المركزية في الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء.
لطالما كنت من المدافعين عن السندات الدائمة، وهذه سندات لا ينبغي لها أبداً أن تسدد؛ بل لا بد من تسديد الفائدة السنوية فقط. وقد تبدو الفكرة في نظر البعض وكأنها فكرة راديكالية، لكن السندات الدائمة استخدمت لقرون من الزمن. لقد أصدرت بريطانيا سندات دائمة، أطلق عليها اسم “كونسولز” Consols عام 1752، ثم استخدمت في وقت لاحق “سندات الحرب” war bonds، التي كانت دائمة أيضاً، لتمويل الحروب النابليونية. وأصدرت الولايات المتحدة كونسولز عام 1870. ولا بد من إصدار سندات دائمة الآن، إذ لا يمكن للمعدلات العالمية للفائدة أن تنخفض أكثر مما هي عليه. وستحافظ هذه السندات على هذه الميزة إلى الأبد. ومن الممكن العمل بهذه السندات تدريجياً للسماح للأسواق المالية بالتأقلم مع أدوات جديدة، وهذا لا يمثل مشكلة، لأن السندات غير المؤرخة من الممكن بيعها بسهولة من ضمن شرائح.
وحتى وقت قريب، كنت أدافع عن ضرورة إصدار الاتحاد الأوروبي، وليس البلدان الأعضاء، سندات دائمة. وأنا أدرك الآن أن هذا أمر مستحيل في ظل الظروف الحالية. فعلى على الرغم من حصول عدد من الاختراقات السياسية المهمة، لا يتمتع الاتحاد الأوروبي بالقدر الكافي من سلطة فرض الضرائب لتمويل ذلك النوع من الحوافز المالية التي قد تكون مطلوبة للتعامل مع الجائحة.
وفي هذا الوضع، يتعين على الحكومات الأوروبية ذاتها أن تعمل على توسيع قدراتها الخاصة من أجل الاستجابة المالية القوية لهذه الجائحة. ولهذا السبب، يتعين على كل بلد على حدة أن يصدر سندات دائمة لتمويل تكاليف مكافحة “كوفيد-19”.
لكن البلدان في أوروبا لا تملك الخبرة في استخدام هذه الأداة. وفي مقدور بريطانيا أن تسدي لها خدمة عظيمة في هذا الصدد بإصدار سندات دائمة. وهذا من شأنه أن يشكل سابقة يمكن الاعتماد عليها من قبل حكومات أوروبية أخرى. وهذا يمكن أن يساعد في بناء الثقة والتعاون بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي. والأهم أن هذه السندات ستكون الطريقة الصحيحة لتمويل عجز الميزانية البريطانية.
وعلى على الرغم من أن عامة الناس لم يسمعوا بهذه السندات في شكل عام، بدأ المصرف المركزي الأوروبي بالفعل في إصدار سندات دائمة. فقد اشترى المصرف كميات هائلة من السندات الحكومية كجزء من برنامجه للتيسير الكمي. ويدرك الخبراء أن المصرف ليس لديه خيار غير امتلاك هذه الديون إلى الأبد.
قد يسبب بيع السندات المتراكمة إلى السوق قدراً أعظم مما ينبغي من الاضطرابات في الأسواق، فإرغام الحكومات على إعادة شرائها قد لا يتسنى أبداً لأن هذا من شأنه أن يؤدي إلى قدر غير وارد من التقشف، لكن بدلاً من ذلك، عندما يحين موعد استحقاق السندات المملوكة للمصرف المركزي الأوروبي، ستستبدل بها ببساطة سندات حكومية صادرة حديثاً. وقد يستمر هذا التبديل إلى الأبد. وهذه هي طريقة تحويل التيسير الكمي فعلياً السندات ذات الاستحقاقات الثابتة إلى ديون دائمة.
هناك فارق كبير بين السندات الدائمة التي تصدرها الحكومات في شكل مباشر والديون الدائمة التي ينشئها مسار غير مباشر. فإذا قررت حكومة أوروبية إصدار سندات دائمة، ستستمر في تثبيت المعدلات المنخفضة للفائدة الخاصة بها إلى الأبد. ومن ناحية أخرى، إذا قررت الحكومة إصدار سندات عادية جديدة لتجديد مخزون المصرف المركزي الأوروبي من السندات المستحقة، قد تضطر إلى دفع معدلات أعلى للفائدة.
وتتمتع السندات الدائمة التي تصدرها الحكومات الأوروبية في شكل مباشر بميزة إضافية مهمة، فهي أكثر ديمقراطية.و في الوقت الحالي، يتولى المصرف المركزي الأوروبي إنشاء الديون الدائمة، وهو المؤسسة التي لا تستجيب في شكل مباشر لجمهور الناخبين في أي دولة عضو بعينها.
فالمصرف يسترشد بتفويض ضيق الحفاظ على استقرار الأسعار في الأجل البعيد في مختلف أنحاء منطقة اليورو. وهذا ليس التفويض الذي ينبغي أن يوجه الاستجابة المالية من قبل الحكومات الأوروبية لحالة الطوارئ الناجمة عن “كوفيد-19”. فهي ملزمة أمام مواطنيها بمواجهة هذه الحالة الطارئة بأي وسيلة ضرورية. ولا بد أن يتضمن ذلك إصدار سندات دائمة بسبب مزاياها المرافقة.
(جورج سوروس هو رئيس “إدارة صندوق سوروس” و”مؤسسات المجتمع المفتوح” Open Society Foundations، وهو أحد رواد صناعة صناديق التحوط hedge-fund industry، ومؤلف كتاب “كيمياء المال”، وكتاب “دفاعاً عن المجتمع المفتوح”، فضلاً عن عديد من الكتب الأخرى)
جورج سوريس
اندبندت عربي