لا غلوّ في القول إن لبنان يعيش وضعاً سيريالياً، بمعنى مزيج عجيب غريب من التناقضات والتفاعلات، والانقسامات والاشتباكات والتسويات، والفضائح والصعود والهبوط والتقدّم والتراجع، ما يعجز المرء معه عن إعطائه توصيفاً دقيقاً. مع ذلك، وجدتُ بعد طول عناء أن التوصيف الأقرب إلى الصحة، هو أنه في حال حرب أهلية باردة. عانى لبنان حروباً أهلية ساخنة مراتٍ عدّة، كانت تدوم أسابيع أو اشهرا أو بضع سنوات، أما الحرب الأهلية الباردة فإنها حال مستدامة.. لماذا؟
لأن ظاهرة التعددية في لبنان عميقة، معقدة ومرهقة. آخر حروبه الأهلية الساخنة اندلعت سنة 1975 ولم تهدأ إلاّ بعد إقرار وفرض تنفيذ اتفاق الوفاق الوطني (الطائف) سنة 1990. الحرب الأهلية الباردة الراهنة اندلعت سنة 2005 بعد اغتيال رئيس الحكومة رفيق الحريري، وظلّت متواصلة بدرجات متفاوتة من الحدّة إلى أن بلغت إحدى أعلى ذراها باندلاع الانتفاضة الشعبية في 17 تشرين الأول/ أكتوبر سنة 2019 التي ما انفكّت تفور وتغور إلى يومنا هذا.. هل من بصيص نور في آخر نفق الاشتباكات المتمادية؟ ثمة صعوبة بالغة في التكهّن لأسباب عدّة أبرزها ثلاثة:
*أولها، كثرةُ اللاعبين المحليين، الناجمة عن التعددية العميقة والمرهقة، التي سبقت الإشارة اليها.
*ثانيها، تناقضُ المصالح والمطامح التي تمور في عقول اللاعبين المتصارعين وفي أعصابهم.
عانى لبنان حروباً أهلية ساخنة مراتٍ عدّة، كانت تدوم أسابيع أو أشهرا أو بضع سنوات، أما الحرب الأهلية الباردة فإنها حال مستدامة
*ثالثها، تجددُ الحرب العالمية الباردة بين كبار اللاعبين الدوليين، خصوصاً بين الولايات المتحدة ودول الاتحاد الاوروبي من جهة، وروسيا والصين من جهة اخرى، وانعكاس تداعيات هذه الحرب على صراعاتٍ سياسية وحروب أهلية أشعلها لاعبون إقليميون كبار كإيران وتركيا و»إسرائيل» وامتدت تداعياتها إلى دول مجاورة تعاني هي الأخرى حروباً أهلية باردة، كالعراق وسوريا ولبنان، وحتى الكيان الصهيوني أيضاً.
أهمُ الحروب الباردة تلك المندلعة بين الولايات المتحدة ومعها «إسرائيل» ودول الاتحاد الأوروبي من جهة، وإيران ومن ورائها حركات المقاومة في بلدان المشرق العربي، كما روسيا من جهةٍ أخرى. لئن تبدو إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن جادة في العودة إلى الاتفاق النووي، إلاّ أنها حريصة أيضاً على محاولة انتزاع بعض التنازلات من إيران بشأن معدلات تخصيب اليورانيوم، وتحجيم صناعة الصواريخ الباليستية بعيدة المدى، وكذلك دعمها اللوجستي لحلفائها الإقليميين، ولاسيما سوريا وحركات المقاومة في لبنان وفلسطين المحتلة، كل ذلك بقصد أن تصون أمريكا أمن الكيان الصهيوني العدواني، وتضمن تفوّقه العسكري والتكنولوجي على جميع جيرانه وأعدائه في الإقليم. إيران ترفض التفاوض المباشر مع الولايات المتحدة، قبل مبادرة واشنطن إلى رفع (بمعنى إلغاء) عقوباتها عن طهران. كما ترفض إيران البحث في أي مسائل أخرى في أيّ مفاوضات مقبلة، باستثناء إجراءات العودة إلى الاتفاق النووي، والتزام أحكامه. إلى ذلك، ترفض إيران أيّ مساومة أو مقايضة بشأن دعمها حركات المقاومة سياسياً ولوجستياً.
بالعودة إلى الوضع السيريالي في لبنان، نجد انه من الصعوبة بمكان التوافق على تسوية مقبولة من اللاعبين الدوليين والإقليميين والمحليين، قبل توصّل أمريكا وإيران إلى اتفاق أو تسوية بشأن المسائل الخلافية بينهما. ذلك أن اللاعبين المحليين يعلمون جيداً أن واشنطن، كما طهران، حريصتان على ألاّ يمسّ تفاهمهما وجود ومصالح حلفائهما المحليين، ناهيك من «إسرائيل» التي تتخوّف كثيراً من تعاظم قدرات المقاومة في لبنان وقطاع غزة من جهة، وتتبرم من تزايد شروط لبنان لضمان حقوقه في المفاوضات غير المباشرة لترسيم الحدود البحرية بينهما من جهة أخرى. إلى ذلك، ثمة احتمال بالغ الخطورة يكتنف وضع لبنان السيريالي، بل حدته الوطنية والسياسية، فقد توالت الانفجارات والصدامات والفضائح السياسية والاقتصادية والقضائية، على نحوٍ بات يُشكل خطراً على البلاد والعباد. آخر الفضائح القضائية المدوّية قيام النائبة العامة الاستئنافية في جبل لبنان غادة عون، رغم قرار مجلس القضاء الأعلى بكف يدها، عن التحقيق في الجرائم المالية، بمداهمة شخصية مرتين خلال أقل من 48 ساعة لمقر شركةٍ للصيرفة، وكسر بابه الحديدي وخلع الأدراج وحصولها تالياً على ملفات ومستندات ومعلومات تتعلق بتحويل مبالغ ضخمة من الدولارات الأمريكية بصورة مخالفة للقانون على ما يبدو الى مصارف في الخارج، الأمر الذي حمل وزيرة العدل ماري كلود نجم على إحالة القضية بكل أطرافها وأبعادها إلى إدارة التفتيش القضائي للتحقيق، بعدما اعترفت بأن القضاء بات مهترئاً وأن عليه القيام بانتفاضة لإصلاح نفسه.
كل هذه الانفجارات والصدامات والفضائح قد تفضي إلى فوضى شاملة، وإلى تفكيك ما تبقّى من هيكلية الدولة الهرمة، التي ينخرها الفساد على جميع المستويات، وإلى قيام بعض الأحزاب السياسية القوية أهلياً، والمقتدرة اقتصادياً وعسكرياً، بالسيطرة على مناطق تتمتع فيها بأرجحية شعبية وأمنية وازنة، ما يؤدي تالياً إلى تحويل لبنان إلى جمهورية كونفدرالية تغطّي تقسيماً سياسياً وجغرافياً قابلاً للاستمرار. والمؤسف أن القوى الوطنية والتقدمية العابرة للطوائف والمناطق والطبقات، لم تتمكن بعد من تعبئة صفوفها في إطار جبهة أو ائتلاف وطني عريض، ذي رؤية وبرنامج متكاملين لبناء كتلة شعبية وازنة، تشكّل نقيضاً وبديلاً من الشبكة الحاكمة والمتحكمة التي تكاد تُجهز على وحدة البلاد ومصير العباد.
القدس العربي