ما خطر التضخم المتوقع في الاقتصاد العالمي؟

ما خطر التضخم المتوقع في الاقتصاد العالمي؟

أثارت أرقام مؤشرات عدة هذا الأسبوع مخاوف الأسواق والمستثمرين مجدداً من ارتفاع معدلات التضخم في الاقتصادات الرئيسة، ما قد يدفع إلى تغيير السياسات النقدية بأسرع مما هو مقدر سلفاً. وعلى الرغم من أن الأسواق تتحسب منذ أشهر لموجة تضخم مرتفع هذا الصيف، مع خروج أغلب اقتصادات العالم من أزمة وباء كورونا بانتعاش اقتصاد قوي وسريع، إلا أن الأرقام الأخيرة جددت حالة الذعر بين المستثمرين.

وهذه الحالة لم يمنعها تكرار البنوك المركزية الرئيسة، مثل الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي) الأميركي والبنك المركزي الأوروبي، مراراً، أن موجة التضخم المقبلة مؤقتة ومفهومة في إطار الشلل الذي أصاب الاقتصاد العالمي العام الماضي بسبب وباء فيروس كورونا “كوفيد-19”. حتى أن تلك البنوك المركزية أعلنت استعدادها للقبول بمعدلات تضخم أعلى من المستهدف (في حدود 2 في المئة) قبل أن تغير سياستها.

خلال الأسبوع، أعلنت الصين، ثاني أكبر اقتصاد في العالم، أن مؤشر أسعار المنتجين لشهر أبريل (نيسان) ارتفع بنسبة 6.8 في المئة، أي بأعلى من المتوقع عند 6.5 في المئة. بعد ذلك بيوم صدرت أرقام مؤشر أسعار المستهلكين في الولايات المتحدة، أكبر اقتصاد في العالم، لتشير إلى ارتفاع المؤشر في أبريل بأسرع وتيرة منذ 13 عاماً بنسبة 4.2 في المئة.

زاد ذلك من اضطراب السوق وضاعف من قلق المستثمرين بشأن استمرار ارتفاع معدلات التضخم بما لا يترك فرصة أمام البنوك المركزية لمحاولة الحد منه، برفع أسعار الفائدة والتخلي عن ضخ النقد في السوق عبر برامج شراء الأصول بمليارات الدولارات.

مخاوف مبررة

تعني تطمينات البنوك المركزية أن موجة التضخم الحالية، حتى لو استمرت خلال فصول الصيف مع تراجع أزمة وباء كورونا أكثر، هي ردة فعل على انكماش العام الماضي، ولن تلبث أن تستقر، وهي لا تشكل خطراً على الاقتصاد على المدى الطويل، بينما يتطلب لجمها رفع سعر الفائدة.

لكن الأسواق تجد مبرراً للتخوف من ألا تكون موجة تضخم انتقالية، بل تصمد وتزيد ضغوطها لمدى أطول. في تلك الحالة، يفقد المستثمرون سواء في الأسهم والأصول عالية المخاطر أو السندات، قيمة العائد على استثماراتهم بعد عام، نتيجة ارتفاع معدل التضخم وسعر الفائدة.

يرى بعض المحللين أن المشكلة في قلق السوق ومخاوف المستثمرين، أنه في السنوات الأخيرة دخل كثير من المستثمرين السوق ليتعاملوا على أساس أن الارتفاع دائم والعائد الكبير والربح الضخم مستمر. وبالفعل، كثير من هؤلاء المستثمرين الذين دخلوا السوق ما بعد الأزمة المالية العالمية في 2008، لم يشهدوا موجات تضخم كالتي حدثت في الخمسينيات والسبعينيات من القرن الماضي.

هؤلاء المستثمرون المحدثون لا يمكن تهدئة مخاوفهم، وهم يرون مثلاً مؤشر “ناسداك” لشركات التكنولوجيا يهبط منذ شهر مارس (آذار) الماضي. وشركات التكنولوجيا هي من الشركات سريعة النمو التي يحسب من يستثمر في أسهمها العائد والربح في ظل استمرار أسعار الفائدة كما هي لمدة عام مثلاً.

أما مستثمرو العائد الثابت، الذين غالباً ما تضم محافظهم تنويعاً من الأصول ما بين الأسهم والسندات، فإن ارتفاع سعر الفائدة ومعدل التضخم سيجعل العائد (المحدد بسعر فائدة ثابت مثلاً لسندات الدين) أقل قيمة فعلية.

في مقابلة مع “فاينانشيال تايمز”، يقول كبير المستشارين الاقتصاديين لشركة “أليانز” محمد العريان، الذي كان رئيس قطاع الاستثمار في مجموعة “بيمكو” للسندات، “كانت السنوات القليلة الماضية عظيمة للمستثمرين، لأن كل شيء كان يرتفع، كنت تكسب من الأسهم ومن السندات. أما الآن، فأنت تخاطر بخسارة الأموال في الناحيتين. إنه مناخ مرعب، وأنا سعيد أنني لست مسؤولاً عن إدارة أي أموال الآن”.

سبعينيات أم خمسينيات

في سياق المخاوف من الضغوط التضخمية واحتمالات ألا تكون مؤقتة، يشير المستثمرون والمحللون إلى أن ارتفاع الأسعار لم يعد قاصراً على النفط (مصدر الطاقة للنشاط الاقتصادي)، بل إن كل مدخلات الإنتاج ترتفع أسعارها، من النحاس وخام الحديد إلى الخشب ومواد البناء. أضف إلى ذلك استمرار تعطل سلاسل التوريد نتيجة إجراءات الإغلاق في عز أزمة وباء كورونا. كل ذلك يزيد من كلفة الإنتاج التي ستترجم إلى ارتفاع في الأسعار، بالتالي زيادة الضغوط التضخمية.

يشبه البعض احتمالات الارتفاع الكبير والسريع في الأسعار، وبالتالي معدلات التضخم، بما شهدته الاقتصادات المتقدمة في نهاية سبعينيات القرن الماضي. وقتها، اضطر رئيس الاحتياطي الفيدرالي بول فولكر إلى رفع سعر الفائدة في الولايات المتحدة حتى 20 في المئة، في محاولة لوقف ارتفاع معدلات التضخم.

لكن آخرين يرون أن موجة التضخم الحالية قد تشبه أكثر ما حدث مطلع خمسينيات القرن الماضي، مع الانتعاش الاقتصادي عقب الركود الشديد الذي صاحب سنوات الحرب العالمية الثانية. ومع استمرار نمو الاقتصاد بعد الحرب، استقرت معدلات التضخم بشكل جيد من دون الحاجة لإجراءات ثورية في السياسة النقدية.

لكن في كل موجات التضخم الكبيرة السابقة، كانت البنوك المركزية تتصرف ما إن ترى الضغوط التضخمية مقبلة، وذلك كتصرف استباقي لمنع الغليان في الاقتصاد. فترفع سعر الفائدة بما يزيد كلفة الاقتراض، ويضغط على المزايدات التي تؤدي إلى فقاعة ارتفاع غير مبررة في قيمة الأصول.

أما الآن، وبرأي كثير من الاقتصاديين، فإن التغيير الذي أحدثه وباء كورونا لن يقتصر على بعض قطاعات الاقتصاد، بل سيعني تحولاً في طريقة رسم السياسات واتخاذ القرارات على مستوى الحكومات والبنوك المركزية. بمعنى أنه إذا كانت البنوك المركزية تصرفت في السابق بشكل استباقي، فإنها الآن ستنتظر ليكون تصرفها بطريقة رد الفعل للاحتواء والضبط.

وما يخشاه المستثمرون، أن تكون موجة التضخم المقبلة في الصيف سريعة وقوية ومستدامة، بما يجعل تصرف البنوك المركزية لاحقاً بطريقة رد الفعل قاسياً. وهو ما يمكن أن يضر بالتعافي الاقتصادي عموماً، ويؤدي إلى موجة ركود جديدة قبل أن يتعافى الاقتصاد تماماً من أزمة وباء كورونا.

أحمد مصطفى

اندبندت عربي