القاهرة – عكس الجدل الديني الذي أثير مؤخرا في مصر حول ظهور مؤسسة مختصة في تطوير مساجد آل البيت وتشغيلها الكثير من القدسية التي تتعامل بها الأغلبية السكانية مع دور العبادة الصوفية، وهو ما ينطبق أيضا على الحكومة، لأنها كانت سببا غير مباشر في ظهور هذه المؤسسة على الساحة، رغم ندرة المعلومات المعروفة عنها.
ونفى المركز الإعلامي لمجلس الوزراء المصري قرار إسناد إدارة مساجد آل البيت، وعلى رأسها مسجد الحسين بالقاهرة لهذه المؤسسة التي تحمل اسم “مساجد”، لكنه لم يُنكر نقلا عن وزارة الأوقاف وجود تعاقد مع هذا الكيان يقتصر على تنفيذ أعمال تطوير ونظافة وصيانة من دون إسناد الإدارة لأيّ جهة كانت.
وظلت مؤسسة “مساجد” مجهولة للكثيرين في مصر، لكن برز اسمها قبل أيام لارتباطها بمساجد آل البيت، وهي دور العبادة التي تمثل للكثيرين خطا أحمر لا يجوز الاقتراب منه لا من الحكومة أو أيّ جهة خاصة إلا عبر أعمال التطوير والتحديث التي تعيد هذه المساجد إلى رونقها كمزار إسلامي.
سامح عيد: الاهتمام بمساجد آل البيت يدحض كل تحرك مضاد يقوم به السلفيون مستقبلا
ومن خلال ما رصدته “العرب” ووفق الحساب الرسمي لـ”مساجد”، فإنها تقول عن نفسها “مؤسسة خيرية لا تهدف إلى الربح، وتهتم بإعادة ترميم مساجد آل البيت وتطويرها ورفع كفاءتها بالتعاون مع وزارة الأوقاف وتحت إشراف الهيئة الهندسية للقوات المسلحة”، وتم إشهارها رسميا في عام 2019، لكنها ظهرت في الصورة بوضوح بعد ذلك.
وتجلى الظهور في اتفاق عقد بين مؤسسة “مساجد” ومجلس إدارة مسجد الحسين، حضر مراسمه إبراهيم محلب مستشار رئيس الجمهورية للمشروعات القومية والاستراتيجية، وأسامة الأزهري مستشار رئيس الجمهورية للشؤون الدينية، ومختار جمعة وزير الأوقاف، وشوقي علام مفتي الجمهورية، وعلي جمعة المفتي السابق والرئيس الشرفي لمؤسسة “مساجد”.
آنذاك، تبرعت المؤسسة بمبلغ 150 مليون جنيه (نحو 8 ملايين دولار) بشكل مبدئي نظير عملية تطوير مسجد الحسين.
وحسب البروتوكول، فإن دور “مساجد” يشمل إعادة تأهيل المسجد من أرضيات وأسقف ومعالجة الأساسات وتحديث أنظمة المراقبة والإنذار ومكافحة الحريق وتزويد المسجد داخليا وخارجيا بأحدث أنظمه الصوت.
وأصبحت المؤسسة، حسب الاتفاق، مسؤولة عن التشغيل والصيانة والنظافة بمسجد الحسين بعد انتهاء أعمال التطوير. لكن لم يُثر النقاش الديني والمجتمعي المحتدم حول دورها في مساجد آل البيت إلا عقب افتتاح الرئيس عبدالفتاح السيسي قبل أيام أعمال تطوير مسجد الحسين وتفقد مقتنياته.
ولا يستبعد مراقبون أن تكون المؤسسة تابعة للطرق الصوفية التي تملتك قدرات مالية كبيرة، وتتعامل بقدسية غير محدودة مع مساجد آل البيت، وترغب في إحكام السيطرة عليها وإبعادها كليّا عن أيّ نفوذ أو تشدد سلفي، بحكم الصراع الخفي والتاريخي بين التيارين، الأمر الذي تسبب في الكثير من المنغصات السياسية للحكومات المتعاقبة.
وتستقطب مساجد آل البيت الملايين من المصريين الذين يتعاملون معها بطريقة روحية ووجدانية، لذلك اتخذت الحكومة نهجا جديدا وغير معهود على الأنظمة السياسية السابقة، بأن تعاملت بنفس القدر من الاهتمام والرعاية لهذه المساجد، وعملت على تطوير الأضرحة وإسناد مهام التطوير والتحديث إلى القوات المسلحة.
ويُطلق لفظ مساجد آل البيت في مصر على كل مسجد يحمل اسم شخصية تنحدر من نسل الحسن والحسين سبطي النبي محمد (ص)، ومن أهمها وأكبرها مسجد الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب، ومسجد السيدة زينب، ومسجد السيدة نفيسة، ومسجد السيدة عائشة، في وسط القاهرة.
وترتبط قدسية مسجد الحسين عند الأغلبية المسلمة في مصر بأنه أحد أقدم مساجد القاهرة، وأبرز الأماكن الإسلامية التي تحمل طابعا روحانيا، ويرتاده الناس لأخذ البركة، إذ تنتشر رواية أنه يضم ضريح حفيد الرسول الإمام الحسين، وهناك رواية أخرى تقول إن رأسه فقط مدفونة بالضريح، كما يضم مقتنيات أثرية للنبي محمد، منها أقدم نسخة من القرآن.
ويحمل التحرك الحكومي اتجاها نحو تحصين مساجد آل البيت من أيّ استغلال سياسي، وهذا يدعمه الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي شخصيا، لكنّ هناك أهدافا غير معلنة تتمثل في تصفية الوجود السلفي الخفي في هذه المساجد، مقابل الحصول على دعم التيارات الصوفية التي يتخطى عدد المنتمين إليها عشرة ملايين مواطن، من سماتهم الأساسية الاعتدال والتصوف والزُهد وتجنب الدخول في السياسة.
ولأن الحكومة في حاجة إلى تيار إسلامي في المشهد في ظل السقطات المتكررة للسلفيين وعدائهم للأقباط وتبنيهم خطابا دينيا متشددا، ومع تصاعد العداء بين الإخوان والسلطة، فإن البديل الأكثر أمانا وراحة للنظام أن يكون هناك تقارب مع الصوفيين، كتيار اعتاد ألا يدخل في خصومة مع الحاكم، وتكفيهم سيطرتهم على مساجد آل البيت.
التحرك الحكومي يحمل اتجاها نحو تصفية الوجود السلفي الخفي في مساجد آل البيت، مقابل الحصول على دعم التيارات الصوفية
وقال سامح عيد الباحث المتخصص في شؤون التيارات الإسلامية لـ”العرب” إن اهتمام الرئيس المصري بمساجد آل البيت يدحض كل تحرك مضاد يقوم به السلفيون لافتعال أزمة دينية سياسية مستقبلا، لأن الصوفية بطبيعتها تيار متسامح منفتح يعادي التطرف، وهذه خطوة يمكن أن تسرّع من إزاحة السلفية من المشهد العام.
وتبدو هذه الرسالة مفهومة للتيارين الصوفي والسلفي، فالأول يعتقد أنصاره دائما أن اقتراب الحكومة من تطوير مساجد آل البيت الذين ينحدرون من نسل النبي محمد مغازلة سياسية لهم من جانب السلطة، فيما يتأكد الفصيل الآخر (السلفي) أن هذه محاولة جديدة لتقزيم نفوذهم الديني، وإبعادهم عن المشهد، وتطويق تحركاتهم على الساحة.
أمام هذا المشهد، رأت الحكومة ضرورة وجود مؤسسة مدنية مستقلة، تقوم بمهمة الإشراف والتطوير لمساجد آل البيت لإخراج السلطة من هذه اللعبة، وتكون هذه المساجد تابعة لها وتحت مظلتها، ويكفي أن السيطرة عليها يجلب للحكومة مكاسب أخرى مرتبطة باستتباب الأمن وتدخلها فورا لمنع أيّ استقطاب ديني.
ورغم نفي مجلس الوزراء أن تكون للمؤسسة علاقة بإدارة مسجد آل البيت أو أيّ مساجد أخرى تابعة لوزارة الأوقاف، فإن الصفحة الرسمية لمؤسسة “مساجد” على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك تقول عكس ذلك، فهي دائما ما تحدد مواعيد زيارة الأضرحة والدخول إلى مسجد الحسين والخروج منه، ما أثار حفيظة بعض مرتادي المسجد.
وطرح أحد مرتادي مسجد الحسين سؤالا للقائمين على إدارة صفحة مؤسسة “مساجد” مفاده: مساجد آل البيت موجودة منذ سنوات ويستمتع بها الناس، لماذا تغلقون المكان بأسوار حديدية، وتنظمون الدخول والخروج بهذه الطريقة، من أنتم حتى تتحكموا في الناس بذلك الأسلوب وتمنعوننا من زيارة آل البيت؟
وأجابت إدارة الصفحة بالقول “وجود أفراد أمن على بوابات ساحة مسجد الحسين الهدف منه تسهيل دخول المصليين وخروجهم والحفاظ على غلق الساحة في غير مواعيد الصلاة والتنظيف المستمر للساحة بين كل موعد صلاة وأخرى استعدادا لاستقبال المصليين في الصلاة التالية.. وبخصوص فترات الموالد سوف يتم فتح الساحة للزوار وتنظيم وتسهيل دخول الزائرين إلى المسجد والساحة والمقام وخروجهم بشكل حضاري، وسيتم وضع المقتنيات النبوية في متحف داخلي”.
وتعكس هذه الطريقة أن الحكومة بالفعل أسندت مهمة الإدارة إلى مؤسسة “مساجد”، وهذا يصعب فصله عن توجه وزارة الأوقاف لأن يكون التطوير في دور العبادة ذات القدسية عند الناس أبعد من الوقوف عند الجدران، بل الأهم في الطريقة التي تدار بها هذه المساجد طالما جرى توظيفها لسنوات لصالح تيارات متشددة.
وكثيرا ما يشهد أداء الصلاة في المساجد التي تضم أضرحة ومقامات احتكاكات بين أتباع السلفية والصوفية، وفي ظل الصراع المكتوم بين الفريقين تحمل بعض الخطوات الرسمية في اتجاه التمكين والسيطرة معاني سياسية وأمنية واجتماعية تخدم الحكومة في المقام الأول، وتقربها من الصوفية كتيار معتدل له قوة في الشارع من ناحية ثانية.
ويبدو ذلك واضحا في البيانات الرسمية التي تصدر عن نقابة الأشراف والطرق الصوفية في مصر، ودائما ما تحمل إشادة واسعة وترحيبا غير محدود باهتمام السيسي وحكومته بمساجد آل البيت، ما يوحي بأن السلطة تريد ضمانة وقوف هذا العدد إلى جوار الدولة، كتيار إسلامي، وككتلة قوية يمكن التعويل عليها ضد أيّ تحرك خفي أو استقطاب سياسي مستقبلا.
وأضاف الباحث سامح عيد لـ”العرب” أن أكثر ما يخيف الشارع وجود مصلحة بين طائفة البهرة ذات الأصول الهندية، ومساجد آل البيت بأن يكون لهم يد في تطويرها والإشراف عليها بشكل خفي أو معلن، لكن الحكومة لن تسمح بذلك، وكل ما يمكن أن تقبل به أن تكون هناك سياحة شيعية محدودة لهذه المساجد.
العرب