راج اسم “إيران” مرة الأولى في عهد الساسانيين (224-651) ويقابلها “أنيران” وتعني بالفارسية “غير إيران”، والمنطقتان تابعتان للدولة الإمبراطورية الساسانية. غير أن هذا الاسم لا يحمل أي دلالات قومية كما حمله المستشرقون الأوروبيون لأسباب استعمارية في القرن التاسع عشر والعشرين ومن ثم المؤرخون الإيرانيون في القرن العشرين، بل أن “إيران” و”أنيران” يحملان معنىً دينياً زرادشتياً، حيث كان الدين – خلافاً لعالمنا الحديث – أهم صبغة وسمة للإمبراطوريات في العالم خلال القرون الوسطى.
وقد فقد هذا الاسم معناه بعد الفتوحات الإسلامية والتي شارك فيها العرب وغير العرب بل والمعارضين “الإيرانيين” للحكم الساساني. إذ استولى العرب – الأمويون ومن ثم العباسيون – على بلاد فارس التي كانوا يصفونها بهذا الاسم حتى عام 1935. واختفى اسم إيران سياسياً لمدة تسعة قرون – من القرن السابع حتى القرن السادس عشر الميلادي– بشكل شبه نهائي حيث لم نر هذا الاسم حتى في كتاب “تاريخ جهانكشا” وهو أهم كتاب تاريخ باللغة الفارسية، ألّفه عطا ملك الجويني في القرن السابع الهجري حول الوضع السياسي والاجتماعي في ما تسمى حالياً إيران، خلال حكم دولتي المغول والخوارزمية في هذه البلاد من دون أن يذكر المؤلف، ولا مرة واحدة، اسم إيران.
واقتصر اسم إيران على حقلي الجغرافية والأدب، بل كان يدل أحياناً على مناطق غير تلك التي يقال إنها إيران حالياً، وهذا ما نشاهده في توصيف الشاعر الملحمي الفارسي ابي القاسم الفردوسي لإيران في ديوان الشاهنامة.
وفي العهد الصفوي الذي يعتبره القوميون الإيرانيون فترة انطلاق القومية الإيرانية وإقامة ما يسمى بالدولة الوطنية الإيرانية، لم نشهد إطلاق اسم إيران على الدولة الصفوية التي حكمت لاكثر من قرنين (1501-1722)، إذ يشير الباحث في وزارة الخارجية الإيرانية باقر صدري نيا إلى عقدٍ تم توقيعه بين الحكومة البريطانية والشاه عباس الصفوي – أكبر وأهم ملوك الصفوية – يذكر فيه أنه “بشهادة الوثائق والنصوص التاريخية كان مصطلح ‘الممالك المحروسة’ رائجاً في العصر الصفوي كمصطلح سياسي. وفي اتفاقية متبقية من عهد الشاه عباس الأول في هذا العصر، والتي عُقِدت بين إيران وبريطانيا – وكما يبدو أنها أول اتفاقية مفادها ومادتها مرتبة ومنسقة بالطريقة الغربية – ذُكر مصطلح الممالك المحروسة [Guarded Kingdoms] تسعة عشر مرة، في العنوان والمقدمة وفي المواد البالغ عددها عشرين، ومن تلك التسعة عشر مرة، ثلاث مرات ذُكرت بـ “الممالك الشاهية المحروسة”، ومرتان “الممالك المحروسة” و”بلاد الملك”، ومرّة ذُكر المصطلح بشكل “الممالك المحروسة الشاهية وبلاد الملك”، وأتت بقية الاستخدامات كلها “الممالك المحروسة”. ولا نشاهد في أي جزء من هذه الاتفاقية ذِكراً لتعبير “ممالك إيران المحروسة”. وفي الحقيقة استُخدمت عبارة “الممالك المحروسة” بدل إيران، ولم يُذكر اسم إيران في أي قسم ومادة في الاتفاقية”.
ويوصف نادر شاه الأفشاري بأنه ملك إيران ومن أصول تركمانية، لكن الدولة الافشارية استمرت على النهج الصفوي باختيارها النظام الإداري والسياسي المعروف بالممالك المحروسة، ونفس الشيء نشاهده في الحقبة الزندية حتى القرن التاسع عشر وظهور أولى بوادر البحوث الاستشراقية في فرنسا أولاً ومن ثم في ألمانيا وبريطانيا حيث كشفت أوساطها الأكاديمية الجذور المشتركة للغات الهندية والإيرانية والأوروبية وطرحت فرضية عائلة اللغات الهندو-الأوروبية. غير أنها لم تكتف بذلك وحولت تلك النظرية اللغوية إلى نظرية عرقية عنصرية خدمةً للمصالح الاستعمارية في آسيا والشرق الأدنى.
وزاد استخدام اسم “إيران” بعد ثورة الدستور (1905-1906) غير أنه لم يصبح اسماً رسمياً إلا في مارس 1935، بعدما أبلغت سلطة الشاه رضا البهلوي الدول الخارجية بذلك، لتغير مخاطبتها بالدولة الإيرانية بدل الدولة الفارسية. ويبدو أن الإغريق كانوا أول من أطلق تسمية “برسيا” أي بلاد فارس على إيران الحالية، على رغم أنها كانت – ولا تزال – تضم أعراقاً وقوميات مختلفة وليس الفرس فقط.
الانفصام في الهوية الإيرانية ودور الشعوب غير الفارسية
إذا صنفنا ثورة الدستور بأنها ثورة الطبقة البرجوازية ضد استبداد الدولة القاجارية فإن البرجوازية الفارسية كان لها الدور القيادي في تلك الثورة، تليها مشاركة البرجوازية التركية الأذرية، لكن بعد ذلك، انبثقت السلالة البهلوية من أحشاء القومية الفارسية بعدما شعرت أنها لم تتمكن أن توحّد إيران لمصلحة سلطتها الاحتكارية إلا بالحديد والنار.
إذ تُعد ثورة الدستور منطلقاً للانفصام في الشخصية الإيرانية على مستوى الفرد والمجتمع وذلك بين الاتجاهين الديني والعلماني وهذا الانفصام مستمر حتى اللحظة. كما أن التيار الديمقراطي فيها كان خجولاً ولم يستطع أن يقاوم التيار القومي الفارسي المشبع بمعاداة العرب والذي سرعان ما تحول إلى تيار معاد للآخر غير الفارسي، على رغم ثقل الأتراك الأذريين في الثورة ودورهم الحاسم في هزيمة الثورة المضادة للشاه محمد علي القاجاري وكذلك البختياريين الذين أسهموا في حصار طهران العسكري وطرد الشاه المذكور وتنصيب ابنه – الموالي للثورة – مكانه. ولا ننسى ما قام به حاكم مملكة عربستان آنذاك الأمير خزعل الجابر في دعمه المالي لقوات البختياريين وكذلك للأتراك الثوريين الذين كانوا محاصرين في تبريز عاصمة إقليم أذربيجان. ولو لم يكن نضال الشعوب غير الفارسية لما انتصرت ثورة الدستور.
لقد شعرت الشعوب غير الفارسية بالخذلان بعدما حول الشاه رضا البهلوي في 1925 إيران من بلد يتمتع بنظام فيدرالي يوصف بنظام “الممالك المحروسة” أو “الممالك المتصالحة” إلى بلد ذات مملكة واحدة بلغة فارسية واحدة لا تعترف بالتعدد القومي والإثني في إيران، بل قام قادتها خلال القرن المنصرم بفرض اللغة والثقافة الفارسيتين على غير الفرس بالقوة الناعمة من جهة والخشنة من جهة أخرى، استخدموا خلالها السلاح والسجون والإعدام.
وكان رد فعل هذه الشعوب على ما قام به الشاه رضا البهلوي: إقامة جمهورية التركمان في منطقتهم المعروفة بـ “تركمان صحراء” في عام 1926، وحكومة الحويزة في عربستان بقيادة محي الدين الزيبق في 1928 ومن ثم سلطة الحكم الذاتي في إقليم أذربيجان وتوأمها جمهورية مهاباد في كردستان إيران (1945-1946) ، واستمرت انتفاضات الشعوب وتمردها ضد الاضطهاد القومي خلال حكم عائلة بهلوي (1925-1979) لكنها لم تنجح لأسباب مختلفة.
الصراع حول الهوية بعد الثورة الإسلامية
فجرت ثورة فبراير (شباط) 1979 الطاقة الكامنة بين القوميات المختلفة لتُنجب حركات قومية ووطنية تناضل من أجل حقوقها، غير أن الحكم الإسلامي الوليد نفّذ نفس سياسات النظام الملكي في ضرب هذه الحركات. وبعد أن قضى على آمال وطموحات العرب والأذريين والتركمان في العامين الأولين بعد الثورة، لم يتمكن من سحق الحركة الكردية إلا بعد عشر سنوات من قيام الثورة. صحيح أن هذه الشعوب لم تتمكن من إقامة كياناتها الخاصة كسلطة الحكم الذاتي ضمن جغرافية إيران لكنها ناضلت وضَحّت من أجل ذلك وكونت تراكماً نضالياً يفيدها في المستقبل. كما حاولت أن تستغل الانفتاح الذي نادى به الإصلاحيون في عهد الرئيس محمد خاتمي (1997-2005) إلا أن الإصلاحيين لم يكونوا صادقين في وعودهم حتى في تنفيذ ما جاء في دستور الجمهورية الإسلامية من حقوق بسيطة للقوميات، بل وإثر اشتداد النضال، تحول معظمهم إلى صفوف القوميين الفرس. وقد ختمت الشعوب غير الفارسية بمهرها الانتخابات الرئاسية الإيرانية في كل مراحلها منذ عام 1997 فصاعداً، ما عدا الانتخابات الأخيرة التي أصبح فيها إبراهيم رئيسي رئيساً للجمهورية من دون حتى أي منافسة تذكر بين الأجنحة الحاكمة. كما شاهدنا مشاركتها في الانتفاضات التي عمت إيران منذ عام 2017 مروراً بانتفاضة 2019 والأهم من كل ذلك، انتفاضة عام 2022 التي هزت أركان النظام الإيراني. لقد انطلقت الأخيرة من إقليم كردستان إثر قتل شرطة الآداب إمرأة كردية في طهران بسبب عدم مراعاة الحجاب. ولهذا القتل دلالات رمزية إثنية. وقد استمرت الاحتجاجات والتظاهرات منذ منصف سبتمبر (أيلول) حتى اللحظة، على رغم خفوتها في معظم مناطق إيران، لكن المنطقة الوحيدة التي تخرج جماهيرها كل يوم الجمعة وتهتف ضد النظام حتى اللحظة، هي إقليم بلوشستان الذي يضم غالبية بلوشية سنية.
في الحقيقة حصلت الحركات القومية غير الفارسية على جرعة نضالية إضافية خلال العقود الثلاثة المنصرمة أي مذ أعلنت جمهورية أذربيجان استقلالها عن الاتحاد السوفياتي وروسيا في عام 1999 وأقام الكرد في العراق كيانهم الوطني ضمن نظام فيدرالي تعددي. لقد أثّر هذان الحدثان الهامان على أبناء جلدتهم في إيران أي الأتراك الأذريين والأكراد، حيث أصبح الحراك غير الفارسي حراكاً ذو أبعاد ثقافية وسياسية وعسكرية أحياناً في أقاليم أذربيجان وكردستان وعربستان وبلوشستان.
وفي الانتفاضة الأخيرة التي عمت كل إيران، اقترضت هتافها الرئيس “المرأة، الحياة، الحرية” من الأدب السياسي والنضالي الكردي. ويبدو أن بؤرة بلوشستان المشتعلة حالياً ستعم كل أقاليم إيران ومدنها آجلاً أم عاجلاً، نظراً لعجز النظام الإيراني عن تقديم حلول أساسية لمعضلات بنيوية تعاني منها البلاد منها الاقتصادية والإثنية وقضية اضطهاد المرأة والفصل الحاد بين الجنسين.
اندبندت عربي