في زيارة وصفت بالنادرة، توجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الشرق الأوسط في زيارة رسمية شملت دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، وقد تابع الإعلام هذه الزيارة باهتمام، إذ وصفت تقارير صحافية الزيارة بالقول؛ «أحاطت بالطائرة الرئاسية الروسية أربع طائرات مقاتلة، في رحلة نادرة يوم الأربعاء 6 ديسمبر الجاري إلى الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، وهما دولتان خليجيتان غنيتان بالنفط قاومتا الضغوط الأمريكية للاصطفاف مع العقوبات الغربية، التي فرضت على روسيا إثر اندلاع الحرب في أوكرانيا».
وفي أجواء التوتر التي يعيشها الشرق الأوسط على خلفية العدوان الإسرائيلي على غزة، تأتي زيارة بوتين إلى المنطقة، ويبدو أن موسكو أحد أكبر المستفيدين من الحرب في غزة، إذ أن بوصلة الاهتمام العالمي والدعم الغربي، تحولت من الحرب في أوكرانيا إلى الحرب في غزة، ما منح بوتين متنفسا حقيقيا بعد كل الضغوط الخانقة التي مارسها الغرب بقيادة الولايات المتحدة على موسكو، لذلك جاءت رحلة بوتين وسط علامات على تآكل الدعم في الولايات المتحدة لأوكرانيا، التي تحاول بشكل محموم تأمين المزيد من المساعدات الغربية لجهودها لطرد القوات الروسية من أراضيها.
يبدو أن موسكو أحد أكبر المستفيدين من الحرب في غزة، إذ أن بوصلة الاهتمام العالمي والدعم الغربي، تحولت من الحرب في أوكرانيا إلى الحرب في غزة، ما منح بوتين متنفسا حقيقيا
كما ألمح عدد من المراقبين إلى قرار المحكمة الجنائية الدولية القاضي بإلقاء القبض على فلاديمير بوتين بتهمة ارتكاب جرائم حرب في أوكرانيا، الأمر الذي دفع بالرئيس الروسي إلى تقليل زياراته الخارجية، ولم تشمل زياراته الخارجية إلا دولا حليفة مثل إيران والصين، وقد امتنع عن حضور قمة البريكس في جوهانسبرغ في أغسطس الماضي، لأن جنوب افريقيا من الدول الموقعة على نظام روما الأساسي، لكن زيارته الأخيرة إلى الإمارات والسعودية جاءت على خلفية عدم تصديق الدولتين على نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وبالتالي فإنهما غير ملزمتين باعتقال الرئيس الروسي. وفي تسجيل متلفز وصف الرئيس الإماراتي، الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، الرئيس بوتين بأنه «صديقه العزيز» في بداية محادثاتهما، وذكرت وكالة الأنباء الإماراتية الرسمية أن فلاديمير بوتين ومحمد بن زايد ناقشا في اجتماعهما إمكانية تطوير العلاقة بين بلديهما إلى «شراكة استراتيجية». وذكر التقرير أنهما تحدثا أيضا عن الحرب في غزة والحاجة إلى العمل نحو سلام دائم في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني والتطورات في أوكرانيا. وقالت وكالة الأنباء الإماراتية إن بن زايد أعرب عن رغبته في «مد جسور التعاون والتنمية مع مختلف دول العالم». وقال بوتين لنظيره في القصر الرئاسي «اليوم، بفضل موقفكم، وصلت علاقاتنا إلى مستويات غير مسبوقة»، مضيفا أن الإمارات «الشريك التجاري الرئيسي لروسيا في العالم العربي». وبعد وصول الرئيس بوتين إلى المملكة العربية السعودية، وصفه ولي عهد المملكة محمد بن سلمان، بأنه «صديق عزيز، وضيف عزيز جدا على المملكة». وقال الأمير محمد للرئيس الروسي في مقطع فيديو نشرته الحكومة السعودية: «لدينا فرص كبيرة أمامنا في المستقبل». وأخبر بوتين ولي العهد أنه استغل دعوته «للحضور والتحدث معك ومع جميع أصدقائنا»، وأصر على أن اجتماعهم المقبل «يجب أن يكون في موسكو».
تشكل زيارة بوتين إلى الإمارات والسعودية، في هذا الوقت، أهمية خاصة وحيوية لبلاده التي تعتبر من جهة أبوظبي شريكا اقتصاديا رئيسيا في منطقة الخليج، اعتبارا لكون حجم التبادل التجاري بين البلدين يزيد عن نصف حجم إجمالي التبادل التجاري مع دول مجلس التعاون الخليجي، كما ترى روسيا أيضا أن علاقتها مع السعودية خاصة لأنها تشكل ضمانة لاستقرار منظمة (أوبك بلس) وأسواق النفط العالمية، لذلك أشار المراقبون في موسكو إلى الملفات التي تمت مناقشتها في اللقائين، إذ تم التأكيد على تقديم مزيد من الدعم لاتفاق (أوبك بلس) الذي يدفع باتجاه خفض إنتاج النفط، ما يعزز السياسة الروسية الساعية لتجنب تأثير العقوبات الغربية المفروضة عليها بسبب الحرب في أوكرانيا. ومن جهة أخرى، تكتسب الزيارة أهمية مرتبطة بترؤس روسيا مجموعة بريكس العام المقبل، وسط سعيها لإقناع الإمارات والسعودية بالانضمام إليها في أفق تعزيز مكانتها وجعلها قوة اقتصادية عالمية.
ويتمتع فلاديمير بوتين ومحمد بن سلمان، اللذان يسيطران معا على خمس النفط الذي يتم ضخه يوميا، بعلاقات وثيقة منذ فترة طويلة، على الرغم من نبذ الغرب لكليهما في بعض الأحيان. وعند وصول طائرة الرئيس إلى الرياض، قال بوتين مخاطبا بن سلمان: «لا شيء يمكن أن يمنع تطوير علاقاتنا الودية»، وأضاف «من المهم للغاية بالنسبة لنا جميعا أن نتبادل المعلومات والتقييمات معكم بشأن ما يحدث في المنطقة. ومن المؤكد أن اجتماعنا يأتي في الوقت المناسب». وقال الأمير محمد بن سلمان إن التعاون الثنائي «ساعد في إزالة العديد من التوترات في الشرق الأوسط وساهم في تعزيز الأمن، وسيستمر في القيام بذلك في المستقبل». تحتاج موسكو والرياض إلى أسعار مرتفعة للنفط، وهو شريان الحياة لاقتصادهما. والسؤال هنا هو، ما هو حجم العبء الذي يتعين على كل منها أن تتحمله للإبقاء على الأسعار مرتفعة؟ وكيف يمكن التحقق من مساهماتهما في تخفيض الإنتاج ليتسنى لأسواق الطاقة العالمية أن تحافظ على أسعار مقبولة للبترول؟ علما أن (أوبك بلس) كانت قد أجلت اجتماعات الشهر الماضي لعدة أيام بسبب الخلافات حول مستويات الإنتاج. إذ قال وزير الطاقة السعودي إن (أوبك بلس) ما زالت تحتاج إلى المزيد من التفاهمات بين أعضائها. ونقلت وكالات الأنباء الروسية عن ديمتري بيسكوف المتحدث باسم الكرملين قوله، إن التعاون سيستمر داخل (أوبك بلس)، وقد عُقد الاجتماع بعد انخفاض أسعار النفط، على الرغم من تعهد (أوبك بلس) بخفض الإنتاج بشكل أكبر. ونقلت وكالة إنترفاكس للأنباء عن بيسكوف قوله: «تحدثنا مرة أخرى عن التعاون في أوبك بلس، وقد اتفقت جميع الأطراف على أن بلدينا (روسيا والسعودية) يتحملان مسؤولية كبيرة في التفاعل من أجل الحفاظ على سوق الطاقة الدولية عند المستوى المناسب، في حالة مستقرة ويمكن التنبؤ بها.»
أما عل،ى صعيد الموقف من الحرب الدائرة في غزة، فإن الموقف الرسمي لروسيا منذ اندلاع الحرب في السابع من اكتوبر تمثل بتوجيه الاتهام للولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها مسؤولة عن التصعيد في المنطقة. في المقابل تدعي موسكو أنها تسعى للسلام وتفعل كل شيء من أجل إنهاء الحرب بين إسرائيل وحماس، لكن يبدو أن الحقيقة غير ذلك، إذ أشار الخبير الروسي في شؤون الشرق الأوسط رسلان سليمانوف في حديث متلفز إلى أن: «روسيا مستفيدة من التصعيد الحالي المستمر بين إسرائيل وحماس، ومن مصلحتها أن يستمر هذا التصعيد. وعلاوة على ذلك، كلما ازداد خطر اتساع رقعة النزاع، سيسعد ذلك الكرملين، إذ أنه سيلحق الضرر بالولايات المتحدة عدو روسيا الحقيقي». كما يرى عدد من المراقبين أن الحرب في غزة تمثل تحديا حقيقيا بالنسبة لواشنطن، وهذا التحدي هو نوع من الاختبار لكل النظام الذي بنته خلال أعوام طويلة، ومحاولتها تحقيق التوازن بين إسرائيل والدول العربية، لذلك أشار بعض الخبراء إلى إن: «روسيا ترقص فرحا الآن مع الصين ومستمتعة بالنظر إلى كامل الوضع، لأن من مصلحة روسيا أن تلتفت الولايات المتحدة وباقي دول الغرب إلى الشرق الأوسط، وليس إلى أوكرانيا، رغم إعلان واشنطن قدرتها على قيادة الحرب على جبهتين، لذلك أشار الرئيس بوتين في اجتماعي أبوظبي والرياض إلى أن روسيا تخوض معركة وجودية مع الغرب، وألمح إلى سعى موسكو لتوطيد علاقاتها مع الأصدقاء والحلفاء في الشرق الأوسط وافريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا، وسط محاولات غربية لعزل موسكو. ومن جانبهما سعى كل من محمد بن زايد ومحمد بن سلمان إلى إعادة تأكيد أدوار بلديهما كقوة إقليمية عبر ترسيخ العلاقات مع موسكو، مع احترام أقل للولايات المتحدة، التي تمتعت تاريخيا بعلاقات استراتيجية مع البلدين، لذلك يشوب الموقف اليوم ضبابا يمنع التكهن بما سيؤول إليه هذا التوازن الإشكالي على المدى المنظور.