بين نكبة الضياع 1948 ونكبة النهوض 2024

بين نكبة الضياع 1948 ونكبة النهوض 2024

تحل هذه الأيام الذكرى السادسة والسبعون للنكبة والشعب الفلسطيني يعيش في ظروف مختلفة لم يشهدها منذ نكبته الأولى. هناك شبه توافق على أن ما يجري الآن في غزة، خاصة والضفة الغربية بما فيها القدس، إنما هو نكبة ثانية أشد ضراوة وأعمق جرحا وأوسع معاناة من نكبة عام 1948. ويبدو للشعب الفلسطيني بكاملة أن الكيان الصهيوني، وهو يشن حرب الإبادة في غزة والضفة الغربية، يحاول الآن استكمال ما تبقى من حلقات من حرب التطهير العرقي والتدمير الجمعي والاقتلاع الشامل، التي قام بها عام 1948.
لقد تحولت فكرة القضاء على الوجود الفلسطيني تماما، ثقافة عامة وقناعة عابرة للأحزاب والطوائف والخلفيات. وتشكلت أحزاب جديدة، خاصة بعد الانتفاضة الثانية تدعو إلى التطهير العرقي والاستيلاء الشامل على كل الأرض الفلسطينية وتقطيع أواصر الوجود الفلسطيني، وتحويل السكان إلى معازل صغيرة لا تستطيع التواصل مع بعضها بعضا. وتعتقد الطبقة السياسية الفاشية التي تحكم الكيان، أن الفرصة الآن مواتية ويجب استغلالها لاستكمال ما لم ينجز في النكبة الأولى. لكن هذه النكبة التي يعيشها الشعب الفلسطيني عامة وسكان قطاع غزة خاصة، رغم ما تحمله من مآس، حملت في طياتها حالة من النهوض والمواجهة والصمود غير مسبوقة، وتبشر بانبلاج فجر مشرق بعد حلكة ليل دامٍ أصابنا جميعاً وترك في قلوبنا جروحا عميقة لا تندمل مع الأيام. لقد دفع الشعب الفلسطيني في قطاع غزة منذ عام 2007 ضريبة الصمود وعدم الانجرار إلى مربع أوسلو الخبيث، الذي لو اكتملت حلقاته بالإطباق على غزة والمقاومة فيها، لاستطاع الاحتلال أن يعلن رسميا انتصاره وهزيمة المشروع الوطني الفلسطيني الذي انطلق أواسط الستينيات.

هناك نهوض فلسطيني وعربي وإسلامي وعالمي على مستوى الشعوب انتصارا لفلسطين. البوصلة الدولية الآن لا تتحرك بعيدا عن غزة، قد تهتز يمينا أو شمالا، لكنها تعود لتشير إلى غزة

غزة حوصرت من البر والبحر والجو. وتعرضت لهجومات لم تتوقف منذ عام 2006، ابتداء من عملية غيوم الخريف في بيت حانون في نوفمبر 2006، ثم عملية الرصاص المصبوب بين 27 ديسمبر 2008 و 18 يناير 2009 وبعدها عملية عامود السحاب – من 14- 22 نوفمبر 2012 تليها عملية الجرف الصامد بين 7 يوليو إلى 26 أغسطس مرورا بمسيرات العودة عامي 2018 و2019 ووصولا إلى عملية حارس الأسوار في مايو 2021. ماذا بقي للمقاومة إلا أن تدافع عن نفسها وشعبها، والرد على غطرسة العدو الصهيوني. هل خيار «المفاوضات» الذي رفعته جماعة أوسلو والتزمت به يغري أحدا باتباعه بعد كل ما شاهده الفلسطينيون من ممارسات على الأرض في الضفة الغربية والقدس. ألم يكن التمسك بهذا الخيار لأكثر من 30 سنة استكمالا لنكبة 1948؟ ألم يكن أوسلو المنفذ الذي دلف منه المطبعون العرب وحوّل قوات الثورة، إلى جهاز للتنسيق الأمني، هل يخدم المشروع الوطني الذي يتغنى به الأوسلويون؟ من تلك الخلفية جاءت عملية 7 أكتوبر، التي رغم ما اعتراها من بعض الشوائب الشعبوية، بعد تدفق أعداد من الجماهير للمشاركة بطريقة غير منظمة أو مدروسة، إلا أنها أثبتت حقيقتين أساسيتين: أن إمكانية هزيمة هذا العدو المتغطرس ممكنة، وثانيا أن خيار المقاومة هو الوحيد الذي يوجع ويجبر العدو على دفع ثمن غالٍ، بل وغالٍ جداً ثمن الاحتلال. تمر هذه الذكرى كذلك، عدا عن المآسي، وهناك نهوض فلسطيني وعربي وإسلامي وعالمي على مستوى الشعوب انتصارا لفلسطين. البوصلة الدولية الآن لا تتحرك بعيدا عن غزة. قد تهتز يمينا أو شمالا، لكنها تعود لتشير إلى غزة.
– تتصدر قضية فلسطين جدول أعمال الأمم المتحدة. لا يمر أسبوع إلا ويعقد مجلس الأمن جلسة أو جلستين عن فلسطين. اعتمد ثلاثة قرارات حول غزة؟ والولايات المتحدة استخدمت الفيتو 4 مرات. وصدرت بيانات عن المجلس كان آخرها يوم الجمعة 10 مايو حول ضرورة التحقيق في المقابر الجماعية التي اكتشفت في ساحات مستشفيات غزة.
– الجمعية العامة أصدرت قرارين حول وقف إطلاق النار، الأول في أكتوبر حصل على 120 صوتا إيجابيا، والثاني في ديسمبر حصل على 153 صوتا. كما صوتت الجمعية العامة يوم 10 أكتوبر لصالح أهلية فلسطين لتكون دولة كاملة العضوية وإعطائها نحو 10 امتيازات لا تعطى إلا للدول المستقلة. اعتمد مشروع القرار بغالبية 143 دولة. الولايات المتحدة التي أجهضت في مجلس الأمن يوم 18 أبريل مشروع القرار الجزائري الذي يدعو للاعتراف بفلسطين دولة كاملة العضوية، وجدت نفسها معزولة تماما ولم يقف معها ومع الكيان الصهيوني إلا سبع دول، أربع منها لا أحد يعرف أين هي موجودة على الخريطة (ناورو، بالاو، مايكرونيزيا، وباباغينيا الجديدة).
– محكمة العدل الدولية كانت ساحة محاكمة قانونية لكيان حول حرب الإبادة التي يشنها ضد الشعب الفلسطيني الواقع تحت احتلال هو الأشرس في التاريخ المعاصر. لقد طالبت المحكمة إسرائيل، وفقا لالتزاماتها بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية، «باتخاذ جميع التدابير التي في حدود سلطتها»، فيما يتعلق بالفلسطينيين في غزة لمنع ارتكاب أعمال إبادة». وأصدرت المحكمة أمراً واضحاً لإسرائيل بالتأكد بأثر فوري من أن جيشها لا يرتكب أي عمل يشكل جريمة إبادة جماعية، ومنع ومعاقبة ارتكاب الإبادة الجماعية والتحريض على ارتكابها ضد الفلسطينيين في غزة، واتخاذ تدابير فورية وفعالة لتمكين توفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية. إسرائيل كعادتها تدير الظهر للقانون الدولي والمحكمة والقضاة والعالم كله.
– المظاهرات المؤيدة لفلسطين انتشرت في معظم دول العالم من سانتياغو إلى سيدني، ومن برلين إلى لندن وباريس وروما، ومن نيويورك وواشنطن إلى شيكاغو ودالاس وفيلادلفيا وسان فرنسيسكو، ومن عمّان إلى تونس، ومن الرباط إلى الدار البيضاء ومن صنعاء وتعز إلى بيروت وطرابلس وبغداد والبصرة. وما عدا بعض دول التطبيع العربي السابقة واللاحقة، وليس كلها، دفنت رأسها في الرمال وألجمت حركات الجماهير، وكأن الأمر لا يعنيها، فالعالم كله ينتصر لفلسطين والمقاومة والصمود وبعض الدول العربية مشغولة بالمهرجانات والأغاني والمسابقات.
– ثورة الطلاب في الولايات المتحدة غير مسبوقة. لقد انطلق الحراك من جامعة كولومبيا إلى جامعات نيويورك الأخرى ثم إلى نحو 200 جامعة. ثم اجتازت الانتفاضة الطلابية الحدود إلى كندا وقطعت المحيط لتحط في جامعات فرنسا وبريطانيا وإسبانيا وهولندا وصولا إلى أستراليا ونيوزيلندا واليابان وتونس. شعارات متشابهة يرفعها الطلبة: وقف حرب الإبادة، فلسطين حرة، سحب الاستثمارات من الكيان وقطع العلاقات مع الجامعات الصهيونية.
– الكيان يكاد ينهار اقتصاديا ومعنويا وسياسيا ومجتمعيا. مئات الألوف فروا إلى حيث جنسياتهم الاحتياطية. ثلث السكان لا يرون مستقبلا لهذا الكيان، حسب استطلاعات الرأي الأخيرة. الشروخات المجتمعية تتسع وتكاد تؤدي إلى مواجهات عنيفة.
حرب الإبادة على غزة رسمت الصورة الحقيقية للمرة الألف بأن إسرائيل تريد للفلسطينيين أن يختفوا من التاريح والجغرافيا. فهل المفاوضات ستفشل هذا الهدف أم المقاومة والصمود والمواجهة والتفاف الشعوب العربية والإسلامية ومحبي العدل والسلام حول العالم حول أعدل قضية عرفها التاريخ الحديث. الفجر آت رغم التضحيات. وهل حصل شعب على حريته واستقلاله وسيادته إلا عبر التضحيات؟ إذن هذه الذكرى تختلف عن سوابقها. إننا على موعد مع الحرية والاستقلال والسيادة.