قبل عقد من الزمن فحسب شكك معظم المسؤولين الأميركيين والأوروبيين بمتانة الشراكة الناشئة بين الصين وروسيا ولم يعيروها اهتماماً. وجهة النظر السائدة في العواصم الغربية كانت ترى أن التقارب مع الصين الذي يتباهى به الكرملين منذ 2014 مصيره الفشل، لأن العلاقات بين هذين العملاقين الأوراسيين ستتهاوى على الدوام بفعل عدم تكافؤ القوة بينهما وأرجحية الصين في ذلك، وأيضاً نتيجة استمرار انعدام الثقة بين البلدين الجارين في سياق عديد من الخلافات التاريخية، والمسافة الثقافية الفاصلة بين المجتمعين الصيني والروسي ونخبهما. وكان من المعتقد أنه بغض النظر عن مدى محاولة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التودد إلى القيادة الصينية، فإن الصين ستعطي الأولوية دائماً لعلاقاتها مع الولايات المتحدة وحلفائها على علاقاتها الرمزية مع روسيا. وفي الوقت نفسه، كان من المتوقع أن تخشى موسكو من صعود بكين وتسعى إلى إيجاد ثقل موازين في الغرب.
وحتى مع تحقيق الصين وروسيا تقارباً أكبر بينهما، بقي المسؤولون في واشنطن غير مهتمين بما يحصل، “ما يجمعهما هو زواج مصلحة”، بحسب ما قاله وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أمام أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي في مارس (آذار) 2023 تزامناً مع الزيارة الرسمية التي قام بها الزعيم الصيني شي جينبينغ إلى موسكو، “لست متأكداً إن كان هذا الرأي يشكل تقليلاً من قيمتها، إلا أن روسيا بالضبط تمثل الشريك الأصغر في هذه العلاقة”، تابع بلينكن. ومع ذلك، فإن هذه الشكوك تتجاهل حقيقة مهمة وقاتمة: وهي أن الصين وروسيا أصبحتا الآن أكثر تماسكا من أي وقت مضى منذ الخمسينيات.
وهذا التحالف المتطور بين روسيا والصين يشكل إحدى أهم النتائج الجيوسياسية لحرب بوتين ضد أوكرانيا. وكانت عملية إعادة التوجيه هذه مدفوعة إلى حد كبير بالجهود الواعية التي بذلها شي وبوتين، ولكنها كانت أيضاً نتيجة ثانوية للانقسام العميق بين الغرب وكلا البلدين. ولا يجوز للمسؤولين الغربيين أن يتمنوا زوال هذا المحور ببساطة، أو أن يأملوا عبثاً في قيام الكرملين بلجم تبعيته لـتشونغنانهاي (مقر القيادة الصينية)، والقيام بمحاولات عقيمة لدق أسفين بين الصين وروسيا، بل على الغرب، بدل ذلك، الاستعداد لفترة مواجهة متزامنة طويلة الأمد مع قوتين هائلتين مسلحتين نووياً.
شراكة ذات حدود
في بيان مشترك صدر في 4 فبراير (شباط)، 2022، وصف بوتين وشي العلاقات بين بلديهما بأنها “شراكة بلا حدود”. وقد أعار الغرب انتباهاً كبيراً لتلك الجملة خصوصاً إثر اجتياح بوتين لأوكرانيا بعد 20 يوماً فحسب. إلا أن الشراكة المتمتنة بين الصين وروسيا لم تولد في فبراير 2022، إذ إن البلدين وبعد الافتراق المرير بينهما بفعل الشقاق الصيني – الروسي من أعوام الستينيات إلى الثمانينيات، حققا المزيد من التقارب لأسباب براغماتية عديدة. فالطرفان أرادا تحويل النزاع الإقليمي بينهما إلى شيء من الماضي، وبحلول عام 2006 جرى أخيراً تحقيق ترسيم نهائي لحدودهما المشتركة، البالغة 2615 ميلاً. كذلك أسهم التكامل الاقتصادي بينهما في المزيد من التقارب. فروسيا لديها موارد طبيعية وافرة، لكنها تحتاج إلى التكنولوجيا والمال، فيما تحتاج الصين إلى الموارد الطبيعة ولديها المال المطلوب والتكنولوجيا التي يمكنها مشاركتها. وإذ راح الحكم في روسيا يزداد سلطوية تحت قيادة بوتين منذ عام 2000، عقدت كل من بكين وموسكو تحالفاً في مجلس الأمن بالأمم المتحدة، إذ استخدمتا نفوذهما كعضوين دائمين في المجلس لمواجهة عديد من المواقف والمعايير المرتبطة بالدول الغربية، من ضمنها مسألة اللجوء إلى العقوبات ضد الأنظمة السلطوية، والحملات التي تقودها الولايات المتحدة في مناطق نزاع ملتهبة مثل سوريا.
كذلك فإن للصين وروسيا تاريخاً مشتركاً طويلاً من عدم الثقة تجاه الولايات المتحدة. فهما ينظران إلى واشنطن على أنها قوة هيمنة دولية مدفوعة أيديولوجياً تسعى إلى الحيلولة دون وصول بكين وموسكو إلى موقعهما المستحقين في قيادة النظام العالمي، أو ربما حتى أسوء من ذلك، كأن تسعى لتقويض نظامي حكمهما. كذلك فإن الانسجام الأيديولوجي والسياسي بين نظام “الحزب – الدولة” الصيني وبين روسيا التي تزداد سلطوية، شهد تطوراً أيضاً، إذ يمتنع القادة في بكين وموسكو في هذا الإطار عن انتقاد ممارسات القمع الداخلي وسوء معاملة الأقليات الوطنية في كلا البلدين – وهي القضايا التي تثار روتينياً من قبل المسؤولين الغربيين.
تطور التقارب بين روسيا والصين هو من إحدى أهم نتائج الحرب في أوكرانيا.
بعد انهيار العلاقات الروسية – الأميركية عقب ضم روسيا للقرم سنة 2014، حول الكرملين وجهته إلى الشرق للالتفاف على آثار العقوبات الاقتصادية الغربية ومد الاقتصاد الروسي بمزيد من المرونة أمام الضغوط الغربية. فروسيا التي تمكنت صناعتها الدفاعية العسكرية من الاستمرار خلال أزمة أعوام التسعينيات بفضل بيعها الأسلحة للصين بالدرجة الأولى، زادت من صادرات أسلحتها الأكثر تطوراً إلى جارتها في الجنوب، كصواريخ أرض – جو أس -400 وطائرات سو – 35 الحربية، واستثمرت في توسعة وتمديد خطوط أنابيب النفط والغاز والسكك الحديد والمرافئ والجسور العابرة للحدود التي توصل الموارد الطبيعية الروسية إلى الأسواق الصينية، والواردات الصينية إلى روسيا.
نتيجة لهذا قفزت معدلات التبادل التجاري بين البلدين، ضمن ميزان التجارة الروسي العام، من 10 في المئة قبل ضم القرم، إلى 18 في المئة قبل غزو بوتين واسع النطاق لأوكرانيا سنة 2022، لكن على رغم ذلك بقي الاتحاد الأوروبي شريكاً أهم لروسيا، إذ يبلغ معدل تبادلاته التجارية معها 38 في المئة، وهو أيضاً المستثمر الأكبر في روسيا ومزودها الأول بالتكنولوجيا والمستورد الأساس لنفطها وغازها. أما بالنسبة للصين، فإن روسيا لم تمثل أكثر من نسبة 2.5 في المئة من تجارتها في سنة 2022، مما يجعلها بالكاد في مصاف الشركاء التجاريين الـ10 الأوائل للصين. بالنسبة للصين، كانت العلاقات التجارية والمالية والتكنولوجية مع الولايات المتحدة وأوروبا أكثر أهمية بكثير لديناميكية اقتصادها من علاقاتها المعادلة مع روسيا.
ويساعد هذا في تفسير السبب الذي دفع الصين إلى البقاء على الحياد بعد غزو بوتين لأوكرانيا – وهو ما لم تتوقعه بكين بحسب عديد من التقارير. فقد حافظت على علاقاتها مع روسيا، وانتهزت الفرصة لشراء النفط الروسي الرخيص (كما فعلت أطراف محايدة أخرى، بما في ذلك الهند)، ولم تنتقد العدوان الروسي بصورة مباشرة. وفي الوقت نفسه، امتنعت عن تزويد موسكو بالمساعدات الفتاكة، باستثناء الشحنات الصغيرة من الذخائر والمعدات الحربية بين الحين والآخر، ودعمت رسمياً سيادة أوكرانيا الوطنية، ولم تمارس انتهاكات مباشرة للعقوبات الغربية – على رغم أن عديداً من الشركات الصينية شملتها عقوبات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في مطلع 2024 لقيامها بشحن بضائع محظورة إلى روسيا.
الطفرة النوعية الكبرى
على رغم المقاربة الحذرة التي اعتمدتها بكين بداية، فإن معظم المعطيات المتوافرة تشير إلى وجود علاقة أقوى بكثير بين الصين وروسيا تطورت خلال العامين الماضيين منذ الغزو. ففي عام 2022 نما التبادل التجاري بين البلدين بمعدل 36 في المئة ليبلغ 190 مليار دولار. وفي عام 2023 تصاعد حجم هذا التبادل إلى 240 مليار دولار، إذ تخطى في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي عتبة الـ200 مليار دولار، وهي العتبة التي كان شي وبوتين بداية خططا لتحقيقيها في سنة 2025. واستوردت الصين سلع طاقة بقيمة 129 مليار دولار – معظمها من النفط والغاز عبر خطوط الأنابيب والغاز الطبيعي المسال. والفحم، الذي يمثل 73 في المئة من الصادرات الروسية إلى الصين، إلى جانب المعادن والمنتجات الزراعية والخشب. وفي الوقت نفسه، صدرت الصين بضائع بقيمة 111 مليار دولار إلى روسيا، في طليعتها المعدات الصناعية (قرابة 23 في المئة من الصادرات)، والسيارات (20 في المئة) والإلكترونيات الاستهلاكية (15 في المئة).
الضوابط الغربية على الصادرات وزيادة تركيز العواصم الغربية على فرض العقوبات لم تترك لروسيا أي خيار آخر على المدى الطويل سوى التحول إلى استيراد السلع الصناعية والاستهلاكية المصنعة في الصين. ونتيجة لهذا قفزت مبيعات المعدات الصناعية الصينية بمعدل 54 في المئة سنة 2023 مقارنة بالعام السابق (2022)، فيما تضاعفت مبيعات السيارات الصينية أربع مرات تقريباً، مما جعل روسيا أكبر سوق خارجية للسيارات الصينية ذات محركات الاحتراق. وما لا تظهره هذه الأرقام يتمثل بالأدوات والمعدات الصينية التي تتوجه مباشرة لتعزيز الآلة العسكرية الروسية، وذاك يتضمن تزايداً في صادرات الشرائح الإلكترونية والمعدات البصرية والمسيرات وأدوات التصنيع المتطورة.
كذلك باتت الصين وروسيا متقاربتين أكثر فأكثر وعلى نحو ملحوظ في مجال التعاون الأمني والعسكري ذي الأهمية البالغة. إذ حتى في خضم حرب العدوان الروسية، قام جيش التحرير الشعبي الصيني بزيادة عدد الأنشطة المشتركة الذي نفذها مع الجيش الروسي. ففي سبتمبر (أيلول) 2022، وعلى رغم المشكلات الكبيرة التي واجهتها على جبهات القتال في أوكرانيا، أجرت روسيا تدريبات استراتيجية في أقصى شرقها، وقد أرسلت الصين ألفي جندي من جنودها للمشاركة بها. وبعد أشهر قليلة، في ديسمبر (كانون الأول)، أقامت القوات البحرية الصينية والروسية تدريباتها السنوية، وهذه المرة في بحر شرق الصين. وفي 2023 أجرت بكين وموسكو ثلاث جولات من التدريبات البحرية، وفي 2022 و2023، أجرتا أربع مناورات مشتركة في آسيا بمشاركة قاذفات مسلحة نووياً. هذه الأنشطة لا تزال دون شك تفتقر إلى اتساع وعمق المناورات والتدريبات المشتركة التي تجريها الولايات المتحدة وحلفاؤها في أوروبا وآسيا، لكن الجيشين الصيني والروسي يقومان بالتأكيد بتعميق احتمالات التعاون بينهما.
وينعكس هذا التعاون في المجال الدبلوماسي أيضاً، إذ منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا شهدت اللقاءات المباشرة بين النخب الروسية والصينية تزايداً ملحوظاً. سبق للكرملين وتشونغنانهاي أن تعاونا معاً قبل هذا الوقت، إلا أن الروابط الشخصية المباشرة بين الطرفين كانت نادرة باستثناء العلاقة التي تجمع بوتين وشي. والآن، أكد الرئيسان أهمية عمل كبار مسؤوليهما معاً والتعرف على بعضهم بعضاً. منذ زيارة الدولة التي قام بها شي إلى روسيا في مارس 2023، سافر رئيس الوزراء الروسي ميخائيل ميشوستين وكبار أعضاء فريقه إلى الصين مرتين، إضافة إلى رحلة بوتين الخاصة إلى بكين في أكتوبر (تشرين الأول). طوال عام 2023، قام عديد من كبار المسؤولين الروس والمديرين التنفيذيين لأكبر الشركات المملوكة للدولة والخاصة بالتنقل من وإلى الصين. كما قام كبار القادة الصينيين – وبخاصة من القطاعين العسكري والأمني – برحلات إلى روسيا. ويزور وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف حالياً بكين لإجراء محادثات مع نظيره الصيني وانغ يي.
ومن يذكر أن هذه الحركة هي في الغالب أحادية الجانب، إذ يزور كبار المسؤولين وكبار رجال الأعمال الروس الصين بصورة متكررة أكثر بكثير من زيارات نظرائهم الصينيين لروسيا، مما يشير إلى اعتماد روسيا الكبير على الصين. والاستثناء الوحيد هو المجال العسكري والأمني، إذ كانت زيارات المسؤولين رفيعي المستوى تميل إلى أن تكون أكثر تناسقاً وتبادلية.
وبعيداً من العلاقات المهنية، أصبحت الروابط مع الصين ذات أهمية متزايدة بالنسبة للنخب الروسية في تشكيل مستقبلهم ومستقبل أبنائهم. مع خضوع معظم هذه الشخصيات الآن لعقوبات غربية، بدا من المستحيل الاحتفاظ بثرواتهم في الغرب أو إرسال أطفالهم إلى الولايات المتحدة أو أوروبا للتعليم. وفي الوقت نفسه، تحتل أفضل الجامعات في الصين وهونغ كونغ مرتبة أعلى بكثير من المؤسسات المماثلة في روسيا. كما أن هناك أدلة متزايدة تشير إلى أنه للمرة الأولى في التاريخ الروسي، بدأ أعضاء النخبة الروسية وأطفالهم في تعلم لغة الماندرين (اللغة الصينية الرسمية).
إلى ذلك فإن هذا الدفء في العلاقات مع الصين ينعكس أيضاً في استطلاعات الرأي، وأحدثها بيانات أثمرتها جهود بحثية مشتركة لـ”مؤسسة كارنيغي” و”مركز ليفادا”، المنظمة الروسية المستقلة للاستطلاعات. تظهر هذه البيانات أن 85 في المئة من الروس بنهاية عام 2023 ينظرون إلى الصين نظرة إيجابية، فيما 6 في المئة منهم فقط لديهم رأي سلبي تجاه هذا البلد. كما أن ثلاثة أرباع الروس تقريباً لا يعدون الصين تهديداً. وأكثر من نصف الروس اليوم يريدون من أبنائهم تعلم اللغة الصينية، مما يشكل تطوراً مذهلاً. أكثر من 80 في المئة من الناس ما زالوا يريدون من أبنائهم تعلم الإنجليزية، لكن عدد الأشخاص المهتمين بالماندرين في روسيا يتصاعد بسرعة. أما المواقف الأكثر إيجابية تجاه الصين فقد رصدت في مناطق أقصى الشرق الروسي، إذ هناك حدود مشتركة مع الصين وتقوم بين البلدين صلات متينة وعلاقات حياتية يومية. وذاك المزاج الشعبي الإيجابي عموماً تجاه الصين سمح للكرملين في الدخول بعلاقات اقتصادية وتكنولوجية وسياسية مع بكين أعمق من ذي قبل.
صديق يحتاج إلى عون
في أعقاب الغزو الشامل لأوكرانيا عام 2022، غدت الحرب المبدأ الرئيس الذي ينظم السياسات الداخلية والاقتصادية والخارجية لروسيا. يقوم الكرملين الآن بتقييم كل علاقة مع قوة أجنبية من خلال ثلاث اعتبارات أساس: ما إذا كان بإمكانه مساعدة روسيا بصورة مباشرة في ساحة المعركة في أوكرانيا، وما إذا كان بإمكانه المساعدة في الحفاظ على الاقتصاد الروسي والتحايل على العقوبات، وما إذا كان بإمكانه مساعدة موسكو في مواجهة الغرب ومعاقبة الولايات المتحدة وحلفائها بسبب دعمهم لكييف.
علاقة روسيا بالصين في هذا الإطار تصيب تماماً جميع تلك الاعتبارات الثلاثة. فالتعاون الروسي – الصيني أسهم بدرجة كبيرة في تمكين بوتين من متابعة عدوانه على أوكرانيا. لا تقدم بكين دعماً فتاكاً لموسكو على نحو مباشر، لكن دعمها غير المباشر لمجهود روسيا الحربي يشكل دعماً أساساً لا غنى عنه. فهو يتضمن تزويد موسكو بمسيرات تجسس تجارية، ورقائق الكمبيوتر الصينية الصنع، وغيرها من المكونات الحيوية التي تستخدمها صناعة الدفاع الروسية. ومن الناحية الاقتصادية، تعتمد موازنة بوتين الحربية بصورة كبيرة على الإيرادات المتأتية من المشتريات الصينية من الصادرات الروسية. إن تسوية المدفوعاًت باليوان الصيني تعمل على إبقاء النظام المالي الروسي واقفاً على قدميه، كما تعمل واردات السيارات والإلكترونيات وغيرها من السلع الاستهلاكية على إبقاء المتاجر ممتلئة بصورة جيدة وتجعل المواطنين الروس العاديين راضين.
أما الأكثر إفصاحاً عن واقع الحال فيتمثل بالقرار الذي اتخذته روسيا والقاضي بالتحالف الوثيق مع الصين في نزاعها الجيوسياسي مع الولايات المتحدة. قبل الحرب كانت بعض الأصوات في الكرملين وفي دوائر خاصة تدعو إلى الانتباه والحذر إزاء التسرع والارتماء بأحضان الصين. كما حذر المتشككون من أن يؤدي الانقسام والتفرق في النظام العالمي إلى هيمنة الصين في إقليمها وتحولها إلى القوة الأكبر في أوراسيا – مع تحول روسيا للعب دور التابع طوال سنوات عديدة قادمة. بناءً على هذا، وقبل غزو أوكرانيا، حاولت روسيا حماية استقلاليتها عبر الحفاظ على بعض التوازن وفي الحد الأدنى بعلاقاتها مع الغرب بقيادة الولايات المتحدة من جهة، ومع الصين في الجهة المقابلة، وذلك رغم تصاعد نزعة العداء للغرب في سياسات موسكو إثر عودة بوتين رسمياً إلى الرئاسة سنة 2012.
لقد غدت الحرب المبدأ الأساس الذي ينظم السياسات الداخلية والاقتصادية والسياسة الخارجية لروسيا.
أدى الاجتياح الشامل لأوكرانيا إلى تدمير ذاك التوازن الهش إلى الأبد. فإزاء الغرب الذي يساعد في قتل الجنود الروس وفي شن حرب اقتصادية على روسيا، لم يعد ممكناً بالنسبة للكرملين الحفاظ على الروابط مع الولايات المتحدة وشركائها في أوروبا وآسيا. وقد أعلن بوتين مراراً وتكراراً خلال الحرب أن العدو الحقيقي لروسيا ليس أوكرانيا، بل الغرب، الذي يسعى، بحسب زعمه، إلى إضعاف روسيا وتقطيع أوصالها. لذا فإن مساعدة الصين في تقويض الهيمنة الأميركية الدولية باتت هدفاً مهماً بالنسبة لروسيا لأن ذلك قد يسرع النصر في الحرب ضد الغرب التي يرى الكرملين أنه يخوضها. يفسر هذا التغيير في الموقف رغبة موسكو في تكثيف التعاون العسكري والتكنولوجي مع بكين. ويلعب نفوذ الصين المتزايد في العلاقات الثنائية دوراً أيضاً، إذ تجد روسيا صعوبة متزايدة في مقاومة طلبات الصين لتقاسم التكنولوجيا الحساسة. إن دمج اقتصاد روسيا، وقدراتها المعرفية وتكنولوجياتها العسكرية كلياً في الـ”باكس سينيكا” (عالم السيطرة الصيني)، أي النظام الإقليمي العام الذي تقوده الصين وتقبع أوراسيا في قلبه، يمثل الطريقة الوحيدة التي يمكن لروسيا بواسطتها متابعة مواجهتها للغرب.
ومن غير المستغرب أن يؤدي هذا التحول إلى تفاقم التباين الذي يميز العلاقات الصينية الروسية. وباعتبارها اقتصاداً أكبر حجماً وأكثر تقدماً من الناحية التكنولوجية وتتمتع بعلاقات عملية مع الغرب، فإن الصين تتمتع بقدرة تفاوضية أقوى وخيارات أكثر بكثير من روسيا، مع تزايد نفوذها على جارتها الشمالية بصورة مستمرة. والآن تحصر روسيا نفسها في صورة من صور التبعية للصين. وفي غضون سنوات قليلة، ستصبح بكين أكثر قدرة على إملاء شروط التعاون الاقتصادي والتكنولوجي والإقليمي مع موسكو. والكرملين ليس غافلاً عن هذا الاحتمال بطبيعة الحال، ولكن ليس أمامه خيارات كثيرة ما دام بوتين يحتاج إلى الدعم الصيني لمواصلة حربه في أوكرانيا، التي أصبحت هاجساً بالنسبة له.
من المؤكد أن التبعية للصين لن تشكل بالضرورة تبعية كاملة وغير مشروطة. على سبيل المثال، على رغم اعتمادها الكامل على بكين في كل جانب من جوانب أمنها واقتصادها تقريباً، لا تزال كوريا الشمالية تحتفظ ببعض مساحة المناورة مع جارتها العملاقة. يمكن لبيونغ يانغ في بعض الأحيان أن تقوم بتحركات تزعج بكين – ومثال ذلك عندما أمر الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون باغتيال أخيه غير الشقيق كيم جونغ نام في عام 2017، على رغم أنه يعيش تحت الحماية الصينية الفعلية. إن روسيا، باعتبارها أقوى كثيراً من كوريا الشمالية، لن تصبح ببساطة خادماً وضيعاً ومطيعاً للصين، بغض النظر عن مدى احتياجها إلى الدعم الصيني.
يهوى بوتين عقلنة خياراته المصيرية عبر الإشارة إلى مقارنات تاريخية. في أواخر العام الماضي، أشار إلى الأمير ألكسندر نيفسكي من القرن الـ13 الذي حكم إمارات عدة مما بات يعرف اليوم بروسيا الحديثة وبيلاروس، وأوكرانيا التابعة للإمبراطورية المغولية آنذاك، والتي للمفارقة ضمت الصين أيضاً. يحتفى بنيفسكي في التاريخ الروسي باعتباره الزعيم الذي صد عديد من الهجمات من الغرب، وألحق الهزيمة سنة 1242 بالنظام الليفوني (Livonian Order) الذي سعى لنشر الكاثوليكية الغربية في مناطق كانت تتصدرها الأرثوذوكسية الشرقية. ويرى بوتين نفسه سائراً على خطى نيفسكي، متحدياً الغرب حتى في وقت يذعن فيه للشرق.
قال بوتين في نوفمبر 2023، “الأمير ألكسندر نيفسكي قصد جماعة الهورد [القبائل]، وانحنى أمام الخان وحصل على مباركة الأخير لحكمه، وذلك لكي يتمكن قبل كل شيء وعلى نحو فعال من مقاومة اجتياح الغرب”. وأضاف، “لماذا؟ لأن [الهورد]، مهما بلغت عنجهيتهم وفظاعتهم، لم يشكلوا خطراً على كنزنا الأعظم – لغتنا وتقاليدنا وثقافتنا، الأمور التي يتلهف الغزاة الغربيون لطمسها”. إذاً أوجه التشابه واضحة (وفق بوتين): حاكم روسيا اليوم مستعد للتساهل في مسألة التبعية لقوة لا تهدد الهوية الروسية ولا تتدخل كثيراً في الشؤون الداخلية لروسيا، كي يتمكن من مواجهة الغرب، هذا الذي يصوره بوتين ومنظروه الأيديولوجيون على أنه عالم منحل ومصدر خطر مميت تجاه القيم الروسية التقليدية.
ومن جانبها، أصبحت الصين أيضاً تنظر إلى روسيا باعتبارها جزءاً من عملية إعادة تنظيم جيوسياسية أساس. ومع حلول عام 2021، كان لدى بكين أسباب للأمل في أن تعود علاقاتها مع الولايات المتحدة – العلاقة الثنائية الأكثر أهمية في القرن الـ21 – إلى مسار أكثر قابلية للتنبؤ به بعد رئاسة دونالد ترمب المدمرة. وعلى رغم أن الصين لا تستطيع أن تتوقع انفراجاً شاملاً، فإنها كانت تأمل في إيجاد مزيج أكثر صحة من المنافسة والتعاون بين أقوى دولتين في العالم. فصناع القرار الصينيون لا يعرفون فقط ذاك الفريق المؤلف من خبراء وعاملين بالسياسية الخارجية في البيت الأبيض بولاية بايدن، بل لدى شي علاقة شخصية مباشرة بالرئيس بايدن تعود إلى وقت زار فيه الأخير بكين سنة 2011 حين كان نائباً للرئيس (أوباما).
إلا أن آمال بكين سرعان ما تبددت عندما استعاد بايدن معظم سياسات ترمب المتشددة تجاه الصين، والمتضمنة تعزيز الشراكات العسكرية (الأميركية) في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وتقييد حصول الصين، بقدر الإمكان، على التكنولوجيا الأميركية بالغة التطور. كذلك فإن وقائع مفاجئة أخرى، كزيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي إلى تايوان سنة 2022، أسهمت أيضاً في إقناع بكين بأن مواجهة الصين مع الولايات المتحدة لا بد أن تتفاقم، بغض النظر عمن يقيم في البيت الأبيض.
هذا التصور اليوم يشكل الطريقة التي تفهم فيها الصين علاقتها بروسيا، إذ إن بكين وبعد اجتياح بوتين لأوكرانيا حرصت على تأكيد الخطوط الحمر الأميركية وحاولت في الإجمال الالتزام بها. لكن كما اكتشف شي في أكتوبر 2022 بعد أن شرع بايدن قيوداً واسعة على الصادرات الأميركية إلى الصين، فإن هكذا مقاربة حذرة لن تثني واشنطن عن محاولة تقييد الصين وعرقلة تقدمها. وفي هذا الإطار لم يكن التخلي عن بوتين خياراً من خيارات تشونغنانهاي، لأن الصين تخشى من احتمال اهتزاز الاستقرار في روسيا وإمكانية قيام نظام في الكرملين مؤيد للغرب إن غادر بوتين المشهد السياسي فجأة. وفي حال كانت المواجهة طويلة الأمد بين الصين والولايات المتحدة أمراً حتمياً، فإن بكين تحتاج إلى كل شريك يمكنها استمالته، لأن الولايات المتحدة تتمتع بأرجحية كبيرة في هذا الجانب تتمثل بشبكة كبرى من الحلفاء الفعالين والمؤثرين.
جنباً إلى جنب في أوراسيا
ما من قوة أخرى غير روسيا يمكنها تقديم أمور ذات قيمة على طاولة الصين، خصوصاً في الوقت الراهن. فغنى روسيا الكبير بالموارد الطبيعية – ليس فقط النفط والغاز، بل أيضاً المعادن واليورانيوم والأسمدة والخشب والمواد الزراعية والمياه – يمكن أن تدعم الاقتصاد الصيني بصورة كبيرة. المشكلة بالنسبة لروسيا هي أن هذه التجارة مع الصين ستتم بصورة متزايدة بأسعار تمليها بكين وتدفع باليوان. ويعزز هذا التدفق من الموارد الروسية أمن الطاقة والأمن الغذائي في الصين مع تقليل اعتمادها على الطرق البحرية الضعيفة مثل مضيق الملاكة، الذي تحرسه البحرية الأميركية. وذاك أيضاً يمنح الصناعة الصينية المزيد من خاصية التنافس عبر تخفيض كلفة الطاقة.
وعلى رغم أن السوق الروسية في هذا الإطار أصغر من السوقين الأميركية والأوروبية، فإنها تبقى ضخمة بما فيه الكفاية وتزداد شراهتها للمنتجات الصينية. وتغدو المبيعات الروسية في السياق أكثر أهمية من أي وقت مضى بالنسبة للصناعيين الصينيين، نظراً إلى الطلب المحلي الصيني غير المستقر ولتراجع الصادرات الصينية إلى الأسواق التقليدية في الغرب. إلى ذلك، ولأن 70 في المئة من التجارة الصينية مع روسيا تدفع باليوان، يمكن لبكين التعامل مع هذه العلاقة التجارية كمشروع رائد لعولمة عملتها الوطنية. وبالفعل، فقد بلغت حصة اليوان في التجارة العالمية بشهر نوفمبر 2023، معدل 4،61 في المئة وفق بيانات “سويفت” (SWIFT)، وهو أعلى مستوى لها على الإطلاق.
وروسيا أيضاً تملك بعض التكنولوجيات العسكرية المتطورة التي ما زالت الصين في حاجة إليها على رغم التطور في الصناعات الدفاعية الصينية. وتشمل تلك التكنولوجيات صواريخ أرض – جو أس – 500، ومحركات للطائرات الحربية الحديثة، ومعدات الردع النووي كأنظمة الإنذار المبكر، والغواصات الأكثر قدرة على التخفي، وتكنولوجيات الحرب تحت المياه. وعلى رغم نزوح المواهب الروسية وهجرتها عقب اجتياح أوكرانيا، ما زال لدى روسيا بعض القوى الإبداعية، تحديداً في مجال تكنولوجيا المعلومات، والتي تحرص الصين على الاستفادة منها.
إلى ذلك، فإن التعاون المباشر بين الجيشين الصيني والروسي يمثل رصيداً مهماً للصين. وما زال هناك إمكانية للبلدين لتعزيز تبادلاتهما الاستخباراتية ولإجراء عمليات سيبرانية مشتركة لسرقة بيانات حكومية أو تجارية غربية حساسة، وتنسيق عمليات التأثير الخاصة بهما، بما في ذلك حملات التضليل. حتى الآن لم تقم روسيا والصين بالعمل معاً فعلاً على جبهة المعلومات المضللة، بل قامتا بنشر سرديات مشابهة ومتوازية – لكن يمكن لمقاربات مشتركة بينهما كهذه أن تتبلور توازياً مع التقارب المتزايد بين حكومتي البلدين.
تقوم روسيا باستبدال اعتمادها شبه الكامل على الغرب باعتماد على الصين.
أكدت موسكو وبكين باستمرار أنهما لا تنويان تشكيل تحالف عسكري رسمي، إذ لا يريد أي منهما الالتزام القانوني بالقتال من أجل الآخر أو الانجرار إلى صراعات غير ضرورية. ومع ذلك، فإن وجود قوتين كبيرتين مسلحتين نووياً ضمن علاقة وطيدة، وتقفان جنباً إلى جنب في المجال الأوراسي العملاق، يشكل بطبيعة الحال خطراً أساساً بالنسبة لواشنطن. ومع انهيار أنظمة واتفاقيات ضبط الأسلحة النووية في العالم وتسارع جنوح الصين نحو بناء قوة نووية، يواجه الاستراتيجيون الأميركيون قرارات صعبة فيما يتعلق بتخصيص الموارد. ستحتاج الولايات المتحدة إلى تطوير قوة نووية استراتيجية قادرة على ردع خصمين متحالفين يملكان ترسانات نووية هائلة. إن اتفاقية عدم الاعتداء الفعلية بين الصين وروسيا، إلى جانب وجهة نظرهما المشتركة تجاه الولايات المتحدة كخصم، يمكن أن تؤدي إلى تعاون أكبر بين المسرحين الأوروبي والآسيوي، مما يزيد من استنزاف موارد الولايات المتحدة واهتمامها. على سبيل المثال، إذا قامت الصين بتحرك في مضيق تايوان، فيمكن لروسيا أن تجري مناورة عسكرية واسعة النطاق في أوروبا، بالتالي إجهاد قدرات الولايات المتحدة على الرد بفاعلية.
قال شي لبوتين عند اختتام زيارته الرسمية في مارس 2023: “هناك تحولات جارية لم نشهد مثيلاً لها منذ 100 عام. دعونا نقود معاً هذه التحولات”. الرئيس الروسي وافق على ذلك بحماسة. أنشطة بكين وموسكو بالفعل تحدث بعض التحولات الكبرى في النظام العالمي، لكنها تحولات لا تأتي بالضرورة نتيجة خطط استراتيجية دقيقة ورؤى تفصيلية محكمة. فشعارات بوتين المعادية للغرب والتي صورت اجتياحه لأوكرانيا على أنه تمرد ضد الهيمنة الأميركية و”الممارسات الاستعمارية الجديدة” وكمسعى لبناء “نظام عالمي متعدد الأقطاب وأكثر عدلاً”، تفشل في إقناع بلدان الجنوب العالمي المختلفة (التي يدعي بوتين، بمغالاة، تمثيلها)، تلك البلدان التي ينظر عديد منها بارتياب إلى تجاوز روسيا السافر لسيادة أوكرانيا والقانون الدولي، بيد أن المشكلة بالنسبة للغرب تتمثل في أن دول عديدة تعد الولايات المتحدة، زعيمة الغرب، مجرد قوة خبيثة مثل روسيا، وذاك سببه تجارب واشنطن المتقلبة في التدخلات، وكيلها بمكيالين من ناحية القانون الدولي. وليس الدعم الأميركي والأوروبي الأخير لإسرائيل بحربها في غزة، والذي يبدو مستهيناً ببعض المعايير الدولية، إلا سبباً لتعزيز هذا الموقف.
نفاق الصين وبعد شعاراتها من أفعالها واضحان جداً أيضاً. فموقف الصين في شأن مطالباتها البحرية في منطقة بحر الصين الجنوبي، مثلاً، وبخاصة ضد الفيليبين، تأتي معاكسة تماماً لادعاءات بكين بأنها تحترم القانون الدولي، بما في ذلك اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، والتزامها المزعوم بحل النزاعات الإقليمية مع الدول المجاورة من خلال الوسائل السلمية. ويحرص كل من شي وبوتين على استدعاء مبدأ “عدم قابلية الأمن للتجزئة”، كما جاء ببيانهما المشترك في 4 فبراير 2022، وذاك يشكل للولايات المتحدة دعوة لأخذ مخاوف الآخرين الأمنية على محمل الجد. إلا أن تجاهل روسيا الكامل للمخاوف الأمنية لأوكرانيا وأساليب الترهيب التي تنتهجها الصين ضد جيرانها من شأنه أن يؤدي إلى تقويض صدقية هذا الموقف المبدئي.
الكلام الأجوف والشعارات الفارغة لا تبدل الطريقة التي يعمل بها العالم الحقيقي. الأمر ذاته يقال بالنسبة لمنظمات كثر الترويج لها، كـ”منظمة شانغهاي للتعاون” أو مجموعة دول الـ”بريكس” (BRICS). فهذه الصيغ لا يمكنها بحد ذاتها تغيير النظام العالمي. ما أدى بالفعل إلى تأثير حقيقي ووطيد في هذا النظام يتمثل بحقيقة ما أظهرته تعاملات بكين وموسكو في العامين الماضيين من محدودية القوة الغربية القسرية، وما قدمته تلك التعاملات من بديل قابل للتطبيق بالنسبة للدول الساعية للتحوط إزاء الاعتماد على التكنولوجيا الغربية والنظام المالي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة الأميركية. فروسيا اليوم في هذا السياق بطريقها لاستبدال اعتمادها شبه الكلي على الغرب باعتماد بديل على الصين. إذ إنها بفضل ذلك تمكنت من تعويم وضعها ومن شن حرب مكلفة ضد بلد كبير يدعمه حلف “الناتو”. الدول الأخرى بدورها، الدول القلقة من اعتمادها على الغرب، تعاين اليوم كيف يمكن لبكين أن تشكل مصدراً جاهزاً للتكنولوجيا ولآليات تسوية المدفوعات المتوجبة، إضافة إلى كونها سوق عملاق لمنتجي السلع. ويمثل هذا التحول المساهمة الأكثر أهمية للتحالف الصيني الروسي في إعادة هيكلة النظام العالمي.
ما من تكرار لاستراتيجية كيسنجر
إن تعميق الشراكة بين موسكو وبكين يمثل إحدى أهم نتائج المأساة الأوكرانية. يمكن لموسكو وبكين ألا توقعا أبداً على معاهدة تحالف رسمية بينهما، إلا أن تطور علاقتهما في السنوات المقبلة سيؤثر في العالم على نحو متزايد وسيطرح تحدياً حقيقياً أمام الغرب. للتعامل مع هذه التطورات على صناع السياسة الغربيين التخلي عن فكرة إمكانية دق إسفين (في العلاقة) بين بكين وموسكو. خلال رئاسة ترمب راقت لمجلس الأمن القومي الأميركي نهج “كيسنجر العكسي” كي تعتمد في التعامل مع موسكو، الشريك الأضعف، لكن من دون جدوى. إذ في حين تمكن وزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر من التودد للصين الشيوعية خلال الحرب الباردة عبر إتاحته لبكين فرص تطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة، لا يمكن للمسؤولين الأميركيين تقديم عرض مماثل لموسكو أو لبكين بهذه المرحلة. كل أمل في إبعادهما عن بعضهما بعضاً ليس سوى أمنيات متفائلة.
مما لا شك فيه أن العلاقات الصينية الروسية تواجه توترات خاصة بها، وقد تتصاعد التوترات مع تزايد عدوانية الصين واحتمال تعجرفها في التعامل مع روسيا. ومع ذلك، فقد أظهر كلا البلدين قدرة ملحوظة على التغلب على خلافاتهما حتى الآن. وفي حين قد تنشأ تحديات، فإن قدرتهم على إدارة مصالحهم المتباينة والتوفيق بينها تظل جديرة بالملاحظة في الوقت الحالي.
إن كان تقارب الصين وروسيا اليوم موجوداً ليبقى على القادة الغربيين تطوير استراتيجية شاملة طويلة الأمد تضمن السلام في حين تعالج التعقيدات المرتبطة بالتنافس مع البلدين في وقت واحد. في البداية، يتعين على الغرب أن يعمل على إيجاد توازن دقيق بين الردع والطمأنينة في تعاملاته مع موسكو وبكين، بهدف منع التصعيداًت الخطرة المحتملة الناجمة عن حوادث أو تصورات خاطئة ووقائع سوء فهم.
وعلى الحكومات الغربية النظر بالآثار الثانوية للتدابير الاقتصادية القسرية التي فرضتها على روسيا والصين، والتفكر بأن تدابير من هذا النوع قد تمضي قدماً في تخريب نسيج العولمة. وفيما على الغربيين عدم التسامح إزاء حملات التضليل الروسية والصينية ومحاولات هذين البلدين تقويض أداء المؤسسات الدولية، على الدول الغربية السعي لإعادة إحياء تلك المؤسسات، كالأمم المتحدة والوكالات التابعة لها، حتى مع حضور بكين وموسكو فيها، إذ حين يجري اليوم التفكير بكيفية صون الأمن في أوروبا وآسيا، وفي كبح جماح التحول المناخي، والتعامل مع التقنيات الجديدة التي يمكن أن تكون تخريبية، كالذكاء الاصطناعي، ومواجهة التحديات المطروحة أمام الهندسة المالية الدولية، على صناع السياسة الغربيين أن يحسبوا حساباً لواقع المحور الصيني – الروسي الذي يزداد حزماً وقوة.