في دراسة مهمة تم نشرها عام 1985، تحت عنوان “نظرية العلاقات الدولية بين المنظور الواقعي ومنظور جديد” ذكرت أستاذتنا الدكتورة نادية مصطفي ما نصه: “المنظور السائد في كل مرحلة يكون انعكاسا لطبيعة وحقائق وسمات هذه المرحلة، ولأن كل منظور جديد يبرز كرد فعل للانتقادات التي توجه للمنظور الذي ساد من قبله في مرحلة سابقة في ظل أوضاع دولية مختلفة تطورت على نحو أبرز هذه الانتقادات أو التحديات أو التساؤلات حول مدى إطلاقه ومدى استمرار صلاحيته لوصف وتفسير الأوضاع الدولية المتطورة، ومن ثم يتبلور بديل جديد يتحقق حوله قدر من الاتفاق من جديد الذي يرقى به إلى مرتبة المنظور السائد نظرا للتلاؤم بين افتراضاته وبين الحقيقة الدولية من ناحية وكذلك ملاءمة ما يقترحه من أساليب منهاجية لدراسة أبعاد هذه الحقيقة المتطورة. بعبارة أخرى فإن كل منظور يبرز ليسود في ظل أوضاع دولية محددة حين يتضح أنه الأكثر ملاءمة لتفسيرها وقيادة البحث حولها”.
وأضافت أستاذتنا: “إن متابعة التطور في المنظورات التي تعاقبت على دراسة العلاقات الدولية يساعد على فهم الكثير من أبعاد التطور في مسار مجمل العلاقات الدولية، ولكن كما تدركها وتعبر عنها رؤية العالم الغربي الذي سيطرت دوله على تفاعلات السياسات الدولية، لأن الإسهام الأساسي في مجال التنظير للعلاقات الدولية هو إسهام غربي وأنجلو أمريكي بالذات”.
وفي إطار الرؤية الغربية للتنظير في العلاقات الدولية، انتهينا في المقال السابق، أنه خلال العقود الثمانية الأولي من القرن العشرين، وقبل نهاية الحرب الباردة، تعاقبت على دراسة العلاقات الدولية عدة منظورات ساد كل منها مرحلة من مراحل تطورات هذه العلاقات خلال هذه الفترة التاريخية، وتبلورت الاختلافات بين هذه المنظورات في ثلاثة جدالات كبرى، أولهما، الجدال بين المنظور الواقعي والمنظور المثالي، وثانيها: الجدال بين المنظور الواقعي والمنظور السلوكي، والثالث بين المنظور الواقعي والمنظور العولمي.
وهذا الجدال الكبير المتعدد المراحل الذي شهده مجال دراسة العلاقات الدولية (وفقاً لأستاذتنا) يدور حول محورين أساسيين (هما محوري أي منظور)، الأول منهاجي: ويقوم على البحث عن أفضل السبل المنهاجية للتحليل، وكان هذا محور الجدال الثاني بين الواقعية والسلوكية، والثاني: موضوعي: ويدور حول طبيعة النظام السياسي الدولي، وهنا يأتي الجدال الأول بين الواقعية والمثالية، والثالث بين الواقعية والعولمية.
وقد تناول المقال السابق، الجدال الأول بين الواقعية والمثالية، وفي هذا المقال سيكون التركيز على أطروحات المنظور السلوكي في العلاقات الدولية، وذلك على النحو التالي:
السلوكية ـ منظور أم مدرسة
كانت البداية الفعلية للسلوكية في العلاقات الدولية، في منتصف الخمسينيات من القرن العشرين، وتبلورت في الستينيات، وسعت السلوكية إلى بناء رؤية تحليلية تفسيرية تنبؤية للعلاقات الدولية، واهتمت بالأنماط المتكررة، وليس بالحالات الفردية كمحور للبحث، مع التركيز من الناحية المنهجية على المناهج الإقترابات العملية والرياضية.
وفي تحليله للمنظور السلوكي وأبعاده في العلاقات الدولية، انتهي المفكر الجزائري “د. يخلف عبد السلام”، (الذي تعامل مع السلوكية باعتبارها مدرسة وليست منظوراً) إلى أن بناء النظرية حسب السلوكيون يقوم على القدرة على التعميم وإطلاق الأحكام العامة. ويقوم هذا بدورة على إثبات الفرضيات. وظهر التحول مع السلوكية نحو المناهج العلمية القائمة على الإحصائيات وساهم في ذلك كله استعمال الحاسب الإلكتروني والرياضيات.
وقد اعتمدت السلوكية في كثير من أطروحاتها على النتائج التي توصل إليها علماء الاجتماع وعلماء النفس وعلماء الأنثروبولوجيا الذين درسوا سلوكيات الأفراد والجماعات الاجتماعية. وذلك انطلاقاً من أن سلوكيات الدول هي أساساً سلوكيات الأفراد والجماعات الرسمية وغير الرسمية في تلك الدول. وأن الشرط الضروري عند السلوكيون لتحويل الوقائع والأحداث إلى معلومات وبيانات يتمثل في وجود إجراءات وقواعد تصنيف وترتيب واضحة يمكن تكرارها.
وفي مواجهة الواقعية اعتبر السلوكيون أن الواقعية لا تعدو أن تكون سوى قاعدة لبناء علم حقيقي للعلاقات الدولية. فالواقعيون يرون أن العلاقات الدولية هي دراسة أنماط الفعل ورد الفعل بين دول ذات سيادة متمثلة في نخبها الحاكمة، كما أن العلاقات الدولية هي مرادف لـ “الدبلوماسية والإستراتيجية” وكذلك لـ “التعاون والصراع”، وهدف هذه العلاقات هو دراسة السلم والحرب. ودراسة العلاقات بين الدول مهما كانت صراعية أو تعاونية فإنها في النهاية ذات طبيعة متقلبة، فالعلاقات التي يطغى عليها الصراع تتضمن بعض عناصر المساومة، كما أن التعاون الدولي قد يعكس السيطرة العسكرية أو الاقتصادية لدولة على دولة أخرى.
كما يُسلم الواقعيون بوجود مجموعة من المتغيرات التي تؤثر على سلوكيات صانعي القرار، ومنها الظروف المناخية، المكان الجغرافي، والكثافة السكانية، ونسبة التعليم، والتقاليد التاريخية والثقافية، والظروف الاقتصادية، والمصالح التجارية، والقيم الدينية والإيديولوجية، الخرافات…إلخ.
ويري السلوكيون أن كل ما يهم الواقعيين هو ملاحظة سلوكيات الحكومات التي يدرسونها باستعمال مصطلحات مثل “ميزان القوة” أو تحقيق المصلحة الوطنية، أو دبلوماسية الحذر التي تمليها الحاجة للبقاء، ولهذا جعلوا من مصطلح” القوة” محور التحليل.
وهنا وفقاً للسلوكيين، تكمن صعوبة كبيرة في تعريف مصطلح القوة في كونه يتضمن مفهوم “التأثير”، وهذا التأثير هو بالأسس علاقة سيكولوجية تحتوي على السيطرة، وترتكز على عوامل متعددة تبدأ من القدرة على الإقناع وصولا إلى القدرات النووية، وبالتالي يكون من الصعب قياسها، ولا يقف الأمر عن مفهوم القوة فقط عند الواقعية، ولكن الإشكاليات تمتد للعديد من المفاهيم التي تشكل ركائز أساسية في منطلقات المنظور الواقعي، مثل مفهوم “المصلحة الوطنية”، ومفهوم “ميزان القوى”، فالمفهوم الأخير قد يعني المحافظة على الوضع الدولي الراهن لبعض الدول، كما قد يعني محاولة النظر فيه من طرف دول لا يخدمها الوضع الحالي.
ووفقاً “د. يخلف عبد السلام”، كان تعريف مجال علم العلاقات الدولية، بداية هجوم السلوكيين على الواقعيين، فهم يعتبرون أنه لا يمكن حصر العلاقات الدولية داخل حيز علم السياسة أو اختصاص مستقل آخر، فعلم العلاقات الدولية هو حقل من البحث تشترك فيه الكثير من العلوم، كعلم السياسة والتاريخ وكذلك العلوم الاجتماعية والتجريبية والعلوم الطبيعية.
وانطلاقاً من هذه الرؤية يرى السلوكيون أن “نظريات الواقعية” شاملة ولكنها غير واضحة، وغير محددة، ولهذا لا تستطيع تقديم تحليل واضح للسلوك السياسي الدولي، كما إنها لا تحتمل الثبات أمام التحقق العلمي، الذي يتطلب تبني الطريقة التجريبية، والمنهج الاستقرائي واختبار الفرضيات، والتأكد من القواعد أو المبادئ بواسطة الملاحظة المتكررة والاختبار، وتطبيق المصطلحات على الواقع أي تحويل الأحداث إلى بيانات ومعطيات.
وأمام هذه الاعتبارات انتهى السلوكيون إلى أنه من الصعب التوصل إلى نظرية علمية شاملة في العلاقات الدولية لأن المتغيرات التي تتحكم في السلوك السياسي الدولي كثيرة جدا ولا يمكن ربطها علميا، ولهذا ركز معظم أنصار ومفكري المنظور السلوكي في العلاقات الدولية على بحوث من المستوى المتوسط، تعتمد على تحليل مجموعات صغيرة أو فردية من المتغيرات المؤثرة في ظواهر العلاقات الدولية، وذلك من أجل بناء نظريات جزئية أو متوسطة تستطيع أن تصمد أمام الاختبار.
ولترسيخ رؤيتهم وضع السلوكيون عدداً من النماذج للنظام الدولي وجمعوا المعطيات المرتبطة بتلك النماذج للتأكد من صحة أو عدم صحة الفرضيات التي سعوا لاختبارها، لكن التماهي في التصغير والتقزيم، والإفراط في التدقيق فتح المجال أمام منظري الواقعية لتشديد الانتقادات للسلوكية وأنصارها.
إلا أنه على الرغم من هذه الانتقادات، وعلى الرغم من استمرار المنظور الواقعي في الهيمنة على رؤى وتصورات معظم مفكري ومنظري العلاقات الدولية حتى منتصف السبعينيات من القرن العشرين، إلا أنه يمكن القول أن مساهمة السلوكيين الأساسية كانت في الثورة المنهجية التي أحدثها المنظور وأنصاره في حقل العلاقات الدولية في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، وساهم تطبيق المناهج العلمية التي أدخلها المنظور السلوكي في العلاقات الدولية في تطوير العديد من المفاهيم والنظريات وأدوات البحث التي تم استقدامها من العلوم الاجتماعية. كما يعود الفضل للسلوكيين في التوسع في استعمال المقاربات المتعددة الاختصاصات، ودراسة وحدات جديدة في التحليل مثل “النظام” و”القرار” و”الإدراك”، وبناء حقول معرفية محددة للبحث في العلاقات الدولية مثل تحليل السياسة الخارجية، وعملية صنع القرار وتحليل الشخصية.
للدرجة التي يمكن معه القول إن الثورة المنهجية التي حققها المنظور السلوكي (بمرحلتيه السلوكية وما بعد السلوكية)، كانت محركاً للبحث عن منظورات أكثر شمولاً وأكثر دقة في تحليل وتأصيل علم العلاقات الدولية، وهو ما فتح المجال للجدال الثالث في هذا الحقل، خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين.
د. عصام عبد الشافي
المعهد المصرى للدراسات السياسية والاستراتيجية