بعث “خريف الغضب” العراقي واللبناني رسائل غير متوقعة إلى الجمهورية الاسلامية الإيرانية، سريعاً ما تردد صداها في محافظات بلاد “الفستق” بما فيها طهران التي اعتادت أن تكون منذ سنوات صاحبة المبادرة وليست بالتي توضع في موقف الدفاع إذا ما تعلق الأمر بـ”العواصم الأربع” التي تحول أهمها بالنسبة إلى رجال قاسم سليماني؛ شواظاً من نار منذ أسابيع، يقذف وكلاء الولي الفقيه بالشرر، حقيقة لا مجازاً.
ويرصد المراقبون عنصر الفجائية في الانتفاضة العراقية واللبنانية ومن ثم الإيرانية في طريقة تعاطي المرشد السيد علي خامنئي ورجالاته العرب مع الاحتجاجات، خصوصاً أمين حزب الله حسن نصر الله، الذي ظهر متناقضاً ما بين خطاب وآخر، ما جعله محط سخرية شباب ونساء بلاده ممن كانوا يحترمونه من قبل أو يخشون سطوة أرباب القمصان السود من رجالاته. حتى إن نصر الله نفسه لم يستطع كتمان وقع ذلك في نفسه وجعل يلتمس الأعذار في خطابه الثاني بعد الأزمة للذين غضبوا له من دون خجل.
بضاعة سليماني ردت إليه
ولهذا كان إيفاد سليماني إلى كل من بيروت وبغداد لازماً لإطفاء النيران، وهو الذي قال للعراقيين فيما نقلت وسائل إعلامهم “نحن في إيران نعرف كيفية السيطرة على الاحتجاجات”.
وهذا يسند ما رجحه تقرير مركز الملك فيصل للدراسات الأسبوع الماضي، بأن خيار القمع هو الأرجح بين سيناريوهات طهران ووكلاءها في التعامل مع الاحتجاجات وتوقع “اشتداد حدّةِ القمعِ تجاه المحتجين، إذ قد تشنُّ عناصرُ الحشد الشعبي حملةً سريةً من العنف الموجه ضد قادة الاحتجاجات تشملُ الاغتيالاتِ الموجهةَ وعملياتِ الاختطاف من أجل رفع تكلفة الاحتجاجات، وبثِّ حالةٍ من الخوف داخل الحركة. وهناك بالفعل مجموعةٌ من الصحفيين ونشطاء المجتمع المدني قد فروا من بغداد بعد أن علموا أنه من الممكن استهدافُهم بالاعتقال أو ما هو أسوأ”.
وحذر التقرير من أنه بمرور الوقت قد يؤدي ذلك القمع الممنهج إلى إعاقة مسيرةِ الاحتجاجات وإبطاء زخمها. لقد كان هذا الأسلوبُ فعالاً للغاية في تقليص حجم الاحتجاجات في البصرة التي شهدت احتجاجاً صامتاً هذا العام بعد حملة عنيفة ضد نشطاء المجتمع المدني في أعقاب احتجاجات البصرة في أغسطس 2018. بيد أنه من الصعبِ في بغداد تضييقُ الخناقِ على قادة الاحتجاجات نظراً لانتشارهم وصعوبةِ تحديدِ هوياتِهم. ومع ذلك، وبالنظر إلى المكاسب الكبيرة التي تسعى إيران من أجلها (وحالة الملل التي اعترت الغرب إزاءَ عدمِ الاستقرار في العراق)، فمن المرجح أن يتبعَ كلٌّ من إيران وعملاؤها هذا الخيارَ بحماس أكبر.
روحاني: كيف أدير البلاد بلا أموال النفط؟
لكن المحلل السياسي الإيراني فرهاد رضايي اعتبر أن التطورات في العراق ولبنان، “ستجعل طهران في وضع صعب للغاية وغير متوقع” على الرغم من التدابير القمعية المتخذة، والتي يباهي سليماني بخبرة رجاله فيها، وكانت ناجعة في الفتك بالثورة الخضراء في 2009، التي كان أبرز ضحاياها أنصار روحاني الذي يقود اليوم (يا لسخرية القدر) هو الآخر قمع ثورة أخرى.
غير أن طهران التي تعيش ظروفاً اقتصادية خانقة، لا يبدو أنها هذه المرة تملك جانباً من المناورة سلساً، فهي بوقوفها علانية في وجه الانتفاضتين العراقية واللبنانية، تكون كمن نصبت لنفسها “حبل مشنقة”، بسبب معاناتها أصلا من “ضائقة شديدة بسبب العقوبات الاقتصادية الاميركية، بما يجعلها غير قادرة على تقديم الدعم المالي لحزب الله أو حكومة بغداد” حسب الباحث رضايي الذي لفت عبر “إيران انترناشيونال” إلى أن توفير المرشد أرضية للتصدي العنيف للمتظاهرين في العراق ولبنان، “لن تمر دون تكلفة، وسوف تلحق أضراراً لا يمكن إصلاحها في شرعية النظام السياسية المتدنية بين الشيعة في العراق ولبنان”.
أما الذي لم يتوقعه الباحث الإيراني الذي أدلى برأيه قبل اندلاع المظاهرات في طهران، فهو امتداد تلك الكلفة إلى ميادين طهران وشهر وأصفهان، لدرجة دفعت الرئيس حسن روحاني إلى مصارحة جماهير بلاده بأن النظام “يعيش أصعب أيامه منذ الثورة ويحتاج إلى العملة الصعبة، ولو كنا في ظروف طبيعية اليوم، لكنا نبيع في المتوسط نفطاً بنحو 60 مليار دولار (…) ولكن كيف ينبغي لنا إدارة البلاد عندما نواجه مشاكل في مبيعات النفط؟ نحتاج إلى نحو 450 تريليون تومان سنوياً لإدارة البلاد من أين نحصل عليها؟ الدخل الذي يمكن أن يدير البلاد هو أموال النفط”.
التحديات التي أقر روحاني بعجز نظامه عن الوفاء بالتزاماتها في ظل منع بلاده من تصدير النفط، هي التي أججت الغضب ضد النظام من جانب الشعب الإيراني الذي فرضت عليه ضرائب جديدة، في وقت يقوم فيه حكامه بالانفاق على المليشيات في بلدان أخرى، ومناكفته دولاً عظمى بما أخضع الشعب لعقوبات قاسية، لا ناقة له فيها ولا جمل، ولذلك يحاول كل طرف التبرؤ من تحمل تبعاتها في مثل اعتبار روحاني “زيادة أسعار البنزين قرار النظام وليس الحكومة”.
وكانت الحكومة الإيرانية أعلنت عن ترشيد البترول يوم الجمعة الماضي، مع زيادة للإسعار بنسبة 50 في المئة لأول 60 لترا يشترى في الشهر و200 في المئة على المشتريات التي تتجاوز الستين لترا.
ووضعت الاحتجاجات ضغطا جديداً على الحكومة فيما هي تتعامل مع العقوبات الأميركية إثر قرار دونالد ترمب سحب الولايات المتحدة من اتفاق إيران النووي المبرم في 2015.
وادعت السلطات الإيرانية أن العوائد المتأتية من رفع أسعار الوقود ستساعد 18 مليون عائلة من أصحاب الدخل المنخفض، بينما لام برنامج الأخبار الرئيسي في البلد “المخربين” على أعمال “التحطيم” خلال التظاهرات.
شح في طهران وتبذير هناك ومغامرات
وفي وقت يعاني فيه الشعب الايراني من وطأة الأعباء الاقتصادية، كشفت تقارير للصحافة الأميركية عن تحركات رجال النظام في العراق لتعزيز نفوذهم في البلاد التي مزقتها الحرب منذ احتلالها في 2003، وكيف أن الحرس الثوري وتحديدا فرقة “فيلق القدس” التي يتزعمها اللواء سليماني هي “من تشرف على وضع سياسات إيران في العراق ولبنان وسوريا وهي الدول التي تعد الأكثر حساسية لطهران، وتعيين السفراء بهذه الدول عادة لا يكون من السلك الدبلوماسي إنما من الرتب العليا في الحرس الثوري الإيراني”.
وكشفت صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية، الأحد 17 نوفمبر (تشرين الثاني) عن تسريبات لوثائق للاستخبارات الإيرانية تُظهر تجنيد طهران عملاء لها داخل السلطات العراقية، وتضم تقارير أعدها ضباط في الاستخبارات الإيرانية بين عامي 2014 و2015.
وكشفت التسريبات وفقاً للصحيفة وموقع “إنترسيبت” الأميركي أنّ “سفراء إيران في لبنان والعراق وسوريا من الرتب العليا في الحرس الثوري الإيراني، وهو الّذي يعيّنهم وليس وزارة الخارجية الإيرانية”، وأفادت أيضاً بأن “قائد فيلق القدس بالحرس الثوري اللواء قاسم سليماني يحدد سياسات إيران في لبنان وسوريا والعراق”، وتُظهر التسريبات “وجود علاقة خاصة بين رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي والسلطات الإيرانية والحرس الثوري الإيراني منذ كان في المنفى”. وجاء في إحدى التسريبات أنه كان لعبد المهدي “علاقة خاصة” بطهران حين كان وزيراً للنفط عام 2014.
وقالت الصحيفة والموقع الأميركيين إنهما تحققا ممّا يقارب 700 صفحة من تقارير كُتبت في عامي 2014 و2015 من قبل وزارة الاستخبارات والأمن الإيرانية، وأرسلت إلى “إنترسيبت” من قبل شخص رفض الكشف عن نفسه أو اللقاء بالصحافي شخصياً، قائلاً إنه يريد أن “يرى العالم ما تفعله إيران في بلدي العراق”.
وذكرت الصحيفة أنّ “التقارير الإيرانية المسربة تؤكّد زيارة سليماني العراق لدعم عبد المهدي”. علماً أن تقارير إعلامية كشفت أخيراً حضور سليماني إلى بغداد والنجف وسط احتجاجات مناهضة للحكومة ومستمرّة منذ الأول من أكتوبر (تشرين الأول)، في محاولةً لإقناع الأحزاب السياسية برصّ الصفوف حول رئيس الوزراء العراقي.
وتقدّم الوثائق “صورةً مفصلة عن مدى القوة التي عملت فيها طهران لترسيخ نفسها في الشؤون العراقية، والدور الفريد للجنرال (قاسم) سليماني”، الذي يعتبر قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني ورجل طهران الأساسي في العراق.
أوان دفع ثمن تجويع الشعب الايراني
ويقول رئيس مركز مستقبل الخليج ومقره لندن الدكتور عبدالله الطاير، في مقابلة مع “اندبندنت عربية” إن “إيران شنقت نفسها بحبل العواصم الأربع”، إذ قامت بتجويع الشعب الايراني وحصاره وتحويل ايران وأمته العظيمة الى أمة منبوذة، مع أن فعله ذلك لم يؤت ثماره ولم يحقق الهيمنة للنظام ولا الأمن. و”بذلك فالعواصم الاربع التي كانت مصدر فخر إيران هي المهدد الأول لا لاستقرار النظام ومشروعه التوسعي”.
وأكد أن الاستراتيجية الأمنية الايرانية بُنيت على أساس خلق بؤر توتر لحلفائها وللولايات المتحدة الأمريكية، بحيث تتحكم فيها عن بعد وتبقي داخلها بعيدا عن الخطر، ويكون لديها مخرج بتحميل وكلائها المسؤولية عندما يتعاظم عليها الضغط الدولي كما حدث في الهجوم على منشآت ارامكو حيث قدمت الحوثيين قربانا للغضب العالمي، “هذه الاستراتيجية التي ارهقت دول المنطقة ترتد نحو إيران، وبحدة أشد. فالبؤر التي كانت خط الدفاع الأول عن الأمن الوطني الإيراني في العراق ولبنان باتت خط الهجوم الأول على السياسة الخارجية لولاية الفقيه”.
ومن زاوية كتاب الطاير “حرق الشيطان” حول دور إيران في صناعة الإرهاب، وما إذا كان هذا الدور سينقلب على طهران وهي التي اتخذت المظاهرات أحد وسائلها لحسم ملفات في لبنان والعراق واليمن في بداية الحوثي؛ يعتقد أن المحلل السعودي أن “السحر فعلا انقلب على الساحر، فقد كان المخطط أن كل من يخرج على مصالح ايران في العراق ولبنان هو ارهابي داعشي. لكن الذي نراه هم شباب، مثقفون، فنانون، عامة الشعبين العراقي واللبناني، بغض النظر عن طوائفهم، وتجاوزنا مرحلة تخوينهم وتصنيفهم ارهابيين. انهم يقولون بلغة حضارية، على ايران ان تكف تداخلاتها وتبقى داخل حدودها، وهذا مطلب الشعب الايراني ايضا”.
قرار نظام لا حكومة
وهل يمكن لروحاني أن يكون أقل حدة مع المتظاهرين وهو الذي ذاقت ثورة تياره “الخضراء” الأمرين من رجال الحرس الثوري؟ يجيب الطاير بأنه “في اي نظام اخر قد يكون الرئيس المنتخب هو فرس الرهان الذي تلتف حوله المعارضة، ولكنه ابن النظام، ويصعب ان نتوقع منه خروجا على ولاية الفقيه. تصريحاته واضحة ان رفع الاسعار هو قرار نظام وليس حكومة. ليس سهلا عليه ان يتبنى طلبات المعارضة، ولن يسمح له بذلك، لكن الافراط في المعالجة الأمنية سيباعد بين النظام والشعب”.
أما عن القيمة المختلفة للانتفاضة الجديدة في إيران وسط التفاؤل الذي يشكك البعض في وجاهته بأن النظام مهدد بها على الرغم من خبرته الطويلة في قمع الاحتجاجات، فإن الطاير يعتبر أن القمع يزيد الثورة تمرداً.
لكنه يقر بأن “النظام الايراني، وبخاصة الباسيج والحرس الثوري لديهم خبرة امنية كبيرة في القمع، ونحن نعيش أثرهم في العراق وفي سوريا واليمن، واذا كان هذا تصرفهم في الخارج فكيف سيكون عليه في الداخل. لكن وكما اشرت سابقا فإن الحلول الأمنية لم تنجح على المدى الطويل في اخماد اي ثورة. هي تقمعها، وتزيد حدة الاحتقان والسخط المجتمعي الذي هو الوقود الذي يبقي جذوة الثورة او التمرد متقدة”.
وبالنظر إلى اتهام صدقية الغرب في تردده نحو التعامل مع دعم التظاهرات الايرانية، يرى المحلل الخليجي أن “أوروبا هي فقط المحايدة، بينما تبدو الولايات المتحدة الامريكية داعمة للحراك داخل إيران وفي دول نفوذها. لكن حتى أمريكا لا تفكر بسقوط النظام وانما بإجباره على الجلوس للتفاوض. لا اظن ان اولويات امريكا هي ذاتها اولويات دول الجوار، فالتوازن بين القوى الشيعية والسنية مبدأ أمريكي غربي ولن تسمح تلك الدول بإيران ضعيفة. ربما تطمح الى تغيير داخل بنية النظام وليس انهياره”.
اندبندت العربي