كان طموح صدام حسين أن يلعب العراق دور “بروسيا العرب”. ولم يكن مستعجلاً، إذ قال في حديث صحافي “من استعجل الصعود، اختصر زمن الهبوط”. لكن الثورة الإيرانية التي جعلها الخميني إسلامية وقرر تصديرها، فاجأت صدام، الذي رآها “فارسية”، وقرر مواجهتها في إيران بدلا من أن يحاربها في العراق. وكان عنوان الحرب التي دامت ثماني سنوات وانتهت بإقرار الخميني أن وقفها بالنسبة إليه مثل “شرب السم”، هو: “حماية البوابة الشرقية للأمة العربية”.
والخطأ في الحسابات، بعد الحرب، قاد صدام إلى اجتياح الكويت وضمها إلى العراق، متجاهلاً أمرين: أولهما أن توحيد ألمانيا على يد بسمارك، زعيم بروسيا، بما سمّاه “الحديد والنار”، حدث في عصر مختلف عن العصر الحالي، وبالتالي فإن توحيد العرب بالقوة صار مهمة مستحيلة. وثانيهما أن مصالح أميركا وأوروبا لا تسمح للعراق ولا إيران ولا أي دولة بالسيطرة على الخليج الذي يحتوي على 40 في المئة من نفظ العالم.
وهكذا قرر الرئيس جورج بوش الأب إخراج العراق من الكويت بحرب “عاصفة الصحراء”. ويروي رئيس الاستخبارات المركزية، ومن ثم وزير الدفاع السابق روبرت غيتس، في مذكراته أن الجنرالات كانوا ضد الذهاب إلى الحرب. وخلال التحضير لها قدّموا للرئيس خطة كبيرة تصوروا أنها ستمنعه من شن الحرب، قائلين “تحرير الكويت ممكن في حال واحدة، نشر نصف مليون جندي في المنطقة خلال ستة أشهر”، فقال “هذا صحيح، افعلوها”
تجنب بوش الأب دخول العراق وإسقاط النظام بعد إخراجه من الكويت، لئلا ينفرط عقد التحالف الدولي الذي جمعه لتحرير الكويت. لكن الرئيس جورج بوش الابن قام بغزو العراق وإسقاط نظامه ودولته عام 2003. كان الشعار هو بناء “الشرق الأوسط الجديد” انطلاقاً من صنع نظام ديمقراطي في العراق. ولم يكن ذلك سوى خداع للنفس وللآخرين. فالتجربة دفعت مستشارة الأمن القومي الأميركي، كوندوليزا رايس، إلى القول إن “ما يمكن فرضه هو الطغيان، لا (الديمقراطية)”.
وفي تاريخ حرب العراق التي نشرها الجيش الأميركي اعتراف بـ”خطوات خاطئة عدة وثمن باهظ بالمال والدم لكي تظهر إيران التوسعية كالرابح الوحيد، وبالسياسات الكارثية على الجيش العراقي وتطهير الإدارة والقوات العسكرية الجديدة من أي عراقي كان عضواً في حزب البعث”.
اليوم يدفع العراق ثمن الأغلاط الأميركية والتوسعية الإيرانية. فالنظام الذي أقامته أميركا هو أبعد ما يكون عن الأنظمة الديمقراطية. أولاً لأنه مجرد محاصصة بين القوى على أساس طائفي ومذهبي وإثني. وثانياً لأنه خاضع لنظام ثيوقراطي في إيران لعب بورقة الشيعة ليجعل العراق جزءاً من مشروعه الإمبراطوري. وثالثًا لأن الحكومات العراقية مجبرة على التوازن الصعب بين ثلاث قوى نافذة في العراق: إيران، وأميركا، والمرجعية العليا “السيستاني”.
وما برز إلى جانب الخلل اليومي في التوازن بين القوى الثلاث وسياساتها هو مواجهة تحدي التعامل مع قوة لا يعرفها حكام العراق، ولا ملالي إيران، ولا الذين يديرون سياسة أميركا بذهنية التجار في عهد الرئيس دونالد ترمب. جيل جديد ولد بعد الغزو الأميركي، أو كان طفلاً وقتها، يشكل 60 في المئة من السكان اليوم.
جيل لا يعرف حكم صدام، ولا عانى الغزو الأميركي، ولا عرف سوى الفقر والبطالة وسوء الخدمات وانعدام الأمن في ظل حكام فاسدين يخدمون ملالي إيران.
كان من الحتميات التاريخية أن يقود تراكم الإذلال والإفقار وتوظيف صراع الهويات إلى انفجار ثورة شعبية واسعة في الشوارع. ثورة ساحاتها الأساسية بغداد والنجف وكربلاء والناصرية. أبرز شعاراتها “إيران بره بره، بغداد حرة حرة” و “العراق عربي”. ومن مظاهر الغضب فيها إحراق القنصلية الإيرانية في كربلاء، ثم في النجف. ثورة لم يكن لدى السلطة وعناصر من الحشد الشعب من رد عليها سوى القمع والقتل كما في إيران.
مئات القتلى وآلاف الجرحى بالرصاص وقنابل الغاز. وحين ترددت أجهزة الأمن في القتل، اندفع وكلاء إيران بالآلاف لمهاجمة الثوار العزل بالسكاكين وبدأ خطف الناشطين وقتلهم. ولم يكن أفظع من مجازر بغداد سوى مجازر الناصرية. ولا كانت المطالب الاجتماعية للثوار هي الهم الوحيد. فالمطلب المهم بعد استقالة حكومة عادل عبد المهدي والدعوة إلى انتخابات نيابية جديدة على أساس قانون جديد، هو إنهاء المحاصصة وإقامة دولة مدنية وطنية ديمقراطية.
ومن الوهم الهرب من الثورات الشعبية، ولو نجح القمع مؤقتاً في إسكاتها. فالتحولات عميقة في المنطقة. وهي أعمق في البلدان العربية الأربعة التي تفاخر طهران بأنها تحكمها، أي العراق وسوريا ولبنان واليمن. وهي البلدان التي تشكل مع إيران ما سماه الملك الأردني عبد الله الثاني “الهلال الشيعي”، والتي تدور فيها ثورات شعبية من أجل دول مدنية.
وفي مطلع القرن الماضي، قال العالم الاقتصادي الكبير كينز إن “الأحداث الكبرى في التاريخ تُعزى دائماً إلى التغيير الديموغرافي البطيء الذي تصعب ملاحظته”.
اندبندت العربي