يسعى النظام السوري، بدعم روسي، للإمساك بكل المفاتيح التي تمكّنه من التحكم في مستقبل منطقة شرق الفرات برمّتها، تمهيداً لإمكانية استعادته حقول النفط، وإضعاف الموقف التركي، وإبقاء الاحتمال موجودا لإمكانية طردها لاحقا من مناطق نفوذها في “نبع السلام” و”غصن الزيتون” و”درع الفرات”.
وهو مهتم بالسيطرة على الطرق الرئيسية الاستراتيجية، وكذلك بكسب واستعادة وتجنيد مناصريه من السكان المحليين في القرى المحيطة بتلك الطرق.
ويبدو أن هناك تلاقيا آنيّا بين مصالح تركيا من جهة، ومصالح روسيا والنظام السوري من جهة أخرى، في ترتيب الوضع شرق الفرات؛ فروسيا وافقت على عملية نبع السلام، واعترفت بها، في حين أنها دفعت قوات النظام إلى التحالف مع قوات سوريا الديمقراطية عسكرياً في معارك السيطرة على الطرق المتفرعة من عقدة تل تمر الاستراتيجية شمال الحسكة، بعد أن سيطرت عليها.
بينما يتم تسيير الدورية الروسية- التركية المشتركة الخامسة عشرة، على عمق 6 كيلومترات من الحدود التركية، وبطول 48 كيلومترا، بموجب الاتفاق الموقع بين الطرفين. تؤدي روسيا دور الوسيط بين حكومة دمشق وقوات سوريا الديمقراطية، التي فقدت سندا مهما لها بانسحاب القوات الأميركية من مناطق سيطرتها، وباتت عرضة لعمليات الانتقام من القوات التركية ومن الجيش الوطني التابع لها.
ومؤخراً، توسطت روسيا في مفاوضات بين حكومة دمشق وقوات سوريا الديمقراطية، لتسليم النظام طريق الحسكة- تل تمر، الذي يلتقي مع الطريق الدولي أم-4 في مدينة تل تمر. وهذا يعني سيطرة النظام على طريق تجاري هام، تمر منه قوافل النفط وغيرها من أشكال التبادل التجاري من الحسكة وريفها الجنوبي باتجاه الطريق الدولي أم-4، ثم باتجاه الغرب صوب مناطق النظام في حلب، أو مناطق المعارضة التي تسيطر عليها تركيا.
يسعى النظام إلى إضعاف قوات سوريا الديمقراطية، عبر تفكيكها، واستعادة الأطراف غير الكردية المشاركة فيها، حيث زار علي مملوك، نائب الرئيس السوري للشؤون الأمنية، الأسبوع الماضي، مدينة القامشلي، والتقى بوفود العشائر العربية، وحرّضها على ترك التحالف مع الوحدات الكردية، وتعطيل مشروعها الانفصالي.
وبسيطرة قوات النظام على طريق الحسكة- تل تمر، سيجبر المجلس العسكري السرياني، المتمركز على الطريق، حيث توجد 34 قرية سريانية، على تقديم ولائه للنظام وترك قوات سوريا الديمقراطية.
هذا إضافة إلى أن النظام قام بتشكيل مجموعات الدفاع الوطني، من أبناء المنطقة، لتتولى حماية الطريق السابق الذكر، وذلك على شكل ميليشيات موالية له، اعتاد تشكيلها من أبناء المناطق المحليين، كونها تلقى قبولاً شعبياً، بدلا من الزج بعناصر جيشه.
فيما أرسل النظام تعزيزات إلى الحسكة، التي بات يسيطر عليها، بعد الانسحاب الأميركي، لتأمين عودة نشاط مؤيديه الحزبيين السابقين، حيث تجري انتخابات حزبية ونقابية، لتشكيل قيادات محلية ذات نفوذ وموالية له، على غرار ما يجري في باقي مناطق سيطرته، بعد أن كان ممثلو تلك المناطق من سكان العاصمة دمشق، وإن كانوا ينتمون إلى تلك المناطق، لكن صلاتهم مع سكانها شبه مقطوعة، وذلك خلال فترة سيطرة الإدارة الذاتية.
النظام يجيد لعبة تجنيد الموالين، خاصة الذين سبق أن عملوا في جهازه الحزبي والبيروقراطي، ويبدو أن علاقته بهؤلاء لم تنقطع، وهو يسعى إلى إحلال استقرار أمني في مناطق تعرضت إلى الكثير من القصف والتهجير والتغيير الديموغرافي، وقد يتمكن من خلق بيئة آمنة نسبياً لعودة جزء من المهجرين إلى مناطقهم، الأمر الذي سيحسّن صورته المتآكلة لدى المجتمع الدولي، ولا غرابة في قيام المنظمات غير الحكومية بتقديم مشاريع دعم إنساني لهذه الأغراض.
والنظام بذلك يتفوق على ما يرغب الأتراك في فعله في منطقة “نبع السلام”؛ حيث يروج الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لنيّته توطين مليون مهجر في المنطقة الآمنة، وإقامة مشاريع تنموية، لكنه يفتقد القدرة على الحصول على دعم غربي- أوروبي، وهو ما سعى للحصول عليه خلال القمة الرباعية التركية- الألمانية- الفرنسية- البريطانية، التي عقدت على هامش قمة دول حلف شمال الأطلسي، ويسعى إلى عقد قمة رباعية دورية سنوية في إسطنبول تختص بالشأن السوري.
حيث ينظر الغرب إلى عملية نبع السلام بعين الرفض، كونها استهدفت مناطق تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية، التي أبلت بلاء حسناً في دحر تنظيم الدولة الإسلامية، وكون المنطقة باتت محتلة من قوات تركية، ومن الجيش الوطني الموالي لها، ذي الطابع الإسلامي، والذي تتحدث تقارير حقوقية عن ممارسته انتهاكات في عفرين ضد السكان الأصليين.
بات النظام يسيطر على المنطقة الممتدة من الحسكة إلى تل- تمر، وحتى المناطق الممتدة إلى ريف رأس العين، وهي المناطق الأكثر غنى بالقمح السوري، ويسيطر على أهم الطرق التجارية التي ستمرر النفط إلى الغرب والشمال، لكن قدرته على الاستفادة من كل ذلك اقتصادياً ما زالت محدودة؛ فحقول النفط في الحسكة ودير الزور تحت السيطرة الأميركية، وما زالت قوات التحالف تتمتع بعلاقات قوية مع قوات سوريا الديمقراطية.
ولا يبدو أن الأميركيين يريدون الإفراج عن منع استفادة النظام من الثروات النفطية، خاصة مع احتمال صدور “قانون حماية المدنيين السوريين لعام 2019” أو قانون “قيصر”، بعد مصادقة البيت الأبيض عليه الأسبوع المقبل، حيث وافقت عليه أغلبية ساحقة في مجلس النواب.
والقانون يفرض عقوبات على النظام السوري، وداعميه الدوليين، الرسميين وغير الرسميين من الميليشيات، وعلى الشركات التي تسعى للاستثمار في سوريا، ما يعني تعطيل عملية إعادة الإعمار دون حل سياسي أممي، يزيح رجالات النظام الأساسيين عن أي دور سياسي، ويعني تعطيل الحل الروسي، وتعطيل محاولات إعادة التطبيع مع النظام من قبل دول عربية، وأخرى أوروبية يحكمها يمين متطرف، بعد ترغيبها في تمويل مشاريع الاستثمار في سوريا.
وبذلك ما زالت روسيا تدور في ورطة المستنقع السوري، دون القدرة على جني أرباح تدخّلها العسكري في سوريا. وباتت الكرة الآن في ملعبها، فهل ستستبق العقوبات الأميركية بفرض تغيير سياسي على النظام السوري؟ أم أنها ما زالت تملك أوراقاً للمناورة مع الولايات المتحدة؟ أم أن استمرار التغلغل الإيراني في سوريا سيحد من قدرتها على التغيير؟