إيران نحو أفريقيا… دلالات التطويق

إيران نحو أفريقيا… دلالات التطويق

تشكّل القارة الأفريقية محوراً مهماً في أولويات السياسة التوسعية الإيرانية، واعتمدت الثورة الإيرانية عام 1979 منذ قيامها، وأنه في حال نجاحها، لن تكون محصورة في الداخل الإيراني فقط، فقد تعهدت القيادة منذ ذلك التاريخ بالوفاء بأحد أهم أهداف الثورة، وهو تصديرها للخارج، وخصت بالاهتمام دول الجوار وما يحيط مناطق نفوذها. ولتتمكن من ذلك، عملت منذ وقت مبكر على التدخل الجريء وزعزعة استقرار تلك الدول معتمدة على وسائل القوة الناعمة التي انتهجتها أسلوباً لازم الدولة الإيرانية منذ ثمانينيات القرن الماضي.

وإن لم تكن إيران قد اشترطت وحدة الدين كأساس للتعاون الاقتصادي والثقافي، فإن ما أعربت عنه في منتدى التقارب الفكري بين أفريقيا وإيران في العام 2010 قد عكس مرحلة جديدة من التعاون على أساس مجموعة من المصالح المشتركة بين الجانبين بغض النظر عن اختلاف العقيدة.

أهداف التطويق

لم يصرف الاهتمام بدول شرق آسيا وتوجهها شرقاً لكسب التأييد الدولي ودعمها لمواجهة العقوبات الدولية، وتبعات الاتفاق النووي، إيران عن القارة الأفريقية التي كانت منذ بداية الثمانينيات محط أنظارها. فالهدف الأساسي كان أكبر من أن تثنيها عن ذلك أية متغيرات دولية أو إقليمية. وكان لشمال أفريقيا نصيبها من التشيع، فعلاقات إيران مع دول المغرب العربي الثلاث قامت على أُسس سياسية واقتصادية ودينية، ثم علاقاتها مع ليبيا طوال عهد القذافي. كان الهدف من ذلك توسيع إطلالتها على البحر الأبيض المتوسط، مستفيدة من تعدد المذاهب ولاعبة تحت جناح التيارات الصوفية في مواجهة السُنة.
أما شرق أفريقيا، فالغرض الأساسي هو تطويق السعودية من الغرب بعد الحرب التي تديرها في الجنوب عبر وكلائها الحوثيين لتعزيز وجودها في اليمن. استمرت إيران في تحقيق طموحها بإيجاد نفوذ لها في القرن الأفريقي، واستمرت في تهديد الملاحة الدولية في البحر الأحمر من مضيقي عدن وباب المندب. ويأتي هذا في إطار سعيها لأن يكون وجودها على امتداد البحر الأحمر والتقائه مع البحر الأبيض المتوسط عبر حلفائها التقليديين “حزب الله” في لبنان وبشار الأسد في سوريا.

ويبرز هذا الحزام بشكل أوسع مما تنبأ به وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق هنري كيسنجر. وقد كانت فوضى انهيار نظام الحكم في اليمن حافزاً للالتفات إلى الجهة الأخرى من البحر الأحمر. تقابل اليمن بموقعها المهم وتركيز الصراع المنطلق من قضايا تنموية وقبلية وسياسية مستغلة العنصر المذهبي، منطقة القرن الأفريقي لما تمثله هذه الجهة المقابلة من أهمية استراتيجية متصاعدة نسبة لنشاط صناعة نقل النفط البحري، ثم الشاغل الأمني المتمثل في إمكانية التحكم في الممرات المائية في هذه المنطقة.

التغلغل الشيعي

استطاعت إيران في فترة قياسية أن تتغلغل في أفريقيا مستخدمة نفوذها الاقتصادي والسياسي والأيديولوجي. ومارست إيران في دول مثل السودان وإريتريا ونيجيريا وإثيوبيا وغيرها حالات تشيع وطقوس واحتفالات شيعية لا تخطئها العين تحت ستار منظمات المجتمع المدني التي نشطت في بناء المساجد وإعالة طلاب القرآن والعِلم الديني. وعلى المستوى الاقتصادي، دخلت إيران في شراكات اقتصادية عديدة مع بعض الدول الأفريقية في مجالات النفط والغاز والزراعة والتنمية.

وجدت إيران في بعض النظم الأفريقية ضالتها، ما أسهم في هذا التغلغل إمَّا بسبب الفقر والحاجة، أو بسبب اضطهادها دولياً. فالنظام السوداني السابق على سبيل المثال سمَّى انقلابه عام 1989 “ثورة” تيمناً بالثورة الإيرانية، وأظهر أنه يسير بقيادة الدين أسوة بالثورة الخُمينية التي لم تتوانَ إيران عن تصديرها إلى بعض الدول الإسلامية.

وفي تسعينيات القرن الماضي، وفي عهد الرئيس الإيراني على أكبر هاشمي رفسنجاني، قدمت إيران دعماً مالياً مُقدَّراً للسودان، وتواصل الدعم في عهد خلفه الرئيس محمد خاتمي. تبع ذلك دعم عسكري أقامت به إيران مصنعاً للأسلحة والذخيرة في منطقة “الشجرة” بالسودان لتعزيز معاهدة التعاون العسكري.

كما لم يغفل عن التركيز على استعداد إيران لعرض مشاريع للشراكة التكنولوجية النووية، ففي عام 2008، وقعت حكومتا البلدين اتفاقاً للتعاون الأمني والعسكري. أما في عام 2009 الذي توالت فيه الزيارات المتبادلة بين أعضاء الحكومتين، دان رئيس مجلس الشورى الإيراني علي لاريجاني أثناء زيارته للخرطوم، مذكرة الاعتقال التي صدرت من المحكمة الجنائية الدولية بحق الرئيس وقتها عمر البشير، واعتبرها إهانة مباشرة للمسلمين. وبادلته الحكومة السودانية بإعلانها عن دعمها للمشروع النووي الإيراني.

وتواءمت الدولتان باعتبار تصنيفهما كدولتين راعيتين للإرهاب، فقد شهدت العلاقة بينهما تطورات في المجالين العسكري الاستراتيجي والاقتصادي على مرّ سنوات نظام الإنقاذ. وكان ذلك الحلم يمشي على قدم وساق إلى أن قرر السودان أخيراً قطع علاقاته مع إيران وذلك لأسباب قد لا تكون حديثة، وإنما خدمتها ظروف ناشئة. وهي تقع في إطار أن السودان لم يستفد كثيراً من إيران المُحاصَرة أصلاً، بل إن تعاونه مع إيران كفّ عنه الدعم والمعونات الخليجية، وعزلته هذه العلاقة دولياً وإقليمياً. وباستثناء بعض الدعم للمشاريع العسكرية، فإن حجم التبادل التجاري والاستثمارات لم تكن تتناسب مع تسهيلات الحكومة السودانية التي قدمتها لإيران، كما لم ترتقِ كذلك إلى حجم التطورات في المجالين السياسي والثقافي.

آليات ومحفّزات التوسع

استخدمت إيران قوتها الناعمة ودخلت معترك الاستقطاب لهذه الدول، وإن لم تستثن معظم دول القارة، فإنها خصَّت شرق أفريقيا ومنطقة القرن الأفريقي على الرغم من الاختلاف المذهبي، لما تمثله هذه المنطقة من بعد استراتيجي مهم. وكما لإيران أذرعها السياسية الطويلة، فإن لديها وسائل أخرى للسيطرة على الدول الأفريقية تمتد بين الفكر والدين والاقتصاد والثقافة، مستخدمة في ذلك مجموعة من المؤسسات الرسمية والمنظمات الخيرية لتنفيذ أهدافها. كما أنشأت العديد من الجمعيات الخيرية والمراكز الثقافية الشيعية بهدف خلق أنظمة وهيئات وشخصيات موالية للنظام الإيراني في أفريقيا. وبعد السيطرة عليها، تستطيع التحكم بوكلائها في الدول المجاورة، وحراسة هذه المنطقة التي تحيط بحدود غرب آسيا وتشكل بوابات لمناطق نفوذها.

وتمتلك القارة الأفريقية الكثير من المحفزات من حيث المخزون الاحتياطي لخام اليورانيوم المنتشر في عدد من الدول الأفريقية، الذي تحتاجه إيران لبرنامجها النووي. كما أن نشاطات مثل تبييض الأموال وتهريب وتجارة السلاح والمخدرات خلقت نوعاً من النشاط الاقتصادي الأسود في جزء من مناطق النزاعات والحروب.

رسالة لأفريقيا

وطرحت إيران أيضاً مبادرات لبرامج القدرات والخبرات العلمية والتكنولوجية والاقتصادية، يوجه رسالة مباشرة لأفريقيا للاطلاع على دور إيران كفاعل إقليمي وسعيها لتحقيق المصالح الأفريقية. كما نشطت إيران في الأعمال الخيرية والإغاثة في حالات الكوارث والعديد من العمليات الخيرية في المناطق الفقيرة، ومن خلال ذلك، تسللت العقيدة الشيعية في المجتمعات. ونجحت هذه الآليات، لأن معظم هذه الدول الفقيرة والمهمشة لا تدور في الفلك الغربي، كما أنها في حالة جفاء مع الدول العربية، لذا أصبحت مساحات تحرك منها إيران قوتها الناعمة.

ولا شكَّ أنه بعد التحول الإقليمي الدراماتيكي في الشرق الأوسط وتأثيره على القارة الأفريقية بما فيها أفريقيا جنوب الصحراء، فإنّ علاقاتها مع إيران ستظل منقسمة بين مصالحها ومخاوفها. ولكن الثابت أيضاً أن أُطر المخاطرة ستكون محكومة بمدى تقارب الدول العربية أو جفائها.

اندبندت العربي