قضايا الإقليم والإدارة الأمريكية القادمة

قضايا الإقليم والإدارة الأمريكية القادمة

بعد عقود من الوجود الأمريكي المستمر في الشرق الأوسط، لا تزال الولايات المتحدة غارقة في الإقليم. لقد فكّر ثلاثة رؤساء أمريكيين” ، باراك أوباما،دونالد ترامب، بايدن” مُتعاقبين بالاستدارة من الشرق الأوسط صوب آسيا لمواجهة الصين الصاعدة، لكن ثلاثتهم لم يتمكّنوا من القيام بذلك. فقد تطلّبت الحروب الأهلية، والإرهاب، وسياسة التوسع الإقليمي التي تتبعها إيران، تدخّل الولايات المتحدة. لكنَّ هناك مؤشرات واضحة بأن واشنطن تعلمت درساً صعباً بأن هناك مخاطر كامنة خلف الرغبة بالانسحاب من الشرق الأوسط دون وجود استراتيجية سليمة حول كيفية التعامل مع التحديين الرئيسين في المنطقة: المسألة الفلسطينية، والنفوذ الإيراني في المنطقة مقروناً باقتراب طهران من العتبة النووية.

قبل أيام قليلة فقط من هجوم حركة “حماس” في 7 تشرين الأول/ أكتوبر عام 2023، ذهب جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي الأمريكي، في مجلة “فورين أفيرز”، إلى أن “الشرق الأوسط أكثر هدوءً عما كان عليه منذ عقود”، ومن الواضح أن مفاعيل مثل هذا الاستنتاج لم تَدُم طويلاً.

وقالت سوزان مالوني، مديرة “برنامج السياسة الخارجية” في معهد بروكينغز، بعد أيام من 7 أكتوبر: “لقد شَكَّلَ هجوم حماس الصادِم على إسرائيل البداية والنهاية بالنسبة للشرق الأوسط. ولعل ما بدأ في شكل لا يمكن وقفه تقريباً شَكَّلَ الحرب التالية – الحرب التي ستكون دموية ومكلفة ويصعب التكهن بمسارها ونتيجتها. ولعل ما انتهى بالنسبة لأي شخص يهمه الاعتراف بذلك يَتَمَثَّلُ بالوهم أن بإمكان الولايات المتحدة الانسحاب من منطقة هيمنت على أجندة الأمن القومي الأمريكي على مدى نصف القرن الماضي”.

 بعد أكثر من عام على ذلك الهجوم، ترسم الحرب في غزة ولبنان، والضربات المتبادلة بين إسرائيل وإيران، معالم واقع جديد في إقليم الشرق الأوسط؛ حيث يصار إلى إعادة ضبط المشهد الاستراتيجي الإقليمي، واختبار الزعامة الأمريكية وقدرتها على حل الأزمات الإقليمية. وسوف يعتمد التوازن الإقليمي الجديد للقوى على ما ستؤول إليه الأمور في حرب غزة ولبنان، وفي ساحات أخرى في الإقليم، الذي تصيبه تحولات على وقع النار. والسؤال الذي يطرح في هذا السياق: ما المواقف الواجب تبنيها من قبل الإدارة الأمريكية القادمة لتحقيق الاستقرار الإقليمي في بيئة الشرق الأوسط؟

أولًًأ : التزام الولايات المتحدة الأمريكية بحل الدولتين: لن ينعم الشرق الأسط بأي استقرار اقليمي استمرت الولايات المتحدة الأأمريكية في انحيازها المطلق لإسرائيل، فلا سلام حقيقي دون الوصول إلى حل الدولتين على حدود الرابع من حزيران/ يونيو عام 1967م. وهذا لن يحدث إذا استمرت الولايات المتحدة الأمريكية على ما هي عليه من تجاهل حقيقي تجاه الحل الدولتين باصدار بيانات سياسية لا معنى لها على أرض الواقع، عليها أن تصدر قرارات سياسية تفرضها على اسرائيل لوصول لحل الدولتين. ومن شأن هذا التوصل، إذا تحقق أن تمضي الولايات المتحدة الأمركية قدمًا في عقد اتفاقية سلام بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل.

ثانيًا: التعامل مع إيران: وفي هذا السياق يطرح السؤال التالي: كيف ستتعامل الولايات المتحدة الأمريكية مع إيران وخاصة بعد المواجهة الجارية مع إسرائيل ومع قدوم رئيس جديد يسعى إلى تحسين العلاقات مع الغرب الأوروبي والأطلسي حيث اعتبرت الصحافة الإيرانية زيارة الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان إلى نيويورك لحضور قمة الأمم المتحدة محطّة أولى نحو تصحيح المسار في العلاقات الإيرانية مع الجماعة الدولية، وعلّقت عليها آمالاً كبيرة. ورافق الرئيس الإيراني عددٌ من الشّخصيات، على رأسهم مساعده للشؤون الاستراتيجية، محمد جواد ظريف حيث وعَدَ مسعود بزشكيان الإيرانيين في خلال حملته الانتخابيّة بالانفتاح على العالم، والعمل على إنهاء العُقوبات، وإحياء الاتفاق النووي، وتحسين العلاقات مع المجموعة الدوليّة؛ وكلُّ ذلك من أجل تحسين الوضع الاقتصادي الإيراني.

تجري المُواجهة الإقليميّة بين إسرائيل من جهة، وإيران وشبكة وكلائها الإقليميين من جهة ثانية. لكنّ تأمُّل الصورة الكُليّة للمشهد، يُظهِرُ أنّ حدود هذه المواجهة، ومنهجيّاتها، وأهدافها الكبرى، إنّما تفرضُها الولايات المتحدة الأمريكية التي تسعى إلى استثمار هذه الفرصة التاريخية، لمعالجة معضلاتٍ استراتيجية حالت دون إيجاد حلٍّ مُرضٍ للعُقدة الإيرانية، بما فيها الملف النووي، كما حالت دون نجاح استراتيجيات أمريكية كبرى في منطقة الشرق الأوسط، أُعِدّت من أجل التصدّي للتحدّي الصّيني الذي تعتبرُه الولايات المتحدة التّحدي الأهمّ لهيمنتها العالميّة.

وفي إطار هذه “الصورة الكليّة”، تبدو الولايات المتحدة هي التي تُحدّد قواعد المواجهة العسكرية في الشرق الأوسط، وتفرضُ مَنْطِقَها، وحُدودَها. وتحرِصُ على ألّا تُتَجاوَز تلك الحدود، حتى إذا رغبت إسرائيل في تجاوُزِها. وتبدو حربُ إسرائيل “الوجودية” في هذه الصُّورة الكليّة “آلية فعّالة” تمارسُ الولايات المتحدة من طريقها، خطّتها لتغيير المعالم الإقليميّة، بما يتناسبُ مع رؤيتِها الاستراتيجية.

تركيا والاستقرار الإقليمي: كنت ولازلت على قناعة مفادها بأن تركيا من الدول التي تضررت كثيرا من تأثيرات الربيع العربي، ومن أوجه هذا التأثير لجوء ملايين من السوريين إليها، الأمر الذي شكل ضغطا اجتماعيًا واقتصاديًا وأمنيا على تركيا، وانعكس اللجوء السوري بشكل سلبي على حكومة العدالة والتنمية في تركيا، ناهيك عن تعطل مشروع انفتاح الدولة التركية مع الأكراد، وتراجع المستوى الاقتصادي كل ذلك ظهرت نتائجه في الانتخابات المحلية في تركيا، حيث تعرض حزب العدالة والتنمية إلى خسارة قاسية في تللك الانتخابات حيث حل وللمرة الأولى منذ أكثر من عقدين في المرتبة الثانية بعد حزب الشعب الجمهوري.

وللخروج من هذا المأزق كان لابد على حزب العدالة والتنمية أن يجرى مراجعات على سياساته الداخلية والخارجية، فعلى المستوى الخارجية سعت تركيا إلى تطبيع علاقاتها مع حكومة دمشق، للوصول إلى اتفاق يضمن عودة اللاجئين إلى ديارهم أو على أقل تقدير العودة إلى الداخل السوري.

ولإستعادة الطريق السليم في معالجة الحقوق الكوردية في تركيا، شهد مجلس النواب التركي مصافحات تاريخية بين نواب أكراد ودولت بهجلي رئيس الحركة القومية، هذه المصافحة التي من شأنها أن تأسس لمرحلة جديدة من المصالحة داخل البيت الكوردي، كما أن هناك مفاوضات جارية بين الدولة التركية وعبدالله أوجلان حول مستقبل حزب العمال الكوردستاني ومصير أوجلان نفسه، فاردوغان من اجل الوصول إلى تسوية حقيقية مع أكراد تركيا يرى أن مدخل ذلك يكمن في اطلاح سراح عبدالله أوجلان من المعتقل السياسي وأن تفرض عليه الإقامة الجبرية في منزله. هذا التسوية لكي ترى النور لابد من دعم الولايات المتحدة الأمريكية، وإذا تحققت تكون تركيا انهت إحدى أشكال القلق الاجتماعي الذي تعاني منه منذ عقود. لكن هل سيترك المتضررين إقليميا من هذا الانفتاح التاريخي داخل البيت التركي دون إعاقته؟

أما العامل الاقتصادي، فقد كان سبب من أسباب تراجع شعبية حزب العدالة والتنمية ومن ثم تراجع ترتيبه في الانتخابات المحلية الأخيرة، ومن أجل تجاوز ذلك أطلق مشروع طريق التنمية في أيار/مايو عام 2023م ، الذي يستهدف إقامة خط اتصال بري وسكة حديد بين البصرة العراقية ومرسين التركية.

هذا المشروع إذا كتب له النجاح سيعمل على تعزيز العلاقات العراقية-التركية؛ أولًا: لأن تأمين الطريق سيفرض على الدولتين التعاون الوثيق للتعامل مع المخاطر الأمنية التي تحفه في منطقة الحدود العراقية-التركية-السورية، التي تعج بالقوى المسلحة من كافة الخلفيات. وثانيًا: لأن المخطط التنموي العراقي لجانبي الطريق سيوفر فرصة غير مسبوقة لشركات الإنشاءات التركية، المعروفة بكفاءتها والتي تعهدت العديد من المشاريع في العراق من قبل.

أن مشروع طريق التنمية بالغ الشعبية في العراق، لاسيما في أوساط المواطنين الشيعة في المنطقة الممتدة من بغداد إلى البصرة. يحمل المشروع وعودًا لتغيير وجه العراق، ونهضة تنموية غير مسبوقة في تاريخه الحديث لكافة مناطقه، من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال؛ إضافة، إلى آثاره الإيجابية الأخرى على موقع العراق الجيوسياسي في خطوط الاتصال بين الشرق والغرب. ولهذا، لا يتوقع أن تخوض إيران معركة مكشوفة وصريحة ضد المشروع. ولكن هذا لا يعني أنها لن تستهدف رئيس الحكومة، بصورة أو أخرى، وتعمل على إطاحته في أقرب فرصة ممكنة، وهو الذي تعرف الأطراف المعنية جميعًا أنه الأب الشرعي للمشروع والأكثر حماسًا وتصميمًا على المضي به قدمًا.  لذا يكن غريبًا أن ترى أوساط الحكم في إيران أن مشروع طريق التنمية العراقي-التركي لا يصب لصالحها، وأن ما يكتنف المشروع من تقارب عراقي-تركي إستراتيجي سيؤثر على وضعها في العراق، الذي باتت تعده منطقة نفوذ خاص بها. فمن أجل تحجيم إيران في العراق على الولايات المتحدة الأمريكية توفير كل ما يلزم لانجاح هذا المشروع الذي من شأنه أن يعزز ركائز الاستقرار في إقليم مضطرب

 خلاصة القول، وبعد مرور أكثر من سنة على الحرب في الإقليم، فإن السؤال الذي يواجه الإدارة الأمريكية المقبلة حول الشرق الأوسط لا يتعلق بالاستقرار أو عدمه؛ فنحن نعلم بأن المنطقة ستشهد المزيد من عدم الاستقرار والتصعيد المحتمل بين إيران وإسرائيل. لكنَّ السؤال الحقيقي بالنسبة للرئيس الأمريكي الجديد هو إذا ما كان مثل هذا الاضطراب سيجلب تفكيراً جديداً حول الانخراط والالتزام الأمريكي الدبلوماسي والعسكري والاستراتيجي تجاه قضايا الشرق الأوسط وفي مقدمتها القضية الفلسطينية. ويتطلب مثل هذا الالتزام الابتعاد عن الفكرة القائلة إن بإمكان الولايات المتحدة بطريقة ما الخروج من هذه المنطقة المزعجة. لكنَّ القول أسهل من الفعل لأن آخر ثلاث إدارات أمريكية (أوباما وترمب وبايدن) أبدت رغبة واضحة بتقليص التزاماتها تجاه الشرق الأوسط. ليس سهلا على الولايات المتحدة الأمريكية الانسحاب من بيئة جغرافية ساهمت في صنع الكثير من  مجدها السياسي والعسكري والاقتصادي في التاريخ المعاصر.

وحدة الدراسات الإقليمية

مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية