بعد يومين من اغتيال الجنرال قاسم سليماني في بغداد، اتخذ البرلمان العراقي قرارا بطرد القوات الأمريكية من العراق، وأعلن رئيس الوزراء العراقي، أن حكومته تعد المذكرات والإجراءات القانونية لطلب إنهاء التعاون العسكري مع الولايات المتحدة، تنفيذا لقرار البرلمان، الذي يحظى بشعبية جارفة في الشارع العراقي، على الرغم من التوتر السياسي والاحتجاجات المناهضة للحكومة وللتنظيمات العسكرية ذات العلاقة بإيران.
الرد الأمريكي على دعوة رحيل القوات الأمريكية وإغلاق القواعد العسكرية الموجودة في العراق جاء صارخا وهستيريا على لسان الرئيس الأمريكي، الذي هدد بفرض عقوبات قاسية على العراق، تتضاءل أمامها العقوبات المفروضة على إيران. التهديد الذي أطلقه دونالد ترامب، أثار استياء أوساط كثيرة في العالم، من بكين إلى برلين وغيرهما من عواصم العالم. وكانت موسكو قبل ذلك قد تهكمت في تعليقات إعلامية على تهديدات ترامب لإيران، إذا حاولت الرد على جريمة اغتيال سليماني بواسطة صواريخ أطلقتها على سيارته أحدث طائرة مسيرة أنتجتها الولايات المتحدة وأكثرها تقدما.
ومن المؤكد أن الإدارة الأمريكية تعلم أن وجودها في العراق، يتوقف من الناحية القانونية على طلب من الحكومة العراقية، وأنها يجب أن تغادر العراق، إذا طلبت الحكومة وقف التعاون ورحيل القوات الأمريكية. ويخضع وجود القوات الأمريكية في العراق لاتفاقيتين، الأولى هي اتفاقية إطار للتعاون الاستراتيجي والصداقة الموقعة عام 2008، والثانية هي اتفاقية (وضع القوات – سوفا) الموقعة عام 2011.
وتنص المبادئ التي يقوم على أساسها التعاون العسكري، ووجود القوات الأمريكية في العراق على شروط محددة وصريحة تتضمن ما يلي:
*أولا، إن وجود القوات الأمريكية هو بطلب من الحكومة العراقية ذات السيادة، وهذه القوات ترحل في حال طلبت الحكومة رحيلها خلال عام من الطلب.
*ثانيا، إن وجود القوات الأمريكية في العراق، وجود مؤقت وليس دائما، وأن الولايات المتحدة تلتزم بذلك، وألا تطلب من العراق إقامة قواعد دائمة.
*ثالثا، إن الولايات المتحدة تستخدم قواتها الموجودة في العراق لأغراض التعاون المشترك، بالتنسيق مع الحكومة العراقية في الحرب على الإرهاب، وغيرها من أوجه التعاون المتفق عليها بين الحكومتين.
*رابعا، تلتزم الولايات المتحدة بعدم استخدام قواتها الموجودة في العراق، أو مجالها الجوي، أو أراضيها او مياهها الإقليمية في شن هجوم على دولة أخرى، إضافة إلى ذلك فإن ديباجة اتفاق الإطار للتعاون الاستراتيجي والصداقة بين الولايات المتحدة والعراق، تنص على أن الاتفاق يتم بين طرفين متساويين في السيادة طبقا للقانون الدولي، وأن الولايات المتحدة تلتزم في علاقاتها بالعراق بميثاق الأمم المتحدة، وأحكام القانون الدولي.
حملت السنوات الأخيرة نذر شؤم لأمريكا، بدءا من إعادة بلورة مشروع الاتحاد الاوروبي، إلى ظهور القوة العسكرية الروسية على المسرح العالمي
جريمة اغتيال قاسم سليماني وابو مهدي المهندس، ومعهما مجموعة من المواطنين العراقيين والإيرانيين، على الأراضي العراقية، بواسطة طائرة مسيرة قاذفة مجهزة إلكترونيا وتسليحيا على أحدث مستوى من طراز MQ9 يشكل خرقا فاضحا لاتفاقيتي التعاون الاستراتيجي، ووضع القوات الأمريكية في العراق، كما يشكل استهتارا بسيادة العراق، وإمعانا في انتهاك سيادته على أراضيه وعلى أجوائه الإقليمية. هذه الجريمة في حد ذاتها تبرر طلب إنهاء الوجود العسكري الأمريكي في العراق بدون قيد ولا شرط. أما التهديدات التي يطلقها الرئيس الأمريكي على كل من العراق وإيران، فإنها تعكس حماقة وفشل السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط، وتشير إلى قرب نهاية الهيمنة الأمريكية على المنطقة. الأهم من ذلك إن رحيل القوات الأمريكية عن العراق سيفتح صفحة جديدة في تاريخ الشرق الأوسط، وسيغير تماما قواعد لعبة الصراع في المنطقة، ويقدم توازنا جديدا للقوى على المستوى الإقليمي، من شأنه أن يجعل إسرائيل في موقع أضعف، برحيل حليفها الرئيسي عن كل من العراق وسوريا.
وفي هذا السياق فإن طلب رحيل القوات الأمريكية من العراق، وتداعياته المحتملة، يجب النظر إليه داخل منظومة القوة العالمية، ومنظومة القوة الإقليمية، لأن الولايات المتحدة كانت تراهن على استخدام وجودها العسكري في العراق، كرأس رمح أساسي لضمان استمرار نفوذها في المنطقة الممتدة من البلقان غربا إلى جبال أفغانستان شرقا، ومن أوكرانيا شمالا إلى القرن الافريقي جنوبا. خروج الولايات المتحدة من العراق، سيعيد كتابة تاريخ الولايات المتحدة، ويحولها إلى مكانة أدنى مما كانت عليه منذ انتصارها في الحرب الباردة على الاتحاد السوفييتي، وبروزها كقوة مهيمنة في العالم. وقد حملت السنوات الأخيرة الكثير من نذر الشؤم للولايات المتحدة، بدءا من إعادة بلورة مشروع الاتحاد الاوروبي، إلى عودة ظهور القوة العسكرية الروسية على المسرح العالمي، وبروز الصين كقوة صاعدة تسعى لمكان رئيسي في النظام العالمي، اقتصاديا وتكنولوجيا وعسكريا وسياسيا، كذلك واجهت الولايات المتحدة تحديات شديدة فشلت في التعامل معها مثل تحدي كوريا الشمالية، والتحدي الإيراني وتحدي فنزويلا، وتحدي كوبا.
وإذا كان قرار العراق طلب رحيل القوات الأمريكية من قواعدها على أراضيه هو أحد تداعيات الجريمة التي ارتكبتها الولايات المتحدة على أرضه، فهو مجرد خطوة واحدة، او خيار واحد من حزمة من الخيارات المفتوحة، التي من المرجح أن تواجهها واشنطن ثمنا لقرارها الغبي لاغتيال سليماني ومن كانوا معه. وتتضمن الخيارات الأخرى المفتوحة للرد على الجريمة الأمريكية ما يلي:
*الخيار الأول والأقرب، هو التنكيل بالقوات الأمريكية في العراق وإذلالها، وشن عمليات شبه يومية، وعمليات نوعية مخططة بدقة بواسطة التنظيمات المسلحة العراقية، ضد القوات والمصالح الأمريكية، بما يجعل العراق عمليا ساحة حرب شبيهة بحرب فيتنام، تصبح فيها القوات الأمريكية عاجزة عن الدفاع عن نفسها وعن حلفائها. ومن المرجح أن يكون ذلك هو الرد الأقرب والأسرع زمنيا. وقد يبدأ ذلك بضربات متقطعة، ثم يستمر في شكل حملة منظمة مستمرة ومتصاعدة.
*الخيار الثاني، هو العمل على إسقاط الرئيس الأمريكي ترامب في انتخابات نوفمبر المقبل، عن طريق إرباك السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط، وإظهار الرئيس الأمريكي بمظهر العاجز عن التصرف السليم وعن المناورة، بما يضعف موقفه في عام الانتخابات الرئاسية. ومن المرجح أن تلعب تنظيمات مثل حزب الله اللبناني، وأنصار الله في اليمن، والجهاد الإسلامي في غزة، دورا نشيطا في عمليات استهداف المصالح الأمريكية في الخليج ومضيق هرمز والبحر الاحمر، وفي أماكن أخرى من العالم، قد لا تتوقعها الولايات المتحدة الأمريكية. وفي المحصلة النهائية، فإن هدف إيران هنا سيكون إسقاط ترامب، كما حدث مع الرئيس الأسبق جيمي كارتر في الانتخابات الرئاسية التي ترافقت مع أزمة رهائن السفارة الأمريكية عام 1979. في المقابل، فإن إيران ستواجه هذه المرة مجهودا منسقا من جانب القوى المعادية لها في المنطقة، خصوصا من جانب الولايات المتحدة وإسرائيل والسعودية، التي رفعت مستوى التنسيق بينها إلى أعلى درجة، لمواجهة الأنشطة الإيرانية في المنطقة. وفي مواجهة التهديدات الأمريكية، من المرجح أن تنتقل إيران إلى استخدام أسلحة أكثر تطورا، وأن تلجأ إلى تكتيكات اللدغات الصاعقة السريعة، سواء في العمليات البحرية أو البرية أو الجوية، باستخدام الزوارق السريعة والصواريخ المتنوعة والطائرات المسيرة.
*الخيار الثالث، هو الضغط لطرد القوات الأمريكية من العراق، وستكون له آثار استراتيجية واسعة المدى على المستويين الإقليمي والعالمي، وقد أشرنا إليه باختصار في البداية.
*الخيار الرابع، هو الخيار النووي أعلنت إيران التحلل من التزامات الاتفاق النووي لعام 2015، مع استمرار الالتزام بالتعاون مع الوكالة الدولية للطاقة النووية، وايضا مع استعدادها للعودة إلى الالتزام ببنود الاتفاق، بشرط أن تلتزم الأطراف الأخرى جميعا بكل الشروط الواردة فيه، وإنهاء العقوبات المفروضة على إيران. ومن المرجح أن إيران تعمل الآن على زيادة عدد وكفاءة أجهزة الطرد المركزي العاملة في مراكزها النووية، ورفع نسبة تخصيب اليورانيوم إلى المستوى الذي كان عليه قبل الاتفاق، وهو 20% مع حرية رفع نسبة التخصيب، وزيادة كمية اليورانيوم المخصب، إلى المستوى الذي يجعل قرار إنتاج سلاح نووي هو مجرد قرار سياسي، تتوفر له كافة المقومات التقنية واللوجستية.
هذه الخيارات الأربعة تمثل أهم الخيارات التي يمكن أن تلجأ إليها إيران، لكنها ليست الخيارات الوحيدة؛ فهناك أيضا خيارات زيادة التعاون الاستراتيجي والدفاعي مع روسيا والصين، بما يعزز قوة الأطراف الثلاثة في الشرق الأوسط. ولا شك أن زيادة الضغوط الأمريكية على إيران سيجعلها في حاجة أكبر للدعم الروسي والصيني. كذلك سيظل باب الحوار الإيراني – الأوروبي مفتوحا، بما يستجيب لسعي الاتحاد الأوروبي إلى تشكيل سياسة خارجية مستقلة عن الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. في المحصلة النهائية فإن الولايات المتحدة بعملية اغتيال سليماني قد كتبت بداية النهاية لهيمنتها على الشرق الأوسط.
القدس العربي