تدلل نتائج الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ونائب رئيس الوزراء الروسي يوري بوريسوف، في 7 أيلول/سبتمبر لدمشق، على أن موسكو بصدد إعادة النظر في أولوياتها بشأن التسوية السورية. وفيما ستواصل دعمها للرئيس بشار الأسد للمضي في إجراء الإصلاحات السياسية اللازمة، ستعمل على دفع التسوية السياسية وفتح صفحة جديدة في العلاقات مع سوريا يأتي الاقتصاد في المقدمة فيها، وثمة قراءات ترصد أن الملف السوري سيُنقل إلى المؤسسة الدبلوماسية.
ووصف المراقبون الروس الرسميون الزيارة بأنها تاريخية، نظرا لأن آخر زيارة قام بها لافروف إلى دمشق كانت في شباط/فبراير 2012. واتفق الخبراء الذين قابلتهم وكالة “تاس” بالإجماع على أن الزيارة لها معنى خاص على خلفية استئناف عمل اللجنة الدستورية، واستقرار الوضع “على الأرض” والضغط المتزايد على الاقتصاد السوري من قبل الولايات المتحدة.
ويرى معهد الشرق الأوسط أن هذه الزيارة كانت “محاولة” لنقل الملف السوري من الدبلوماسية العسكرية الكلاسيكية إلى المؤسسة الدبلوماسية، ولكنه يرصد وجود صعوبات لتحقيق ذلك على خلفية سيطرة المقاتلين على إدلب. كما يرى أن الزيارة ترمز إلى تقديم موسكو دعما شخصيا لبشار الأسد، وإعطاء الجانب الروسي إشارة واضحة حول الرغبة الروسية في “تجميد” المرحلة العسكرية من النزاع، والانتقال إلى عملية سياسية ما. لكن الشيء الرئيسي، كما يؤكد، هو الدعم الشخصي للأسد، لحسم أزمة “سوء تفاهم” بين دمشق وموسكو التي جرى عنها الحديث في الأشهر الأخيرة ولم يتم الإعلان عنها من قبل الطرفين.
وتمحور السؤال الرئيسي الذي تردد على خلفية “سوء التفاهم” ذلك، حول هل ستستمر موسكو في الرهان على الأسد؟ وقد ظهرت مثل هذه الشكوك لدى النظام السوري في ضوء الخلافات بين دمشق وموسكو بشأن مسألة شن هجوم عسكري لاحق على إدلب وعبر الفرات، وحول قضية إخراج القوات التركية من شمال سوريا، وبشأن المقالات الناقدة التي حفلت بها الصحافة الروسية بشأن ملاحقة ابن خال الرئيس، وحتى لوقت قريب كبير، رجال الأعمال رامي مخلوف؟ وخلق كل هذا شكوكاً وسوء تفاهم بين الطرفين، وكان الهدف من زيارة لافروف وبوريسوف، هو تسوية “سوء التفاهم” أو التخفيف من حدته. وهذه المهمة هي الرئيسية حسب معهد الشرق الأوسط. ومن المرجح ان يكون وزير الخارجية لافروف، ونائب رئيس الوزراء بوريسوف قد شرحا بوضوح موقف موسكو بشأن الدعم اللاحق لنظام الأسد وتحديد شروطه.
وإذا أخذنا الجانب الاقتصادي، فهو أولاً وقبل كل شيء إحياء البنية التحتية لصناعة الطاقة الكهربائية، لأن هذا هو المحرك الرئيسي للانتعاش الاقتصادي والسبب الرئيسي لتزايد استياء السكان. كما تخطط روسيا لإعادة بناء حوالي 40 منشأة بنية تحتية في سوريا ويتضمن ذلك إصلاح محطات للطاقة الكهرومائية، التي بناها متخصصون سوفييت، واستئناف الإنتاج في الحقول البحرية. وحسب تقييم المراقبة السياسية لصحيفة “كوميرسانت” ماريا بيلنكايا، التي رافقت لافروف في زيارته لدمشق فإنه “مهما تفاءل الجانب الروسي بشأن المشاريع المستقبلية، وكذلك تصريح وزير الخارجية السوري وليد المعلم، بأن التعاون بين البلدين سيفيد الشعب السوري، فكل شيء يتوقف على مدى استمرارية العقوبات التي يفرضها الغرب على دمشق” في الوقت نفسه أوضح وليد المعلم أن القيادة السورية لا تتوقع أي تنازلات خاصة من الدول الغربية.
وقال الأسد إن الأزمة جزء من حصار فرضته الحكومات المعارضة له، بما في ذلك الولايات المتحدة، التي فرضت عقوبات تحظر على نطاق واسع التجارة مع دمشق. ولكن بعض التعليقات في موسكو لفتت إلى أن العجز لاسيما في الطاقة بدأ بعد أن علقت إيران خط ائتمان لدمشق، ولم يتم استلام أي إمدادات نفطية منذ ذلك الحين. ومن هنا جاء طلب السوريين للجانب الروسي لتعويض هذا الفشل بتزويدهم بالوقود. وجرت الإشارة أيضا إلى أن من أهم أهداف دمشق في إطار المباحثات مع لافروف كان فتح خطوط ائتمان من موسكو. ويجمل المراقبون ما تحصل عليه موسكو لقاء دعمها للاقتصاد السوري: تأجير “مجاني” عمليًا لقاعدتين عسكريتين، إضافة إلى دخول الشركات الروسية إلى سوق الفوسفات والاتصالات. لكن الأهم هو التزام دمشق بمسار موسكو نحو حل سياسي للأزمة السورية.
وتطرق الوزراء في مؤتمر صحافي إلى الانتخابات الرئاسية المقبلة في سوريا عام 2021. وأكد المعلم أن الانتخابات الرئاسية ستجرى في موعدها، ولا علاقة لها بأنشطة اللجنة الدستورية في جنيف التي أجرت اجتماعاتها مؤخرا. كما أوضح أن جميع التوصيات الخاصة بتعديل الدستور السوري، وكذلك النص المحتمل للقانون الأساسي الجديد، الذي سوف يقره أعضاء اللجنة الدستورية، ستُعرض بعد ذلك على استفتاء وطني. من جهته شدد لافروف على أن تحديد إطار زمني لعمل اللجنة الدستورية السورية “أمر غير مقبول”. وفي هذا السياق اعتبر مراقبون في موسكو: “في ظل هذ الموقف، لا يمكن لدمشق أن تعقد أدنى أمل في استعادة الحوار مع الغرب ورفع العقوبات، مما يعني بأنه سيكون هناك نقص في التمويلات لإعادة إعمار سوريا”. ويعيدون الذاكرة إلى أن “روسيا كانت قد أوضحت عن عدم وجود رغبة لديها ولا قدرة على تحمل هذا العبء بمفردها. ويبدو أنها لا تزال غير قادرة على تغيير الوضع جذريًا وبالتالي تقبله كما هو”.
وبالتالي تحاول موسكو بكل الوسائل تحقيق حل سياسي للأزمة السورية، من خلال استخدام ترسانة النفوذ بأكملها (من الضغط المتزايد على النظام السوري إلى توسيع الحوار مع مختلف اللاعبين في البلاد). وحسب مصادر فرنسية، فإن روسيا كانت مستاءة للغاية من الموقف الذي أظهره النظام السوري في الجولة الأخيرة من المفاوضات حول الدستور السوري في جنيف يومي 28 و 29 آب/أغسطس. حيث رفض وفد دمشق، الذي ضم عددا من ضباط المخابرات السورية، مغادرة فندقه حتى بعد اختبار فيروس كورونا السلبي، مما أجبر المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا غير بيدرسن على تأجيل المفاوضات مرة أخرى دون تحديد موعد جديد. حدث ذلك رغم الاستعداد للتفاوض من جانب المعارضة. ووفقا لبعض التقديرات فإن عدم التزام النظام السوري بالمفاوضات كان سببًا آخر لزيارة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في 7 أيلول/سبتمبر ليقنع بشار الأسد بالجلوس إلى طاولة المفاوضات.
ونقلت صحيفة “كوميرسانت” عن مصدر في موسكو مطلع على عملية التسوية السورية، قوله: “إذا لم يقم الأسد بالإصلاحات اللازمة، فسيبقى بلا تمويلات وفقط مع جزء من أراضي سوريا. وسيكون هذا قراره”. لكن في الوقت نفسه، يعتمد الكثير في سوريا على ما ستكون عليه السياسة المستقبلية للولايات المتحدة، وما سيحدث هناك بعد الانتخابات. في الوقت نفسه أشار مصدر الصحيفة إلى “أن الوقت قد حان لروسيا لاتخاذ قرار بشأن استراتيجية وجودها في سوريا في أي تطور للوضع، وبشكل أدق، على أي ظروف تبقى في هذا البلد”. وخلصت الصحيفة للقول: “انطلاقا من تصريحات يوري بوريسوف وسيرجي لافروف، أن روسيا اتخذت قرارها”.
فالح الحراني
القدس العربي