عاد اسم تنظيم “داعش” ليطل برأسه من جديد في لبنان، لاسيما في مناطق الشمال، في وقت تشهد فيه الساحة اللبنانية تخبطاً سياسياً وأمنياً خطيراً، ما طرح تساؤلات عدة حول حقيقة عودة نشاط هذا التنظيم، أو أنه مجرد ورقة يستثمرها فرقاء محليون أو إقليميون لمآرب سياسية وأمنية.
وفي هذا السياق، برزت العملية الأخيرة التي قام بها الجيش اللبناني في طرابلس ضد مجموعة متطرفة مرتبطة بالتنظيم الإرهابي، إذ سقط للجيش أربعة قتلى قبل أن يسيطر على أفراد المجموعة. ووفق المصادر الأمنية، فإن هذه المجموعة على علاقة بحادث أمني وقع قبل أسابيع في قرية “كفتون” شمال لبنان وذهب ضحيته ثلاثة عناصر من شرطة بلدية القرية.
وقد أكدت مصادر أمنية لـ”اندبندنت عربية” أن أحد أفراد “الخلية” اعترف بمخطط كانت تعده تلك المجموعة لاستهداف أماكن دينية مسيحية في منطقة إقليم الخروب في محافظة جبل لبنان، وذلك من خلال تنكر “الانغماسيين” (تسمية للذين يفجرون أنفسهم) بملابس رجال دين مسيحيين، بهدف إثارة النعرات الطائفية بين السنة والمسيحيين في تلك المنطقة. وكشف كاهن رعية في المنطقة (فضل عدم الكشف عن اسمه)، أن معظم الكهنة تلقوا تحذيرات أمنية بهذا الصدد لتوخي الحيطة والحذر في الرعايا، لاسيما أثناء التجمعات والقداديس.
ولم تنحصر عودة تداول نشاط التنظيم الإرهابي في لبنان من خلال ما بات يعرف بـ”خلية كفتون”، إنما أيضاً أشارت بعض التقارير الأمنية إلى إمكانية أن يكون “داعش” وراء تفجير مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس (آب) الماضي، إلا أن هذه الرواية عارضها كثير من الخبراء، الذين يعتقدون بأن سلوك هذا التنظيم يحتم تبني أي عملية إرهابية يقوم بها.
“داعش” وتركيا
ويرى المحلل الإستراتيجي العميد ناجي ملاعب، أنه بعد تعاون طيران التحالف الدولي مع قوات سوريا الديمقراطية في شمال شرقي سوريا، وتعاون التحالف مع القدرات النامية للجيش العراقي، دُحر تنظيم “داعش” في العراق والشام، مشيراً إلى أن كثرة الكلام اليوم عن عودة التنظيم الإرهابي لم يكن فقط فورة إعلامية، إنما هو توظيف سياسي محلي. وقال إنه “ليس من قبيل الصدفة حصول عملية إرهابية في الكورة شمال لبنان مباشرة بعد التنافر، والوصول إلى استعمال السلاح ضمن الفريق الشيعي الواحد، ما بين حركة أمل وحزب الله في قرية اللوبية جنوب لبنان وما رافقه من تداعيات”.
ويرى ملاعب، أنه “إذا تعمقنا في البحث نجد أن السوق التركية كانت من أهم المصادر اللوجيستية، وحتى البشرية الغربية التي يتزود منها داعش لإمكاناته وأسباب صموده”، لافتاً إلى أنه بالإضافة إلى استقدام الإرهابيين إلى مطارات تركيا ومنها إلى الداخل السوري، وسيطرة قوات متشددة في منطقة إدلب بحماية تركية، والاستثمار التركي بأولئك المتطرفين السوريين في ليبيا، ومن بعد ليبيا في أذربيجان والصومال، فإن الساحة اللبنانية تمثل بيئة قابلة لتعزيز النفوذ التركي، لا سيما في ظل التنافس التركي الفرنسي على ساحل المتوسط الشرقي، الذي ظهر للعيان بعد انفجار مرفأ بيروت.
وأضاف أنه في تقرير حديث لمؤسسة “كارنيغي”، يقول مهند الحاج علي “لا تزال استثمارات تركيا في لبنان تتواصل على قدم وساق وتتمدد. إذ سيتم افتتاح مستشفى تركي في مدينة صيدا، ناهيك عن زيادة المنح الجامعية للطلاب اللبنانيين، ما يجعل أنقرة من الدول الأساسية التي تمنح مساعدات في مجال التعليم العالي للبنانيين. وحتى الآن، امتنعت تركيا عن دعم حزب سياسي بعينه، مثل الجماعة الإسلامية التي تُعد النسخة اللبنانية من الإخوان المسلمين. ويُعزى ذلك إلى أنها تهدف ربما إلى الابتعاد عن السياسات الحزبية والاحتفاظ بالدعم الشعبي، الذي تحظى به في أوساط شريحة واسعة في بعض المجتمعات. في الواقع، يمتد نفوذ تركيا وقاعدة دعم أردوغان ليطال الأكراد والعرب، الذين هاجروا من تركيا وحصلوا على الجنسية اللبنانية في تسعينيات القرن الماضي، علماً بأن بعضاً من هذه المجموعات احتفظ بصلة قوية بتركيا”.
رأي الأتراك
في المقابل ترد مصادر ديبلوماسية بالسفارة التركية في بيروت بقوة على الإتهامات الموجهة لأنقرة بشأن علاقتها بداعش ومحاولتها التمدد عبره الى مناطق لبنانية، وتنفي المصادر نفياً قاطعاً كل هذه الأحاديث معتبرة أنها تندرج في إطار الحملة الممنهجة والمشبوهة لتشويه صورة تركيا في لبنان والعالم.
واعتبرت ان تركيا هي من أكثر الدول التي دفعت ثمناً للإرهاب الداعشي، حيث شهدت موجات عديدة من التفجيرات الإرهابية مذكرة بمأساة ليلة رأس السنة عام 2017 حين دفع عشرات السياح الأتراك والأجانب حياتهم نتيجة الأعمال الإرهابية، مشددة على دور كبير لتركيا على مستوى المنطقة والعالم لمحاربة تنظيم داعش الإرهابي، كاشفة عن دور لها مع التحالف الدولي بتبادل المعلومات الاستخباراتية.
ولفتت الى ان داعش “اغتال العديد من الناشطين السياسيين والعسكريين القريبين من تركيا ،كذلك حارب الفصائل السورية المدعومة من تركيا، الأمر الذي يسقط كل الادعاءات التي تحاول الترويج لأخبار مدسوسة تتعلق بزج اسم تركيا بالإرهاب”، مؤكدة انه “لا توجد أي أجندة تركية في لبنان، ففي لبنان مواطنون من اثنية تركمانية، إضافة الى جمهور داعم للسياسة التركية في المنطقة، وتركيا بدورها تحاول أن تكون الى جانب الشعب اللبناني في الأزمة الراهنة، ولطالما أكدت السلطات التركية أنها مستعدة لدعم لبنان بمختلف الصعد وصولاً الى إمكانية المساهمة في إعادة بناء مرفأ بيروت”.
محاصرة ايران وحلفائها
في المقابل، يرى الدكتور في العلاقات الدولية قاسم حدرج أنه ليس أمراً مستغرباً ظهور مجموعات إرهابية في كل من العراق وسوريا ولبنان، كلما احتدمت المواجهة بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران وحلفائها، وكلما تعرضت القوات الأميركية لهجوم من تلك القوى، حيث “يأتي الرد عبر هذه المجموعات، التي لم يعد خافياً على أحد بأنها ذراع عسكري للاستخبارات الأميركية، وقد شهد العالم كيف يتم نقل قادة هذا التنظيم عبر الطوافات الأميركية من موقع إلى آخر وفقاً للحاجة، بالإضافة إلى الاعترافات التي أدلى بها أكثر من مسؤول أميركي بأن داعش هو صناعة أميركية”.
ويضيف “أظهرت الوقائع بأن واشنطن قد استخدمته لهدفين، الأول هو القتال بعناوين مذهبية، والثاني الدخول العسكري لمحاصرة هذه القوى تحت ذريعة محاربة داعش، والهدف الحقيقي هو منع التمدد الإيراني عبر أذرعه المتمثلة في هذه الحركات، ولهذا نجد أنها كلما احتاجت للبقاء أكثر في المنطقة أطلقت العنان لداعش للقيام بعمليات عسكرية، كون تواجدها العسكري بات مرتبطاً ببقاء هذا التنظيم”، مؤكداً عدم وجود جسم تنظيمي لداعش في لبنان، “وإن كانت هناك مجموعات متطرفة في الشمال، نشطت في الفترة الأخيرة بإدارة الاستخبارات التركية قد تغطي أعمالها تحت اسم داعش للتغطية على الأهداف الحقيقية للمشغلين”.
وجه آخر لـ”حزب الله”
ويشدد أستاذ القانون الدولي المحامي طارق شندب على أن “داعش هو شماعة استخدمها النظامان السوري والإيراني لمحاربة ما يسمى الإرهاب السني، ولكن في الحقيقة هم لم يقصدوا الإرهاب بل الثورة السورية وما حصل في لبنان، والكل يذكر قضية الوزير السابق ميشال سماحة، الذي ضبطت بحوزته متفجرات، كان يريد تفجيرها بالتنسيق مع النظام السوري في أماكن دينية لإثارة الفتنة داخل لبنان”.
ورأى أن “داعش هو الوجه الحقيقي لميليشيا حزب الله. داعش تقتل وترهب الناس ثم بعد ذلك تعلن وتصور، أما حزب الله فيقتل ويعزي وهذا هو الفرق، وهم من مدرسة واحدة”. وقال إن “أكبر دليل على ذلك أنه أثناء اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، الكل يذكر فيلم أبو عدس الذي تبين لاحقاً من خلال المحكمة الدولية أنه فيلم مركب من حزب الله”، مضيفاً أنه في كل مرة يريد الإيرانيون أن ينفذوا مخططاً ما، يستعملون داعش كما حصل في سوريا والعراق، والآن بدأ الاستثمار في لبنان”.
كما أكد أن طهران اليوم في وضع حرج نتيجة الضغوطات والعقوبات الأميركية ومحاولة الضغط حتى على حزب الله، لافتاً إلى أنه “حين يزداد الضغط على الحزب يلجأ الأخير إلى داعش، إما في طرابلس أو عرسال في البقاع، وهذا أمر متوقع أن نشهده بقوة خلال المرحلة المقبلة”.
مواجهة “المحور الإيراني”
وأوضح العميد المتقاعد الدكتور محمد رمال بدوره، أنه لم يتم القضاء على تنظيم “داعش” في أي من الدول التي حاربته، ولو انحسرت الجبهات المفتوحة التي كان يحارب فيها هذا التنظيم، لأن الفكر الذي يغذي هذا التنظيم لا ينتهي بمجرد القضاء عليه عسكرياً، بل يتحول إلى خلايا نائمة تستغل الفرصة لمعاودة نشاطها عبر أساليب مختلفة.
وأشار إلى أن الحديث اليوم عن “داعش” في سوريا والعراق ولبنان يندرج من زاوية الضغط لفرض تسويات، على خلفية تسويق اعتقاد بأن هناك خطراً تشكله عودة التنظيم الإرهابي، يستدعي منعه والحد منه من خلال قيام إيران بتنازلات في الدول الثلاث، وهذه الدول كما هو معروف تمتلك فيها إيران نفوذاً وحضوراً سياسياً وعسكرياً، بمعنى أنها في نظر المجتمع الدولي ساحات إيرانية، لذلك يعتقد بعض المجتمع الدولي أن الضغط في هذه الساحات على إيران لوقف أشكال دعمها، يأتي من باب التهديد بإنشاء ساحات مقابلة، بعدما عجزت الضغوط السابقة عن تغيير مواقف طهران.
ولفت إلى أن المواجهات مع هذا التنظيم اتخذت دائماً في لبنان طابع المواجهة مع خلايا نائمة، تتحين الفرصة للقيام بأعمال إرهابية في مناطق مختلفة. أما متى تتحين هذه الخلايا الفرص لمعاودة نشاطها فهذا يرتبط بأمور ثلاثة، الأول هو الصراع السياسي الذي يتخذ في بعض الأحيان منحى طائفياً ومذهبياً، الأمر الثاني هو التوترات الأمنية المتنقلة التي تصرف جهود القوى الأمنية عن متابعة ورصد وملاحقة الخلايا النائمة، أما الأمر الثالث فهو الضائقة المالية التي يعاني منها اللبنانيون، وانعدام فرص العمل لدى الشباب، ما يجعل هذه الفئة لقمة سائغة لدى المجموعات الإرهابية، التي تمتلك تمويلاً وإمكانات تمكنها من الاستقطاب.
وأشار إلى أن هناك محاولات لوضع اللبنانيين أمام أحد خيارين، إما تسوية بشروط خارجية أو حرب أهلية، وهذا يعني أن هذه الحرب في حال نشوبها ستكون بأياد خارجية والمقصود هنا “داعش”، لكن الأهداف العسكرية لهذا التنظيم لم توفر طائفة ولا مذهباً في كل الدول التي نشط فيها، ولم تخلف حروبه إلا الهجرة والدمار والقتل والسبي والخطف، لذا يجب التنبه جيداً قبل فوات الأوان.
طوني بولس
اندبندت عربي