حسب سير الحكام الطغاة الثمانية الذين ضمّهم البروفسور الهولندي الأصل فرانك ديكوتير، لكتابه الأحدث «الديكتاتوريّون: عبادة الفرد في القرن العشرين» الصادر عن دار «بلومزبري» للنشر 2020، فإن الطريق المؤدي إلى الديكتاتوريّة يبدو معروفاً ويمكن توقعه وحتى تأليف الرّوايات الديستوبيّة اعتماداً على مراحله كتيمة سردٍ مركزيّة. البداية دائماً لأفراد مغمورين تأخذهم أقدارهم نحو العمل السياسيّ، فالقفز على السلطة بلبس عباءة آيديولوجيا شعبويّة والاستفادة من حال فوضى وتذمّر مجتمعيّة –يسميها البعض حالة ثوريّة- وتالياً الإطاحة عن طريق العنف الدموي بكل المنافسين المحتملين، وإبقاء الجميع دائماً تحت المراقبة اللصيقة وبخاصة العائلة والمقربين والجيش، وتركهم مسمّرين على رؤوس الأصابع عبر موجات تطهير مفاجئة وقاسية، وانعطافات سياسيّة حادة تكشف الموالين للفرد – الزعيم مقابل أولئك المغفلين الذين صدقوا الحكاية الآيديولوجية. وبعد تحوّل المجتمع إلى بيئة ضخمة من التكاذب والتظاهر، تصبح مسألة المحافظة على المنصب عند الديكتاتور أقرب إلى حياكة المسرحيّات والمهرجانات المبهرة منها إلى السياسة المحضة، ويتم من خلالها توظيف أدوات نسج التصورات ومصادر المعلومات المتاحة للمواطنين لصالح تضخيم الدّور الذي يلعبه ومحاولة بناء صورة إيجابيّة عن شخصيّته في نظر العالم الخارجيّ، ولو من خلال تقديم تنازلات آيديولوجيّة أو سياسيّة -غير موجهة للاستهلاك المحلي- يتم تخوين كل من يعترض عليها.
وإذا كان لنا أن نسلّم بدقّة اللّوحات الثمانية التي رسمها ديكوتير -أستاذ الإنسانيّات بجامعة هونغ كونغ ومؤلف ثلاثيّة تاريخيّة عن عهد ماو فازت بعدة جوائز ومُنع تداولها على البر الصيني- بحذق الخبير العارف لكلٍّ من موسوليني (إيطاليا) وهتلر (ألمانيا) وستالين (روسيا) وماو (الصين) وكيم إل سونغ (كوريا الشماليّة) ودوفيلييه (هايتي) وتشاوتشيسكو (رومانيا) ومينغيستو (إثيوبيا) رغم اقتصاره على تجارب عادت الغرب ولو شكليّاً، وامتناعه المريب عن تقديم نماذج دعمتها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا في أوقات مختلفة بأفريقيا وأميركا اللاتينيّة، فإنه لا بدّ من الوصول إلى قناعة بما خصّ مشروع الحداثة البشري بعد الخروج من ربقة العصور الوسطى –أقلّه فيما يتعلّق بأنظمة الحكم– بأنه لم يكن سوى عبث دموي كلّف البشريّة ملايين الضحايا بلا طائل، وأننا كبشر ما ابتعدنا قيد أنملة في واقع الأمر عن النموذج الكلاسيكي لتفردّ الأقليّة –أو الفرد– بالسلطة والموارد على حساب الأكثريّة منذ تأسيس التجمعات البشريّة الأولى في العصور القديمة ونشوء المدن – الدّول. وإذا كان ديكوتير مصرّاً على اقتصار نماذجه في القرن العشرين وخارج الفضاء الأنغلوفونيّ، فإن أجواء الخداع العام وصناعة الأخبار الكاذبة وهيمنة النخب المحيطة بالسلطة كما رسمها في إطار حكاياته عن ديكتاتوريي ذات القرن، لا تبعد في مجملها من حيث الجوهر والمنطق عمّا تعيشه المجتمعات الغربيّة تحديداً رغم كلّ الرطانة الآيديولوجيّة عن الديمقراطيّة والقيم الحضاريّة وحقوق الإنسان، فيما الجرائم الدمويّة المنسوبة للقادة الثمانيّة تُرتكب مثيلاتها اليوم من دون إراقة الدّماء مباشرة من قبل لجان حكم نخبوية تنفّذ سياسات انعدام العدالة الاقتصادية والتجهيل والتواطؤ في نشر المواد المسرطنة والأدوية غير الآمنة وتدمير البيئة واستهلاك الموارد المحدودة، وهو مع ذلك يكتفي بسرد سير هؤلاء الديكتاتوريين، ولا يحاول فرض منهجيّة ناظمة لمسار صعودهم ونهاياتهم رغم تعدد الإشارات، ولا بناء نوع من (بروفايل) سيكولوجي مشترك حول شخصياتهم وأوضاعهم النفسيّة رغم كثرة الشواهد، ولا ربط تجارب ديكتاتوريّات حداثة القرن العشرين بما قبلها أو بعدها، تاركاً الباب مشرعاً بالكامل أمام القارئ، الذي ما إن ينتقل في مطالعته من سيرة أحدهم إلى سيرة تالية حتى يجد نفسه أسير عقد المقارنات بحثاً عن نسق تاريخي أو سيكولوجي ما، ومناظرة الماضي القريب بالحاضر. والمؤلف في ذلك منع كتابه من الوقوع ضحيّة جدالات نظريّة محضة، أو الارتباط بسياسات مرحليّة وآنيّة الطابع، بل اكتفى حصراً بدور المؤرخ غير المنفعل، الأمر الذي لا شكّ سيتيح عمراً أطول لمضمونه.
تتوفر بالطبع نصوص ومصادر كثيرة حول الديكتاتوريين أنفسهم الذين يضمّهم الكتاب، لا سيّما في عصر الإنترنت، حيث بحث صغير يتيح للقارئ العادي الوصول إلى ملايين الإشارات وآلاف المراجع بشأن أيٍّ منهم، ولا يمتلك ديكوتير معلومات جديدة غير متوفرة سابقاً، ولذا فإن رهانه –الرابح بالفعل– كان على نسج سرديّات موجزة دون إخلال بالمحطات الرئيسة في حياة موضوعاته، مع تجنّب فخ السقوط أسير محور تعداد الضحايا والجرائم لمصلحة الإضاءة على الجوانب المتعلقة بهندسة بناء الصورة الفرديّة لشخصيّة الديكتاتور في المخيال العام، وكيفيّة سقوطه المحتّم في البارانويا والوهم وانقطاع صلته بالواقع، وسعيه الحثيث للحصول على تقبّل الصحافيين الأجانب وتكريم قادة الدّول الأخرى. وهكذا تحفل السرديّات الثماني بتفاصيل ولطائف جانبيّة تسند الصورة وتشدّ القارئ للاستمرار، وتدفعه دفعاً نحو الانخراط الفاعل في لعبة المقارنات عبر خيوط مختلفة تمتد عبر الديكتاتوريّات الثماني.
هناك مثلاً خيط التحكّم بفيض المعلومات الذي يصل إلى المواطنين. فموسوليني، بعد أن أجرى محاولته الأولى للخطابة عبر الراديو وجد أن عدد المشتركين في خدمة الإذاعة قليل نسبةً لعدد السكان الكليّ، ولذا فقد أمر بتوزيع 40 ألفاً من أجهزة الاستماع مجاناً إلى كل مدرسة بالبلاد، ووفر 800 ألف منها بأسعار زهيدة لتصل إلى كل بيت، وأنشأ شبكة من مكبرات الصوت المرتبطة بالبث الإذاعي بحيث أصبح لا يمكن عمليّاً تجنّب الاستماع لخطاباته الكثيرة الطويلة ما دام المرء مقيماً في إيطاليا. وهو ما تبعه إليه هتلر الذي أوعز ببيع أجهزة الراديو بأقل من سعر التكلفة، وكان وراء تطوير إنتاج أعمدة بث إذاعي وصوتي متنقلة كانت تُستخدم بكثافة في مختلف المهرجانات والأنشطة العامّة للحزب النازي، وخصص في خضمّ أزمة انقطاع الورق في أثناء الحرب أربعة أطنان شهرياً لمصوره الفوتوغرافي الخاص، لأجل أن تستمر صوره بالتدفّق على المواطنين «لأهميتها الاستراتيجيّة». لكنّ ماو فاق الجميع بتخصيصه سبعة مصانع ضخمة في شنغهاي لطباعة بوسترات الدّعاية، وصور الرفيق القائد الرّمز، ونسخ الكتاب الأحمر الصغير –الذي يضم مقتطفات من أقواله ويسهل حمله في الجيوب. فيما عمل موردو على إنتاج الحبر الأحمر على مدار الساعة بالنظر إلى تكرر توقف مصانع الدعاية بسبب انقطاع مخزون الحبر لديها، وحوّل عدد مصانع للأحذية إلى إنتاج جبال من الأغلفة الجلديّة اللامعة للنسخ. كما تفوّق ماو على ستالين وكيم إل سونغ في صناعة دبابيس الشارات التي توضع على الملابس فوق القلب كتعبير علني عن الانتماء والولاء، فكانت الصين تنتج رسمياً خمسين مليوناً شهريّاً، دون استطاعتها تلبية الطلب، مما فتح المجال لتجارتها في السوق السوداء وانتشار النسخ المقلّدة، وتسبب بانقطاعات متكررة في إمدادات الألمنيوم لمصانع الأدوات المنزليّة والاستخدامات الصناعيّة الأخرى.
لكن ربما يكون الخيط الأهم الرابط بين السير الثماني مجمل التفاصيل الصغيرة -بخلاف العنف المجاني والتهديد والتعذيب والإخفاء– التي مارستها تلك الأنظمة الديكتاتوريّة وكان يتم من خلالها تفتيت المجتمعات، وزرع الخوف وثقافة التآمر بين النّاس، وكسر علاقة الأفراد بالواقع والحقيقة ومنطق الأشياء، لتتلاقى كل تلك التفاصيل معاً وتتقاطع وتتراكم كي تخلق إنساناً منعزلاً، مضطراً للرّضوخ للقهر، تلاحقه الهواجس ويتآكله فقدان الثقة بنفسه ومن حوله، مرغماً –إنْ آثر السلامة المؤقتة– إلى التظاهر لحظياً باعتناق آيديولوجيا الديكتاتور، وافتعال الحماسة الفائقة في تأييد شخصه.
الشرق الاوسط