لم يكن من المتوقع أن يثير اختطاف ناشط في الحراك الاحتجاجي كل هذه الأزمة، وأن يفتح الأبواب لصراعات خطيرة بين القوات الحكومية ومسلحي القبائل، إذ سبق أن تعرض العديد من الناشطين إلى عمليات اختطاف واعتقال وتنكيل وتصفيات، بدون أن يحرك ذلك ساكنا، أو أن يثير حماسة الجهات الحكومية، لتتحرك بالشكل الذي تحركت به القوى الأمنية والعسكرية، بعد الإعلان عن اختطاف الناشط سجاد العراقي في محافظة ذي قار.
فمن هو سجاد العراقي الذي أشعل اختطافه الأزمة؟ ولماذا تحركت قوى أمنية وقوات النخبة العسكرية تدعمها مروحيات طيران الجيش لتحريره؟ وما دور عشائر محافظة ذي قار، التي دخلت على خط الصراع بين أجهزة الدولة والميليشيات المتهمة بعملية الاختطاف؟
سجاد العراقي شاب عشريني من أهالي مدينة الناصرية مركز محافظة ذي قار، تشير التقارير الصحافية إلى أنه متخرج من قسم التاريخ في كلية الآداب جامعة ذي قار، وأنه عاطل عن العمل يمارس بعض المهن البسيطة بين حين وآخر، إذ لم يحظ بفرصة عمل حكومي، وكان ناشطا في الحراك الاحتجاجي منذ عام 2011، وقد أحاطت به مجموعة من الناشطين، ما جعله يبدو كقائد ميداني بارز في حراك محافظة ذي قار. وقد ظهر سجاد العراقي قبل بضعة أشهر في أحد التسجيلات المصورة، وهو يجبر مدير صحة محافظة ذي قارعلى الاستقالة، وقد أحاط به المحتجون، وتشير المتابعات التي نشرتها وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، التي غطت اختطاف العراقي إلى إنه كان ناشطا مختلفا عن أقرانه، إذ تميز بالجرأة، وقام بفتح ملفات الفساد في محافظته، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ونشط في التحريض على حركات وأحزاب الإسلام السياسي الفاسدة، كما اتهم بالتحريض على مهاجمة مقرات تلك الأحزاب وإحراقها. كل ذلك جعل من سجاد العراقي هدفا لجهات سياسية معروفة في مدينة الناصرية، وقد تلقى تهديدات من تلك الجهات، كما تعرض قبل حوالي شهر إلى محاولة اغتيال بتفجير عبوة ناسفة في خيمته في ساحة الحبوبي، معقل احتجاجات انتفاضة تشرين في المدينة، لكنه نجا من محاولة الاغتيال بعد أصابته بجروح طفيفة.
عملية اختطاف سجاد العراقي التي تمت مساء 20 سبتمبر/ايلول، أطلقت موجة عنف في ساحات الاحتجاجات في المدينة، اذ قطعت جسور المدينة بالإطارات المشتعلة، وتجمهر المحتجون أمام مبنى المحافظة وهددوا باقتحامه، إذا لم تتخذ الجهات الحكومية الإجراءات اللازمة لتحرير الناشط المختطف، كما تجمع عدد من المحتجين الغاضبين حول مقرات بعض الأحزاب والميليشيات مثل، منظمة بدر وعصائب أهل الحق، التي اتهمها رفاق العراقي الذين شهدوا بأن أفرادا من هذه الميليشيات هم الذين اختطفوا سجاد العراقي وجرحوا اثنين من زملائه.
شهد عراق ما بعد 2003 استفحال ظاهرة تخادم القبلي مع السياسي في صفقات فساد ونهب وقتل وإثراء على حساب المال العام
التوتر الذي شهدته المحافظة دفع قائد شرطة ذي قار العميد حازم الوائلي إلى التصريح، بأنه « تم التعرف على الخاطفين، وتم التوجه لإلقاء القبض عليهم وتحرير الناشط سجاد العراقي» كما كشف الوائلي عن «تكفل شيخ عشيرة المتهم بالخطف بسلامة الناشط» وعلى إثر الحادث تم تشكيل فريق عمل سريع لتحرير العراقي، بعد التعرف على هوية أحد الخاطفين. دوافع الاختطاف، كما قال قائد شرطة المدينة في ليلة الحادثة غير معروفة، وأضاف أنه «سيتم كشفها لدى القبض على الجناة» لاسيما بعد تحريك الفريق الأمني وإجراء مفاوضات عشائرية. يبدو أن الناشط المختطف نقل إلى مدينة سيد دخيل القريبة من الناصرية، حيث اختطف العراقي، لتمتع مدينة الخاطفين بحصانة عشائرية قوامها القوة المسلحة التي تحوزها عشائر المدينة، والتي يمكن أن توفر لهم الحماية، وتصد مهاجمة قوات شرطة المحافظة في حال داهمت بيوتهم، ويبدو أن جهود شرطة المحافظة بتحرير المختطف وإلقاء القبض على الجناة، باءت بالفشل. هذا الأمر دفع رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي إلى تحريك قوات النخبة من جهاز مكافحة الإرهاب باتجاه محافظة ذي قار مساء يوم الاثنين 21 سبتمبر /ايلول ، وأصدر أوامره بإتمام المهمة التي فشلت في إنجازها قوات أمن محافظة ذي قار. وهنا دخلت المشكلة في مسار خطر، إذ تم تفتيش بيوت عدد من المشتبه في وجود المختطف فيها، وحدث ما لم يكن في الحسبان، عندما اقتحمت قوات جهاز مكافحة الإرهاب منزل شيخ عشيرة «العساكرة» كاظم آل شبرم في مدينة الناصرية، بدون توضيح أسباب الاقتحام، وما إذا كان شيخ العشيرة متهما بخطف الناشط سجاد العراقي. هذا الأمر أجج الموقف، ودفع عشيرة العساكرة للخروج والتهديد بالاشتباك مع القوات الحكومية المتواجدة في المدينة، لأنها ألحقت الإهانة بشيخ قبيلتهم، وطالبت الحكومة بتقديم اعتذار رسمي عما حصل.
إن دخول قبائل جنوب العراق على خط الأزمة، يبدو مؤشرا خطيرا على احتمال نشوب اقتتال أهلي خطير، فقد شهد عراق ما بعد 2003 استفحال ظاهرة تخادم القبلي مع السياسي في صفقات فساد ونهب وقتل وإثراء على حساب المال العام، إذ شاركت قيادات قبلية الطبقة السياسية التي سهلت لها عمليات التهريب، وتجارة المخدرات والأسلحة والاتجار بالبشر، مقابل خدمات الولاء السياسي وشراء المناصب الحكومية المركزية والمحلية، عبر تجيير انتخابات البرلمان ومجالس المحافظات للقيادات السياسية الفاسدة. وفي خضم الأزمة الحالية، تذكر بعض المراقبين موقف القبائل السنية في غرب وشمال غرب العراق بعد 2003، التي تقلبت في ولائها من تنظيم «القاعدة» وتحولها عبر الدعم الأمريكي إلى ما عرف بحركة الصحوات، التي قاتلت التنظيم الارهابي، ثم تحولها إلى دعم الحراك السني، الذي حاول إطاحة حكومة المالكي الثانية، نتيجة تحريك الطبقة السياسية الفاسدة لهذه القبائل، عبر ما عرف بساحات الاعتصام في المحافظات السنية، التي اخترقتها التنظيمات الإرهابية، ورفعت راياتها على منصات الاحتجاج، وحرفت حراك المحافظات المطلبي، ثم سرعان ما ذاقت هذه القبائل المرارة، بعد سيطرة «داعش» على مدنهم، وتهجير أهلهم، والدمار الذي أصاب مناطقهم بعد ما تحولت إلى ساحات معارك لتحريرها من سيطرة عصابات «داعش».
ويبدو أن الدور قد حان على قبائل الجنوب، التي أوغلت بعض قياداتها في عملية تخادم فاسدة مع الميليشيات، وباتت موئلا للسلاح المنفلت، وأصبحت تشعر بأنها أقوى من القوات الحكومية المسلحة، ويبدو أن هذه القبائل التي امتلكت الأسلحة المتوسطة وحتى الثقيلة، باتت تتعامل على أنها دويلات داخل الدولة، تتفاوض مع سياسي المحافظات الفاسدين، وتأخذ عمولاتها من صفقات الفساد وتفرض سياسة الامر الواقع على الارض. تحت ضغط الأزمة الأخيرة، يبدو أن بعض مستشاري الكاظمي، أشاروا عليه بضرورة سحب قوات مكافحة الإرهاب من مدينة سيد دخيل في محافظة ذي قار، وقد قرأت قبائل المدينة هذا الأمر على إنه انكسار للقوات الحكومية ورضوخ لمطالب القبائل، فقاموا باستعراض قوة قبلي في المدينة من النوع الذي يعرف بـ»العراضات العشائرية» التي يهزج فيها المقاتلون القبليون وهم يحملون أسلحتهم في شوارع المدينة فرحا بالانتصار، لكن يبدو أن صفحات التوتر لم تنته بعد، إذ أصدر القضاء العراقي أوامر قبض بحق شخصين من سكان قضاء سيد دخيل بمحافظة ذي قار، بتهمة اختطاف الناشط سجاد العراقي، يدعى أحدهما أحمد محمد عبود الإبراهيمي، وهو من سكان قرية البوحمودي في قضاء سيد دخيل ويعمل كاسباً، أما الثاني فيدعى إدريس كريدي حمدان الهصاري، وهو من سكان قرية الهصاصرة في الناحية ذاتها ويعمل كاسباً أيضاً، ومازالت القوات الحكومية تحاصر مدينة سيد دخيل التي يعتقد أن الخاطفين قد أخذوا سجاد العراقي لها، لكن بالمقابل تدفق المقاتلون القبليون من القرى والنواحي المحيطة بالمدينة إلى داخلها تحسبا لانطلاق شرارة النزاع. وتبقى مراقبة الموقف المتأزم بانتظار خطوة الحل العقلاني للأزمة هي الامل في انجلاء الموقف العصيب.
صادق الطائي
القدس العربي