في مفترق شارع “يهودا هيميت” وشارع “آدم باروخ” في يافا، مباشرة قبل الصعود الحاد إلى مطعم حمص أبو حسن الأسطوري، هناك ميدان صغير ومعتنى به جيداً، زرعت فيه أزهار وشجرة زيتون، ويسمى باسم الشيخ باسم أبو زيد، الذي كان في السابق إمام المسجد الكبير “المحمودية” في منطقة الميناء، وكان المفتي ومن مؤسسي الحركة الإسلامية في يافا.
هذه الزاوية الصغيرة التي تحترم وتقدر العربي واليهودي الموجودين فيها هي -حسب رأيي- رمز ونموذج للنهج. إسرائيل دولة نموذجية، يهودية وعربية وديمقراطية كبيرة، موحدة ومزدهرة، يعيش فيها أبناء الديانات باحترام وسلام وصداقة، يعيشون فيها ولم يعودوا يحارب بعضهم بعضاً ولا يقتلون فيها ولا يموتون باسمها، يعيشون.
منذ إقامة الدولة وحتى قتل رئيس الحكومة إسحق رابين، كانت إسرائيل مثل أحد الزواحف: أكلت الأراضي وكبرت بسرعة. وتقيأت أحياناً من كثرة الأكل، إلى أن جاء الوقت وأشبعت شهيتها الكبيرة وأخذت مكانها في فضاء الشرق الأوسط، مع حدود غير واضحة وعدم راحة في المحيط. قضية القتل تلك وكأنها جمدتها في مكانها. قتل رابين هو النقطة الزمنية التي تحولت فيها الحشرة الزاحفة إلى شرنقة.
مرت 25 سنة، ومنذ ذلك الحين توقفت إسرائيل عن الأكل. فأقامت حولها أسواراً وجدراناً، وتقوقعت داخل ذاتها وتجمعت داخل نفسها الصاخبة، وغلفت نفسها بدرع وجدران واقية وقبة حديدية، ولم تتوقف عن الشجار حول حدودها غير الواضحة وغير المتفق عليها، والمختلف حولها. وكأن الشرنقة تمردت على صانعها. 25 سنة مرت وإسرائيل متعبة من شدة الجوع لشيء آخر. تيارات الأرض فيها تتمرد بصوت رمزي: العدالة لسولمون والعدالة لإياد. يثورون إزاء حالتها الوجودية المتعفنة، المشبعة بالكراهية والمتلاعبة وضد الحقد والشجار والخلاف. 25 سنة مرت وقد حان الوقت لإجراء تغيير، حان وقت تحويل شكلها.
الشعب مثل الإنسان، مخلوق دوري ومتطور. الأمة كيان حي، يفكر ويتغير ويتحدد مع مرور الوقت ومع دقات عقارب الزمن. للشعب جروح ومخاوف ومشاعر. التاريخ التراكمي والوعي المشترك هما القصة المتشابكة بلغتها وواقعها. المرحلة القادمة والمطلوبة في حياة إسرائيل كأمة هي التحول من شرنقة إلى فراشة.
هذه اللحظة التي تندفع فيها من داخل الكبسولة المظلمة والمكتظة والقبيحة فراشة جذابة وملونة وجميلة إلى الهواء الحر، هي إحدى لحظات الطبيعة المدهشة، وهي الطبيعة بكامل سحريها، وهي ذروة عملية النضج الطويلة وأحياناً المؤلمة، لكنها الضرورية والمحتمة. هذه اللحظة هي تحقيق هدف الشرنقة التي كانت ذات مرة زاحفة. هي الإمكانية الكامنة التي نضجت في وقتها لتصبح واقعاً. هي تجسيد للحلم، هي العيش بسلام.
كتب مارتن لوثر كينغ ذات مرة بأن الوقت يحين للتغيير عندما يكون الوقت نفسه مستعداً للتغيير. وكتب الشاعر يعقوب روتبليت في نهاية ستينيات القرن الماضي في قصيدة للسلام: “لا تقولوا سيأتي يوم، بل أحضروا ذاك اليوم”. كينغ وروتبليت محقان… كل شيء يأتي في وقته. ووقت السلام لا يمكن أن يأتي إلا بعد الحرب. ولكن زمن السلام لا يأتي هكذا بصورة مجردة، في يوم صاف: يجب وعلى الإنسان والشعب التسامي من أجله. زمن السلام هو المشهد الذي نراه من قمة الجبل. هو مقابل الجهد الإنساني الكبير، الجهد الذي هو تسامي النفس، الجهد الذي هو التغلب على الخوف، الجهد الذي هو الشجاعة والقدرة على حب النفس، وهو الجهد المنقى. هذا جهد يشكل النمو من داخل الصعوبات والألم وقيود الماضي، جهد يشكل الخروج من شرنقة العبودية إلى حرية الفراشة.
في العام 2020، بعد 150 سنة تقريباً على النزاع الدموي والوحشي والعنيد، حان الوقت للشعب اليهودي كي يصنع سلاماً مع العرب، سلاماً يشكل إعادة قبول لليهودي في أرجاء الشرق الأوسط، مكانه التاريخي والطبيعي… سلاما اعتراف وقبول وتسليم وتصالح مع أبناء الشعب الفلسطيني، أبناء هذه البلاد، وسكانها الأصليين وأطفالها… سلاماً يخلق شراكة متساوية وحقوقاً كاملة متساوية لجميع سكان الأرض. البلاد واحدة وهي لنا جميعاً.
منذ العام 1937 وحتى الآن يحاول العالم تطبيق صيغ مختلفة للفصل بين أبناء العم، أبناء إبراهيم، اليهود والعرب، ولكن بدون نجاح. منطق مبدأ الدولتين يقول إنه إذا تم فصل التجمعين السكانيين، هؤلاء هنا وأولئك هناك، فسيقتنع الشعبان بنصيبهما وسيضعان السلاح وسينهيان العداء. هذا لم يحدث ولن يحدث. الأمر ليس كذلك.
ففكرة تقسيم البلاد ورثناها من الانتداب، وهي ليست فكرتنا، بل تعارض التراث الذي جئنا منه. كان البريطانيون في حينه إمبراطورية كولونيالية في السير نحو الأفول، وما استطاعوا فعله هو رسم خطوط على الخريطة طبقاً لدرجة وجع الرأس الذي تسبب به الشعبان اللذان يقعان تحت حكمهم. وقد مرت منذ ذلك الحين 83 سنة وما زال العالم يحاول تطبيق صيغ مختلفة لنفس الحل باسم نفس المبدأ، لكن البلاد نفسها وكأنها لا تريد أن تنقسم. هي تتحدى سكانها المتشابكين وتقول لهم: عليكم أن تجدوا حلاً آخر. البلاد مثل الطفل الذي أُحضر أمام الملك سليمان: إذا قسمه فسيقتله.
إن حل دولتين متخاصمتين وغير راضيتين، تتداخل كل منهما في الأخرى، لن يؤدي إلى هدوء أو سلام. وسبب ذلك بسيط، وهو أن النزاع بين اليهود والعرب ليس نزاعاً على الأرض، والخلاف بيننا ليس خلافاً على مساحة، بل هو قصة خوف واستهانة وتعال وغضب.
النزاع هو قصة اليهودي الذي أُبعد عن أرضه قبل ألفي سنة، وعاد وهو يرتدي بدلة ومعطفاً وقبعة، والتقى للمرة الأولى مع حياة العربي، الذي كان هو نفسه مثله. وقد سماه فلاحاً، ورأى فيه شخصاً حقيراً، وقد سخر من ثقافته ودينه وعلاقته بالأرض. ثار العربي ورد على ذلك بغضب وعنف قاتل. وفي تلك اللحظة بالذات ولد النزاع القومي الذي يرافقنا منذ ذلك الحين حتى الآن. جميعنا ولدنا فيه، وجميعنا أسرنا داخل الأطر المقيدة والمسممة والمحفورة عميقاً في وعي الشعبين. وقد حان الوقت للتعافي.
البشر يريدون من الآخرين أن يروهم، وهم يريدون أن يعترفوا بهم، وبقيمهم وثقافتهم، وبلغتهم وتاريخهم. البشر ينمون ويتطورون من خلال رؤيتهم لهم. وبالعكس، الناس يطورون الغضب والإحباط إذا تم تجاهلهم وإذا تم تجاهل وجودهم، وإذا لم يحترموا مكانتهم وتعالوا عليهم. على كل الأحوال، حل النزاع المحتمل والوحيد هو مسار المصالحة الذي سيتحول العدو خلاله إلى صديق. كل محاولة لإيجاد حل آخر هي تجاهل لجذر المشكلة، وفي الأصل سيبقي الطرفان متعاديين وغير راضيين. ستبقى الأرض في مكانها إلى الأبد، يجب أن يتغير الموقف. وعلى الشعوب أن تتجاوز الإخفاقات. يجب على الشعب الفلسطيني التغلب على الغضب وشعور الانتقام. وعلى الشعب اليهودي إيجاد القوة للتغلب على الخوف وعلى الحاجة إلى السيطرة. هذه هي الحلقة المفرغة التي تحيط بطرفي النزاع والتي يجب الخروج منها إلى الحرية. نحن معاً هنا على الأرض نفسها، نعيش بقوة الوعد الذي أعطي لنسل إبراهيم، وقد حان الوقت للتعلم كيف نعيش معاً بشكل جيد وبسلام. إن خطوة أولى في رحلة المصالحة هي اعتراف الشعبين بحقهما المتساوي والمشترك على كل الأرض. روح جديدة ستهب في البلاد عند الاعتراف المتبادل بالحقوق. ولا يمكن التقليل من أهمية هذه الخطوة، لأنها ستكون المرة الأولى في التاريخ التي يعترف فيها الفلسطينيون بحق اليهود الطبيعي في البلاد؛ وهذه ستكون المرة الأولى التي تفتح فيها الحركة الصهيونية عيونها على محيطها، باعتراف متبادل هو الأساس لإصلاح العلاقات.
المرحلة الثانية هي وقف كامل للعنف مدة سبع سنوات على الأقل بدون إرهاب أو صواريخ أو اقتحام الجيش للمدن الفلسطينية وبدون تحريض أو خطوات أحادية الجانب مهما كانت، وبدون توسيع المستوطنات، وبدون سكاكين وبدون مستعربين ومحاولة قمع وسيطرة. سبع سنوات من الهدوء المبارك والضروري ليس فيها أي استفزاز. فترة اختبار وإعادة تأهيل، سيتم ذكرها رسمياً بعد عمل دعائي عميق، يؤكد خلاله على المصالح المشتركة للمصالح التاريخية، حتى في أوساط المعارضين الأكثر بروزاً في الشعبين. مع ذلك، إذا كانت هناك أعمال عدائية دموية في فترة الاختبار فستفشل العملية.
باسفسكي ليفي
القدس العربي