تتقارب نسب أصوات الحزبين الأمريكيين المتنافسين على الفوز برئاسة الولايات المتحدة، في معظم الولايات الأمريكية، وفي أكثر الولايات، فإن فوز أحدهما يحصل بفارق لا يتجاوز 5%، فالحزبان اللذان سيصبح أحدهما حاكما، والآخر معارضا، يملكان حضورا شعبيا متقاربا في معظم الولايات الامريكية من الساحل الشرقي الى الغربي، وهذا يعني أن الحزب الحاكم يمتلك تمثيلا وازنا في كل ولايات البلاد، حتى إن صوت بعضها لمنافسه، وفي المقابل؛ الحزب الخاسر يمتلك أيضا تمثيلا يقترب من النصف في كل الولايات الأمريكية وإن خسرها.
هذا يؤشر إلى حالة صحية من التمثيل المتوازن في عموم البلاد، والتوازن بين الحكم والمعارضة، ينعكس على خريطة متوازنة للبلاد تعضد وحدتها، فعندما يفوز المرشح الأمريكي بايدن سيكون له ممثلون ومؤيدون حتى في الولايات التي خسرها، وفاز بها ترامب، لذلك سيكون الرئيس قادرا على إدارة البلاد بتوازن.
صحيح ان هناك مكونات تميل لحزب معين؛ كالافارقة الأمريكيين الذين ينتخب أغلبهم الحزب الديمقراطي، ونوعا ما الأمريكيين من أصول لاتينية، والبيض المحافظين في الأرياف الذين يميلون للحزب الجمهوري، لكن هذه المكونات نفسها موزعة في البلاد، بحيث تظهر النسب متقاربة بين الحزبين.
والأهم أن كل هذه المكونات تصوت في النهاية لأحزاب «وطنية» تمتلك برامج سياسية عابرة للمكونات العرقية أو الدينية، وليست أحزابا ذات مرجعيات وتمثيل عرقي أو طائفي كما في بلدان المشرق العربي. وإذا نظرنا لانتخابات العراق، فإننا سنجدها أقرب لإحصاء سكاني لعدد الطوائف والعرقيات المتكتلة في محافظات محددة، والأحزاب المتنافسة غالبا هي أحزاب ذات مرجعيات فكرية، إما شيعية أو سنية، أو قومية كردية، لذلك ما يحصل هو ان الشيعة في المحافظات الجنوبية ينتخبون أحزابهم التقليدية، والسنة في المحافظات الوسطى ينتخبون أحزابهم التي لا ينتخبها أحد تقريبا في المحافظات الشيعية، والأكراد ينتخبون أحزابهم الكردية، التي لا ينتخبها أحد في المحافظات الشيعية والسنية.
الانقسام الاجتماعي في العراق المعبر عنه انتخابيا، سيجعل الظروف مهيأة للسنة للمطالبة بأقاليم وكيانات تنفصل عن سلطة بغداد
لو نظرنا لعينة من انتخابات 2014، وهي الانتخابات التي سبقت تفجر الأوضاع الأمنية في البلاد، وسيطرة تنظيم الدولة على محافظات سنية، وتصاعد الدعوات لاحقا للانفصال بإقليم سني كما الأكراد، لوجدنا أن الحزب الفائز في الانتخابات وهو «ائتلاف دولة القانون» بزعامة المالكي؛ حل أولا في معظم المحافظات الشيعية، لكنه لم يحصل على أي مقعد في أكبر محافظة كردية وهي أربيل، ولم يحصل على أي مقعد في أكبر محافظة سنية وهي الموصل. وكذلك الأحزاب الأخرى التي انتخبها الشيعة في المحافظات الجنوبية عام 2014 «ائتلاف المواطن» لعمار الحكيم و»الأحرار» لمقتدى الصدر و»الصلاح» لإبراهيم الجعفري وحزب «الفضيلة» لم تحصل هذه الأحزاب الفائزة في محافظات الجنوب الشيعي على أي مقعد في محافظات سنية أو كردية خالصة؛ كالموصل أو الأنبار أو أربيل. وعدا عن اختراقات خجولة في انتخابات 2018، مثل ما حصل مع قائمة حيدر العبادي التي جمعت بعض المقاعد في الموصل بمرشحها وزير الدفاع السابق خالد العبيدي، فإن الاحزاب الفائزة بأصوات السنة والأكراد في المحافظات الوسطى والشمالية لم تكد تحصل على أي مقاعد في المحافظات الجنوبية الشيعية، والعكس صحيح، فالقائمة التي حلت أولا بزعامة التيار الصدري، ورغم رفعها شعارات وطنية، إلا انها لم تحصل تقريبا على أي مقعد في المحافظات السنية أو الكردية الخالصة كالأنبار وأربيل .
وفي محاولة لترقيع هذا المشهد، في الانتخابات الأخيرة التي يعتقد أنها شهدت تزويرا في المحافظات الوسطى التي تئن بملايين النازحين، والمدن المدمرة، تقوم الكتل الشيعية بنسج تحالفات ما بعد الانتخابات؛ ليدخلها بعض ممثلي السنة الفائزين في محافظاتهم لتشكيل ائتلاف حاكم، كما حصل بين كتلة الحشد الشعبي وهادي العامري مع تيار الشيخ خميس الخنجر، لغاية منح الكتل الشيعية «ديكورا وطنيا» يؤهلها للظهور بمظهر الممثل لمكونات البلاد. هذا الانقسام الحاد، والتفاوت الواسع بين قوى حاكمة منتخبة، تحل أولا في محافظات معينة، ولا تملك أي مقعد في محافظات أخرى، يعني ان الفائز بالسلطة في بغداد، لا يمتلك تمثيلا اجتماعيا متوازنا لمكونات البلاد، كما يملك مثلا الرئيس المتوقع بايدن تمثيلا في كل ولايات البلاد بنسبة تقترب من النصف.
وقد امكنني ملاحظة هذا التفاوت بميول المصوتين في العراق حتى على مستوى المحافظة، بل المدينة الواحدة، وخلال مراقبتي لعدة مراكز انتخابية في مدينة بعقوبة في محافظة ديالى بانتخابات عام 2005، وجدت أن التباين كان جليا في نسب المشاركة وتوجهات الناخبين، بين مراكز يصوت فيها سكان من منطقة شيعية معروفة بولائها لحزب الدعوة مثل مدينة خرنابات، ومناطق أخرى كأحياء العربي ونيسان قاطعت الانتخابات بموقف معاد لأحزاب السلطة، بوصفها أحزابا إيرانية. هذا المشهد المنقسم اجتماعيا والمعبر عنه انتخابيا، سيجعل الظروف مهيأة مستقبلا بالنسبة للسنة للمطالبة بأقاليم وكيانات تنفصل عن سلطة بغداد. كما حصل عليها الاكراد، لكن القوى الشيعية ستعاند بالقوة، تطبيق مشاريع كهذه على أرض الواقع.
وائل عصام
القدس العربي