“لن أسمح لأي شخص بأن يدعي أن فرنسا أو حكومتها، تشجع العنصرية ضد المسلمين”.. بهذه الكلمات أطل الرئيس إيمانويل ماكرون، عبر صحيفة “فايننشال تايمز”، 4 نوفمبر الجاري، محاولا تبرير تصاعد موجة العداء ضد المكون الإسلامي في نسيج البلد الأوروبي.
لكن لأن الشيطان يكمن في التفاصيل، لم تكن لكلمات ماكرون، ضمن مقال له نشرته الصحيفة، محلًا من الإعراب أمام تفاقم اغتراب المسلمين وتزايد شعورهم بالعزلة في وطن يغرق حتى أذنه في مستنقع الاستقطاب.
واقع جديد يضرب تعددية فرنسا تحت حكم ماكرون، في سيناريو ينذر بعواقب وخيمة تلوح في الأفق المنظور، بعدما عمد الإليزيه إلى وضع الإسلام، ديانة وأتباعا، في قفص الاتهام.
وظلت الرئاسة الفرنسية ترقب ردة الفعل في الداخل، في مشهد كان العنف وحده هو الرد المنتظر فيه لتوثيق النظرة الرسمية، والمضي قدمًا نحو تنفيذ أجندة سياسية أُعدت سلفًا.
البدايات دائمًا تحتاج إلى مدخل ممنطق لتمرير المعطيات والوصول إلى النتائج المستهدفة، وهو ما وجدته باريس مباشرة بعد استهداف فرنسا بسلسلة هجمات إرهابية هذا الخريف، حيث التقى ماكرون ببقية قادة الاتحاد الأوروبي، بحثا عن اصطفاف لوقف تبعات هذا التهديد.
لم يسع ماكرون إلى تهدئة تمهد لتنقية الأجواء، وإنما تضمنت ردة فعله الأولى تعهدًا بحماية الحق في رسم كاريكاتوري مسىء للنبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، بل وكذلك عرض رسوم مجلة “شارلي إيبدو” المثيرة للجدل على مبانٍ عامة، ضمن ما اعتبره دفاعًا عن حرية التعبير في فرنسا.
وكأن ماكرون أراد سكب مزيدًا من الزيت على النار. وقف العالم في حالة صدمة يستقبل ردة الفعل، بعد طعن شخصين خارج مكاتب سابقة للمجلة، في سبتمبر/ أيلول الماضي، ثم ذبح المدرس صمويل باتي، في إحدى ضواحي باريس، منتصف أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، ثم مقتل ثلاثة أشخاص بوحشية داخل كاتدرائية نوتردام بمدينة نيس، في 29 من ذلك الشهر.
كبش فداء
هذه الهجمات الدموية دفعت مسؤولين فرنسيين إلى التسرع إلى حد ما في إتباع نهج العثور على “كبش فداء”. وكان المسلمون هم الهدف الجديد القديم.
واعتبر منتقدو سياسة الإليزيه أن حكومة ماكرون تستغل موجة العنف لتكثيف موقفه المثير للجدل المناهض للمسلمين.
وهو ما رد عليه في “فاينانشيال تايمز” قائلا: “لن أسمح لأي شخص بأن يدعي أن فرنسا أو حكومتها تشجع العنصرية ضد المسلمين”.
ولأن موقف ماكرون منذ بداية الأزمة كان مثيرًا للجدل ولا يتسق مع تبريراته، اتهمته الصحيفة بـ”وصم مسلمي فرنسا لأغراض انتخابية”، وتعزيز “بيئة معادية”، في محاولة لاستقطاب اليمين المتطرف.
وقال الدكتور أندرياس كريج، الأستاذ المساعد في كلية الأمن بمعهد دراسات الشرق الأوسط في الكلية الملكية للدراسات الدفاعية في “كينغز كوليدج” بلندن، إنه “غير متفاجئ من الاستقطاب المتصاعد في فرنسا”.
وأضاف كريج: “في عهد ماكرون، اتخذت فرنسا منعطفا قويا ضد الإسلام والإسلاميين، تحت راية التسامح والليبرالية الهشة”.
وتابع: “سياسة الهجرة الفرنسية القائمة على الاستيعاب بدلًا من الاندماج، تعني أن المسلمين مجبرون على الاندماج في التيار العلماني الفرنسي، الذي لا يتسامح تجاه المعتقدات غير العلمانية”.
وأوضح أن هذا الموقف يؤدي إلى الشعور بالغربة وانعدام الأمن في الهوية لدى بعض المسلمين، وهو ما يعتبر السبب الجذري للتطرف، حسب قوله.
استراتيجية ماكرون
فرنسا هي موطن لأكبر عدد من المسلمين في أوروبا والإسلام فيها هو ثاني أكبر ديانة متبعة بعد الكاثوليكية (المسيحية).
لكن لا يمكن تجاهل أن هذا البلد الأوروبي يعيش واقعا جديدا على إيقاع استراتيجية ماكرون “المعلنة” لإيجاد هوية جديدة لمسلمي فرنسا.
وفي 2 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، تحدث ماكرون عن اقتراح مشروع قانون يحدد النزعة الانفصالية، حيث زعم أن الإسلام “يمر بأزمة في جميع أنحاء العالم”.
واعتبر أن هذا الوضع يتطلب العمل لـ”تحرير الإسلام في فرنسا من التأثيرات الأجنبية”. وهو إدعاء انتقده قادة العديد من الدول الإسلامية.
وقال ماكرون لـ”فاينانشيال تايمز”: “هذا ما تحاربه فرنسا، الكراهية والموت الذي يهدد أطفالها، لسنا ضد الإسلام أبدًا، نحن نعارض التطرف العنيف، وليس الدين”.
إسلاموفوبيا
علماء مسلمون، مثل خالد بيضون، أستاذ القانون في كلية الحقوق بجامعة “واين ستيت” ومؤلف كتاب “الإسلاموفوبيا الأمريكية.. فهم جذور الخوف وصعوده”، يرون في موقف إنكار للمعتقدات الراسخة.
وقال بيضون: “بدلاً من التوجّه إلى الإجحاف الممنهج وتصوير القتل المروع للمُعلم صمويل باتي على أنه فعل منحرف، استغل ماكرون نقطة الخوف من الإسلام، المتأصلة في فرنسا، لإطلاق العنان لمستويات جديدة من الكراهية ضد مسلمي فرنسا”.
وفي 16 أكتوبر/ تشرين الاول الماضي، قطع عبد الله أنزوروف (18 عاما)، من أصل شيشاني، رأس باتي، مدرس التاريخ والجغرافيا (47 عاما)، بعدما عرض على تلاميذه صورًا كاريكاتورية للنبي محمد في درس عن حرية التعبير.
وكان رد الفعل على جريمة القتل سريعًا، حيث تعهد وزير الداخلية الفرنسي، جيرارد دارمانين، بأكبر حملة قمع حكومية على الإطلاق ضد المتطرفين المشتبه بهم.
وتم فتح أكثر من 80 تحقيقًا واعتقال عشرات المشتبه بهم، ومداهمة منازل، كما فتح مكتب المدعي العام الوطني لمكافحة الإرهاب تحقيقًا، وبدأت السلطات في حل 51 جمعية إسلامية، لا سيما جمعية مكافحة الإسلاموفوبيا.
وقال بيضون إن “ماكرون استخف بالإسلام، وحرض على العنف ضد المسلمين في فرنسا”.
وأردف: “اشتعلت الانقسامات، بدلاً من استخدام جثة باتي للإصلاح والتأطير، فجريمة قتله على حقيقتها هي فعل شرير قام به شخص واحد، وليس ستة ملايين رجل وامرأة فرنسيين (المسلمون)”.
وحذر المفكر الهندي، بانكاج ميشرا، في تصريح لـ”بلومبرغ أوبينيون”، من أنه “في عالم متعدد الثقافات بشكل متزايد، فإن دفاع ماكرون عن تقاليد الكاريكاتور وحريته الجامحة في التعبير، يُشعل صدام الحضارات”.
راهن ماكرون بسمعة فرنسا العالمية في مشهد السخرية الفجة من شخصية يقدسها أكثر من مليار مسلم، لذا يعتقد كريج أن “المسلمين الفرنسيين يشعرون بالغربة والانعزال”.
وأضاف أن “روايات ماكرون غذت التطرف بين المجتمعات التي تشعر بأنها مستهدفة، وخص الإسلام باعتباره التهديد الوحيد- برأيه- لأسلوب الحياة في فرنسا”.
ورأى أن هذا “يظهر أن الهوية الفرنسية محددة بشكل ضيق للغاية ضمن حدود التقاليد العلمانية، مع ترك ملايين المسلمين الفرنسيين معزولين ومستبعدين من الهوية الفرنسية”.
الرسوم التحريضية
التطور المتسارع في المشهد المتوتر داخل فرنسا أرجعه مراقبون إلى مذبحة “شارلي إيبدو”، وهي موجة إرهابية استمرت ثلاثة أيام في يناير/ كانون الثاني 2015.
وآنذاك قُتل 12 عضوًا في المجلة الساخرة داخل مكاتبهم على أيدي متطرفين؛ انتقامًا لنشرها رسوما كاريكاتورية مسيئة للنبي محمد.
هذا المشهد الدموي لم يتوقف عند هذا الحد، وإنما قُتل 6 آخرون في اليومين التاليين.
وفي اليوم السابق لبدء محاكمة الضالعين بالهجمات، في سبتمبر/ أيلول 2015، أعادت المجلة نشر الرسوم التحريضية على غلافها.
وفي وقت لاحق من ذلك الشهر، أصيب أربعة أشخاص بجروح خطيرة، بينما كانوا يقفون أمام مكاتب “شارلي إيبدو”.
واعترف المهاجم، وهو من أصل باكستاني، بارتكابه لعملية الطعن، قائلا إن هدفه كان العاملين في المجلة.
ومع هذه الهجمات المتتالية، بات المسلمون في مرمى اتهامات الإرهاب والتطرف.
وهو ما رد عليه عبد الله زكري، المسؤول في المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، في بيان، بأن “المسلمين ليسوا مذنبين ولا مسؤولين”، مشددا في الوقت نفسه على أنه “لا ينبغي علينا تبرئة أنفسنا”.
(الأناضول)