لهذا تتنامى قبضة الفصائل الشيعية في العراق

لهذا تتنامى قبضة الفصائل الشيعية في العراق

بعد عام من مقتل قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني، وأبو مهدي المهندس نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي العراقي في بغداد، لا تزال الفصائل الشيعية المنقسمة مهيمنة على مراكز السلطة والقرار في العراق مشكلة تحديا سافرا للدولة.

وفي تحقيق لصحيفة لوموند (Le Monde) الفرنسية، بقلم مبعوثتها الخاصة في العراق هيلين سالون، ضربت المراسلة مثالا لما يحدث في العراق ببلدة جرف الصخر جنوب بغداد، التي غيرت كتائب حزب الله الشيعية اسمها إلى “جرف النصر” احتفاء بانتصارهم على تنظيم الدولة الإسلامية.

يقول طالب الجنابي، ويعيش حاليا في مخيم مؤقت وسط صحراء الأنبار، مستخدما تطبيق تحديد الموقع عبر الأقمار الاصطناعية، إلى التحولات التي حدثت في جرف الصخر فقد “دمرت المليشيات المنازل ثم المزارع إلا وسط المدينة الذي يحتلونه، ويقال إنهم أقاموا معسكرات وسجونا سرية ومصانع ومزارع أسماك”.

وعلقت المبعوثة الخاصة للوموند بأنه لا أحد، من بين 85 ألف فرد من قبيلة الجنابي الذين فروا من المدينة أثناء القتال ضد تنظيم الدولة في يونيو/حزيران 2014، ولا حتى بين المسؤولين السنة الذين يتابعون القضية، يمكنه أن يعرف بالضبط ما الذي تفعله الفصائل الشيعية المسلحة هناك، بعد 3 سنوات من إعلان النصر على تنظيم الدولة.

وقالت إن “كتائب حزب الله العراقي تسيطر على المنطقة، وإنه حتى رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي لا يستطيع أن تطأ قدمه تلك المدينة” التي أعلنت “منطقة محظورة”.

في هذه البلدة، قُتل العديد من شيوخ قبيلة الجنابي بسبب احتجاجهم، وقد اتصل شيخ القبيلة عدنان الجنابي بكل الحكومات المتعاقبة، وتواصل مع قادة حزب الله اللبناني وإيران، ولكن دون نجاح، إلا أن المتحدث باسم كتائب حزب الله محمد محيي يصف كل ما يقال عن جرف الصخر بأنه “دعاية” ويقول إن “المنطقة دمرت من جراء العمليات العسكرية، وإصلاح البنية التحتية يستغرق وقتا، وعندما نعيد البناء سنرى”.

وأكد شيخ سني طلب عدم الكشف عن هويته أن “كتائب حزب الله تنشئ ملاذا على منوال جنوب لبنان لدى حزب الله، بعيدا عن سيطرة الدولة” خاصة أن جرف الصخر تقع في مكان إستراتيجي بين بغداد ومدينة كربلاء.

وخلصت مبعوثة لوموند إلى أن جرف الصخر حالة يمكن أن ترمز “للدولة داخل الدولة” التي تقوم الفصائل الشيعية العراقية ببنائها، والتحدي الذي تشكله بذلك للسلطة العراقية، مستفيدة من شبكتها في جميع مؤسسات الدولة، بحيث لم تبق منطقة خارج نفوذها.

اعلان
وتعتمد هذه الكتائب -حسب المراسلة- على عدد لا يحصى من وسائل الإعلام وعشرات النواب والوزارات الرقابية التي تضمن لها، داخل الشبكة الواسعة، من المحسوبية والفساد الذي ابتلي به العراق، حصتها من العقود العامة.

أنصار الفصائل الشيعية يرفعون لافتات مناهضة للولايات المتحدة (رويترز)
انتهاء الهدنة
ومنذ انتهاء الحرب ضد تنظيم الدولة، ووصول الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وانسحابه الأحادي من الاتفاق النووي الإيراني وإعادته فرض العقوبات على طهران، بدأت مرحلة جديدة من المواجهة على الأراضي العراقية بين ما يعرف بـ “محور المقاومة” بقيادة إيران، مع الولايات المتحدة وحليفتيها إسرائيل والسعودية، وانتهت الهدنة التي فرضها الصراع المشترك ضد تنظيم الدولة.

وشنت الفصائل الشيعية عشرات الهجمات على المصالح الأميركية في العراق، وكادت هذه المواجهة تتحول إلى حرب مفتوحة في قلب العاصمة العراقية قبل عام.

وردا على إرسال الفصائل الشيعية آلاف المؤيدين لمحاصرة السفارة الأميركية في المنطقة الخضراء نهاية عام 2019، دعا ترامب إلى توجيه ضربة موجعة إلى “محور المقاومة” عندما استهدفت غارة أميركية بطائرة مسيرة رتل سليماني والمهندس في 3 يناير/كانون الثاني 2020.

وعلى وقع الاغتيال المزدوج، اتفق المسؤولون الشيعة العراقيون على استنكار هذا “الهجوم على السيادة العراقية” وأصدر البرلمان قرارا غير ملزم، يطالب بانسحاب القوات الأجنبية من العراق، ويسعى الحرس الثوري والفصائل العراقية منذ ذلك الحين للانتقام بما يتناسب مع الخسارة التي تكبدوها.

ويصور السياسي العراقي مشعان الجبوري، وبشكل كاريكاتيري، قتل سليماني والمهندس، بأنه قتل الأب الذي “كان يشرف على المنزل مع ابنه الأكبر، ليبدأ أبناؤه الآخرون في التشاجر، في حين لا يتمتع الخال إسماعيل قآني بكاريزما الأب”.

وفي معركة الخلافة -كما تصفها الكاتبة- فرضت كتائب حزب الله نفسها، وأصبحت وحدة النخبة التي تضم 10 آلاف مقاتل رأس جسر للتوسع الإيراني، والجهة الوحيدة التي تنقل إليها طهران صواريخها وتقنياتها المتقدمة، وقد حصلت على إدارات عليا مثل المخابرات والصواريخ والوحدات الخاصة.

كتائب حزب الله العراقي اعترضت على تولي الكاظمي رئاسة الوزراء وتنتقد قربه من واشنطن (مواقع التواصل)
فصائل محمية
وتبقي كتائب حزب الله العراقي نفسها خارج الساحة السياسية التي تسيطر عليها الفصائل الشيعية الأخرى، حيث يلعب ائتلاف “سائرون” بزعامة الزعيم الشيعي مقتدى الصدر، وائتلاف “الفتح” في البرلمان بزعامة هادي العامري بأكثر من مئة نائب، دورا حاسما في اختيار رئيس الحكومة.

وقد اتفقت هذه الكتل على تعيين رئيس المخابرات مصطفى الكاظمي على رأس الحكومة، متجاهلين اعتراض كتائب حزب الله التي تنتقد قرب الكاظمي من واشنطن وتأييده للاحتجاجات الشعبية المناهضة للفساد، وتتهمه بلعب دور في الاغتيال المزدوج الذي ذهب ضحيته سليماني والمهندس، رغم نفيه لذلك.

وأدى اختيار هذا المرشح إلى كسر وحدة الفصائل الشيعية في مواجهة الاحتجاجات التي تهدد هيمنتها، ووصفها بأنها “مؤامرة مدبرة في الخارج” بعد أن خلفت حملتهم الشرسة ضدها 568 قتيلا و27 ألف جريح بين أكتوبر/تشرين الأول 2019 ومارس/آذار 2020، بحسب السلطات.

ويقول محمد نعيم وهو أحد قادة الاحتجاجات الذي أصبح مستشارا للكاظمي “نجحوا في إسكات المجتمع المدني، حيث قتل أو فر 85% من النشطاء البارزين. قتل 11 من أصدقائي”. ويضيف “من نحاربهم ليسوا عصابات المافيا، بل فصائل محمية في البرلمان والحكومة، تسيطر على وسائل الإعلام والشبكات الاجتماعية”.

وخلصت مبعوثة لوموند الخاصة إلى أن الدولة الآن تحت سيطرة الفصائل التي تهيمن على 50% من القرارات الأمنية والسياسية والاقتصادية. ويقول الصحفي سرمد الطائي إن الكاظمي لا يملك القوة الكافية لتقليص نفوذها، مشيرا إلى أن مقتل سليماني والمهندس شكل “ضربة كبيرة لهذه الفصائل، لكنها جعلتها أكثر خطورة”.

وفي ذكرى إحياء الذكرى الأولى لمقتل سليماني والمهندس، دعا قائد فيلق القدس الإيراني إسماعيل قآني إلى الهدوء، وقال المحلل السياسي سجاد جياد إن “للإيرانيين مصلحة في إنهاء دائرة العنف الآن بعد أن بدأ ترامب في الخروج من البيت الأبيض”.

ومن جانبه قال المتحدث باسم كتائب حزب الله محمد محيي “نستخدم كل الوسائل لإخراج الأميركيين، لكن الأمر متروك للحكومة أولا، لتنفيذ قرار البرلمان، وسنرى هل إدارة بايدن ستقوم بالانسحاب، وإلا ستنتهي الهدنة ونستأنف المقاومة”.

مصادر الدخل
ومنذ تعيينه في مايو/أيار، عين الكاظمي قادة من كبار الشخصيات الأمنية الموالية للدولة والمناهضة للفساد، غير أن ذلك -حسب مشعان الجبوري- نوع من “إعادة التدوير” خاصة أن رئيس الوزراء تعهد بوقف الأنشطة الاقتصادية غير المشروعة للفصائل الشيعية المسلحة واستعادة السيطرة على المراكز الحدودية غير الشرعية.

وكما يقول الجبوري “النية جيدة، لكنه لن يفعل، لأن الفصائل تستطيع إعادة إنشاء أي عدد تريده من المراكز الحدودية، حتى إن هناك خطوط أنابيب للنفط والغاز خارجة عن سيطرة الدولة” ويعدد مصادر دخل هذه الفصائل، من تهريب النفط إلى البناء والزراعة ومراكز التسوق، وغيرها.

ويشكك المراقبون في مدى التأييد الشعبي الذي يحظى به الكاظمي الذي قد يتيح له الفرصة لتتم إعادة توليه رئاسة الوزراء بعد الانتخابات المقررة منتصف يونيو/حزيران للوفاء بوعده بوضع كل الأسلحة تحت سلطة الدولة، ويرون أن إيران وحدها التي تقرر القيام بذلك، ولعلها ترغب في التفاوض مع بايدن، وإلا فاحتمال اندلاع حرب بين هذه الفصائل -كما يقول الجبوري- وارد، كما هي الحال بين عصابات المخدرات في أميركا اللاتينية.

المصدر : لوموند