غالبا ما يلجأ الصحافيون في نهاية العام او بداية العام الجديد الى جرد أهم الأحداث في بلدانهم والعالم. خطوة يرونها ضرورية لاستشراف المستقبل واستخلاص الدروس . خطوة تساعد، احيانا، وحسب موقع الصحافي ، على الدفع لتغيير مسار سياسي حكومي أو اتجاه عام . يؤثر على عملية الجرد ، وهي عملية انتقائية بالضرورة، مدى أهمية الخبر على بلد الصحافي اولا. ففي بريطانيا ، مثلا، اختار عديد الصحافيين ، على اختلاف توجهاتهم وايديولوجية الصحف التي يتعاملون معها، البريكست ، اي مغادرة اوروبا ، وانتشار كوفيد 19 كأهم حدثين أثرا وسيؤثران على مستقبل بريطانيا بالاضافة الى ما يسمونه التوسع والهيمنة الصينية الاقتصادية.
بالنسبة الى البلاد العربية ، من الصعب استشراف المستقبل استنادا الى حدث او حدثين. فاختيار الصحافي الغربي للأحداث يتم وهو يتمتع بالأمان الفردي والعام وحرية التعبير والاختيار. هذه الحرية والاستقلالية ، رفاهية يفتقدها ويحلم بها الصحافي في بلداننا. فكل ما يقوم به او يبحث عنه استقصائيا او يقوم بالتنبيه اليه خاضع للرصد والمراقبة ويعرض حياته للخطر. واذا حدث ولم يكن الرقيب جالسا في الصحيفة التي يعمل فيها أو يرصده عن مبعدة في إحدى الدوائر الوزارية – الأمنية ، فانه جالس حتما في عقل الصحافي. حيث بات حضوره، بمرور الوقت، أمرا مألوفا. كما الورقة والقلم والحاسوب، يحمله معه الصحافي، اينما كان. السبب الآخر لصعوبة انتقاء ما هو مهم، فعلا، خلال العام وبالتالي تمكين الصحافي من الكتابة عن انعكاساته المستقبلية هو كثرة الأحداث ( أو لعل الأصح القول بأنها كوارث) التي تمر بها بلداننا ، وتداخلها بحيث من الصعب تفكيك الاساسي من السطحي والاقتصادي من السياسي، والاجتماعي من القانوني، وحقوق الإنسان من الثقافي / الديني. الكل متداخل بشكل مربك تُسّيره الجهات الرسمية وفق أجندة حماية مصالحها الذاتية وديمومة بقائها. تضاف الى ذلك صعوبة تفكيك الأحداث المحلية المرتبطة بالوجود الأجنبي سواء بشكل احتلال استيطاني كما في فلسطين او هيمنة امبريالية تتصارع مع ميليشيات طائفية، مدعومة اقليميا، كما في العراق. واذا كان الحدث الاول المتفق على اختياره عربيا ، لعام 2020، هو وباء الكورونا ، وهو اختيار آمن، فان الاختيار الثاني وهو اعلان الإمارات والبحرين والسودان وسلطنة عمان والمغرب، الكشف عن علاقاتها، شبه السرية، مع الكيان الصهيوني واضفاء الصبغة الرسمية عليها، لم يحظ بالاجماع، لا لكونه حدثا لا يهم الشعوب، ولكن لاستشراس الأنظمة العربية المتزايد ، وتنويعها اساليب التخويف والترهيب.
ويشكل النظام العراقي « الجديد – الديمقراطي» ، بعيدا عن الدخول فيما يسمى منافسة الضحايا حول من هو الأكثر تعرضا للقمع، نموذجا جيدا يؤهله لاحتلال مكانة متميزة، توازي مكانته المتقدمة في قائمة الفساد، بين أنظمة الدول العربية المستشرسة في معاقبة شعوبها. وخلافا لما يجري الترويج له عن حرية التعبير في « العراق الجديد» ، تؤكد كل التقارير الحقوقية الدولية والمحلية ، أن الصحافي المستقل، والناشط الحقوقي، وكل مواطن يرفض التزام الصمت ازاء جرائم النظام، معرض للعقاب بأشكال ودرجات مختلفة. تبدأ بالتهديد والاعتداء الجسدي وتنتهي بالخطف أو الاغتيال . فكل الطرق مفتوحة والأبواب مشرعة حين يتمتع القتلة بالحصانة من المسؤولية والمقاضاة. مما يجعل العراق واحدا من البلدان الأكثر خطرا على الصحافيين والناشطين المستقلين، حسب عشرات التقارير الحقوقية. من بينها مركز الخليج لحقوق الإنسان، الذي وثق قائمة تضم 43 ناشطاً تعرضوا للتهديد بالقتل المباشر جنوب العراق عام 2020، مما اضطرهم جميعاً إلى مغادرة مدنهم. كما وثّق مرصد الحريات الصحفية (JFO) انتهاكات 2019، وقد بلغت» 477 انتهاكاً، منها 87 حالة احتجاز واعتقال، و98 حالة منع وتضييق، و32 حالة اعتداء بالضرب، و4 هجمات مسلَّحة، و243 ملاحقة قضائية، و4 حالات إغلاق ومصادرة، وإغلاق 4 قنوات فضائية. ولم تسلم هذه القنوات وغيرها من اقتحام الجهات المسلحة وتكسير معداتها والاعتداء على كوادرها بالضرب. كما سجّل العام مقتل تسعة صحافيين».
أثبت عالم الإنترنت أنه، بعبوره حدود البلدان، أكبر وأوسع من أن تحده قضبان السجن، وأن المواطن العادي لم يعد مجرد متلق للأخبار الجاهزة المؤدلجة
ان حجم ما يعيشه الصحافيون والناشطون، منذ عام 2003، وحتى اليوم، سواء تحت الاحتلال الأمريكي المباشر او غير المباشر بالتزامن مع « انتخاب» الحكومات، وتحكم المليشيات المدعومة ايرانيا بها وبالشارع، يجعلهم معاقين في أداء عملهم، وتحديد الأهم من المهم وفرز المهم من غير المهم، ونشر المعلومة الموثقة واضاءة المستور من الممارسات الحكومية والمجتمعية، أي المساهمة في نشر التوعية حول كل ما يدور في البلد . وهي مهمة تتطلب، بالاضافة الى الوقت والجهد الجسدي، تركيزا وتفرغا لايتاح لمعظم الصحافيين، وهم يعيشون دوامة انعدام حرية الحركة والتهديد أما بقطع الرزق أو الرأس.
وما يزيد من سوء الوضع هو استحداث النظام قوانين تشرعن ممارساته أمام العالم الخارجي، وتغطي حملة الاغتيالات المستهدفة للصحافيين والناشطين المستمرة من قبل القوات الأمنية والميليشيات، المسجلة دائما ضد مجهولين. آخرها مشروع قانون الجرائم الإلكترونية أو تقنية المعلومات، الذي جوبه بحملة معارضة شعبية وتضامنية من قبل منظمات عالمية من بينها « هيومان رايتس ووتش». اذ يتضمن القانون « مواد غامضة تسمح للسلطات بأن تعاقب بشدة أي شخص يكتب على الإنترنت تعبيرا ترى أنه يشكل تهديدا للمصالح الحكومية أو الاجتماعية أو الدينية». مما يعني ان القانون يماثل الى حد كبير، في تفسيراته المفتوحة، حسب الطلب، قانون 4 لمكافحة الإرهاب الذي يستخدم للادانة بالارهاب مرتكبي 42 فعلا ، مهما كانت صحة أو درجة خطورتها. ومن الواضح من قراءة مشروع القانون الجديد انه يستهدف من ينتقدون الأوضاع أو يتناولون الشؤون العامة للبلاد، او الذين ينشرون معلومات بغرض كشف ملفات الفساد، مما يعني إغلاق المتنفس الأخير لكل المواطنين ونصب قضبان السجون حول مواقع التواصل والرغبة بالحصول على المعلومة بعيدا عن الاعلام الدعائي الرسمي. وهي خطوة تتسم بالغباء حتى من منظور الأنظمة القمعية المستهينة، بلا حياء، بمواطنيها. فقد أثبت عالم الإنترنت أنه، بعبوره حدود البلدان، أكبر وأوسع من أن تحده قضبان السجن، وأن المواطن العادي لم يعد مجرد متلق للأخبار الجاهزة المؤدلجة.
إن تضييق حرية الحركة والتعبير الفعلي داخل العراق، وشرعنة العقاب قانونيا، ومقصلة التهديد المعيقة للبحث والاستقصاء لكشف الحقائق، تتطلب اللجوء الى الإنترنت أكثر فأكثر بوصفه ، اضافة الى فوائده، مساحة مفتوحة للتضامن العالمي ودعم قدرة الناشطين والصحافيين وكل المواطنين على النضال لإزالة « الرقيب» المنغرز، داخل العقول. ولتكن ردود الافعال على منظومة القمع ، عبر التضامن العالمي الشعبي، بالاضافة الى المظاهرات والاعتصامات، الحدث الأهم للسنوات المقبلة.
هيفاء زنكنه
القدس العربي