لم يكن العراق بحاجةٍ إلى مأساة جديدة على غرار الحريق الكارثي في مستشفى ابن الخطيب، للتأكد من صحة التصنيف والتوصيف الذي اشتهر به دوليا على مدى السنوات العشر الماضية كبلدٍ فاشل ومنكوب.
والبلدان الفاشلة في التعريف الأكثر بساطة، هي تلك التي تتمتع باستقرار أمني مقبول، أو تتوفر على حدٍ أدنى منه، مع وجود حكومة مركزية مُعترف بها دوليا، تتربع على شبكةٍ من مؤسسات الدولة وهياكلها ومواردها، ورغم ذلك كله تفشل هذه الحكومات بشكل ذريع وفاضح في إدارة البلاد، حتى في أبسط الأمور والملفات، مع بروز صعوبة حقيقية (ذات أبعاد وعوامل داخلية وخارجية مُعقدة) في تغييرها أو إقصائها عن المشهد، ما يفضي أخيرا إلى حالةٍ عامة من الفشل والإحباط.
وعلى الرغم من أن أياً من دول المنطقة، خاصة ذات الكثافة البشرية لا تُقدم نموذجا في حسن إدارة البلاد، وتأمين الخدمات العامة لمواطنيها بشكل يمكن الاستشهاد به، واعتباره رياديا على الصعيد الإقليمي، إلا أن الوضع الخاص الذي يتميز به العراق ولبنان، فاق في مآلاته ونتائجه ومضاعفاته، ما عداه من أوضاع مشابهة تمرّ بها بقية دول المنطقة، التي نجت، على الرغم من كل المصاعب الاقتصادية التي تواجهها، وأخطاء الإدارة والفساد، من نعتها بالدول الفاشلة على غرار العراق ولبنان، لتستقر في خانة الدول المتعثرة أو سيئة الإدارة. من المراجعة الأولى للمشهدين العراقي واللبناني، بكل ما يكتنفهما من تفاصيل، سيكتشف المرء أن هناك مرجعية ومنشأ واحداً ومشتركاً للوضع السياسي الراهن في البلدين، الذي يتحكم حاليا في إدارتهما، ويعتبر المسؤول الأوحد عن حالة الفشل والإخفاق الذريعين. ففي العراق اختارت الولايات المتحدة الأمريكية الدخول في «شراكة» غير معلنة مع جارة العراق إيران في إعادة صياغة وتوجيه الأوضاع في البلاد، في أعقاب الإطاحة بحكم الرئيس الأسبق صدام حسين، وكذلك فعلت الشيء نفسه في لبنان، عبر التحالف الشهير الذي جرى بعد عام 2006 بين حزب الله والتيار الوطني الحر، بزعامة الرئيس اللبناني الحالي ميشيل عون، وهو ترتيب كان لا بد منه لسد الفراغ الذي أحدثه الخروج السوري من لبنان، في اعقاب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري.
لم تكن الاستعانة الأمريكية بإيران في كلا البلدين اعتباطية، بل ناتجة عن عامل موضوعي فرض نفسه على «الشراكة» بين واشنطن وطهران، إن لم يكن في الأساس سبب في إيجادها، وكان عنوانه الأساس وجود طائفة شيعية كبيرة في البلدين العربيين، ارتأى صناع السياسية الأمريكية وواضعو استراتيجياتها على المديين البعيد والمتوسط ضرورة الاستفادة من وجودها وتجذرها على الأرض، بشكل يخدم أهداف السياسة الأمريكية في المنطقة، وتطلعات هذه السياسة إلى إعادة ضبط أوضاع المنطقة العربية بعد «بركان» الربيع العربي المفاجئ، الذي احتاج حسب التفكير الأمريكي إلى ظرف خطير وغير متوقع (على وزن فتنة طائفية كبيرة تعم المنطقة) لحرفه عن مساره، وإشغاله عن هدفه وصولا إلى إخماده لاحقا. كان للشراكة الأمريكية ـ الإيرانية بطبيعة الحال وكلاؤها ومتعهدوها في كل من العراق ولبنان، وهم الذين أنيطت بهم المهمات التنفيذية على الأرض، وهي في ظاهرها مسؤوليات حكومية تتعلق بتسيير شؤون الدولة والمجتمع، لكن هدفها الأساس الذي انشغلت عمليا في تحقيقه، تلخص في العمل الدائم على دفع الأوضاع الأمنية والطائفية في البلاد باتجاه معين يخدم الرؤية الأمريكية – الإيرانية، والأهداف الآنية وبعيدة المدى لكل منهما.
لم تكن التشكيلة الحاكمة في العراق ولبنان مؤهلة لتنفيذ مهمة إدارة الدولة بالقدر الذي سعت فيه لإنجاح المهام التي وضعت لأجلها في السلطة
من هنا لم تكن الطبقة أو التشكيلة الحاكمة، سواء في العراق أو في لبنان (وهي هنا إفراز للتفاهم الأمريكي ـ الإيراني) مؤهلة لتنفيذ مهمة إدارة الدولة ومرافقها في البلدين بالقدر ذاته الذي سعت فيه لإنجاح المهام التي وضعت لأجلها في السلطة. وقد أوجد هذا الوضع قناعة لدى رموز الحكم في العراق ولبنان باستحالة بقاء الأوضاع في البلدين على حالها، وبأن الظروف والتغييرات والتحالفات الدولية والإقليمية التي ساهمت في صعودهم، ودعمت وجودهم وسلطاتهم في البلدين لا بد أن تتغير، وبالتالي كان لا بد من اعتبار الوضع الراهن بمثابة فرصة أمام رموز الطبقة السياسية في البلدين للاستفادة الشخصية في جمع وتكوين الثروات والمغانم والامتيازات، في مقابل تخلٍ شبه كامل عن واجبات إدارة الدولة ومؤسساتها، خاصة الخدمية وحالة من عدم اللامبالاة، وهو ما أفرز بدوره حالة الشلل والفشل التي يعاني منها البلدان اللذان باتا رهينتين وضحيتين للإرادات والمصالح والرؤى الإقليمية والدولية.
طارق شوشاري
القدس العربي