على الرغم من أن الإعلام الأميركي أبرز تصريحات هنري كيسنجر وزير الخارجية الأسبق والأشهر، التي أدلى بها في ندوة فكرية أقامتها مؤسسة ماكين فإنها لم تحظ باهتمام دولي كافٍ، وبشكل يخالف الضجة التي كنا نعرفها في الماضي عندما كان الرجل يتحدث حتى بعد تركه العمل السياسي بعقود، ربما لأن الرجل تخطى السابعة والتسعين من عمره، أو ربما لأن الشواهد لا تشير إلى أنه لا يزال يتمتع بنفس النفوذ والحضور في الدوائر الفكرية والسياسية كما كان في السابق، مع أن هذه الرؤية في ذاتها مبهرة كونها تعكس استمرارية فريدة في التكوين الفلسفي والإدراكي للرجل وتستحق الانتباه والتحليل.
وصف الأكاديمي والدبلوماسي البارز الصين بأنها أكبر مشكلة للولايات المتحدة والعالم بأسره بسبب ضخامة القدرات الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية وبشكل يفوق بشدة حالة الاتحاد السوفياتي السابق الذي كان قوة عسكرية فقط، ولم يصل إلى القوة الاقتصادية والتكنولوجية التي وصلت إليها الصين. وأضاف أن التقدم التكنولوجي النووي والذكاء الاصطناعي يزيدان مضاعفة خطر نهاية العالم، وخلص من تشخيص هذه المعضلة إلى دعوة حكومة بلاده إلى أن تبقى حازمة في المبادئ وأن تطالب بكين باحترامها، مع الإبقاء على حوار مستمر وإيجاد مجالات للتعاون معها. إذن لا يريد كيسنجر أن تندفع بلاده في حرب باردة جديدة مشابهة لنظيرتها السابقة بين العملاقين الأميركي والسوفياتي، ويريد ضبط الصراع بما لا يتجاوز الخطوط الحمراء التي يصعب السيطرة عليها.
الرؤية الفكرية لكيسنجر
ربما لم يعد كثيرون يتذكرون الأساس الفكري الذي بنى عليه كيسنجر رؤيته لإدارة الصراع مع السوفيات في زمن ممارسته السياسة، ومفتاح هذه الرؤية هي بغرض التبسيط الشديد، هي الأمن والاستقرار، فيميز ما بين نظامين دوليين، نظام ثوري أو راديكالي، وآخر يصفه بأنه شرعي، في الأول يسود العنف والميل إلى المواجهة والحروب والتوتر وعدم الأمن، بينما يحدث الميل للسلام والعدل في النظام الشرعي، وعنده أنه حتى اللجوء للعنف لتصحيح ودرء العدوان والدفاع عن الذات، وفي كتاباته تأكيد على أن حالة التوازن في الشؤون الدولية هي بديل سلطة الدولة في الداخل، وحاول فيلسوف السياسة أن يطبق رؤيته الفكرية والأكاديمية خلال ممارسته المواقع التنفيذية كمستشار أمن قومي ثم كوزير للخارجية، كما حلل باحثون من ميدان علم النفس السياسي مضمون هذه الرؤية الإدراكية حول مفهوم التناسق أو الهارموني.
ولتبسيط مفهوم التناسق فهو يتكون عنده من ثلاثة عناصر، وهي: الاعتماد، والتكيف المشترك، والامتناع ويقصد به ممارسة التحكم في الذات، وكانت حسابات كيسنجر أن السوفيات لديهم تفوق كمي عسكري ولبلاده تفوق عسكري كيفي، وأنه بخلق الاعتماد المتبادل ممثل في اتفاقية الحد من الأسلحة الاستراتيجية “سولت 1” ثم “سولت 2″، ووقف التصرفات الأحادية، فإن هذا يقود للتوازن وإعادة الاستقرار، اللذين هما أحد المفاتيح الرئيسة في فكره.
كان البعض ينتقد أداء كيسنجر التفاوضي مع السوفيات من منطلق أنه تخلى عن دعواته الأكاديمية في الدفاع عن المؤسسية، وعندما مارس العمل التفاوضي والسياسي لجأ إلى ما عرف بالقنوات الخلفية، التي أصبحت من بعده توجهاً مؤثراً وخطيراً في عمليات التفاوض الصعبة، وهي ببساطة تجاوز صانعي القرار لكبار مفاوضيهم، واستكمال حل المسائل الصعبة في التفاوض خارج قنواته الرسمية، وهو ما فعله في اتفاقيات الحد من الأسلحة الاستراتيجية وكذا في مراحل من مفاوضات فيتنام، أما الذي دفعه لهذا فكان عدم ثقتة في نهج التصعيد عموماً فكان يخشى فشل رؤيته لاحتواء التصعيد، فالرجل يتحسب لمسائل غياب الاستقرار وعدم الأمن وارتفاع معدلات المخاطر، وهذا هو المفتاح الأساس الذي يفسر قلق كيسنجر وعدم تحبيذه التصعيد مع الصين، وليس ما طرحه البعض من أنه يسجل عدم ارتياحه لمخالفة النهج الذي بدأه بالانفتاح على الصين.
إن المسألة التي أمامنا ليست فلسفة سياسية فقط، أو تنظيراً في عالم يلهث بالأحداث والتطورات التي قد تبدو فيه هذه المسألة من قبيل الرفاهية، فالرجل امتداد لنظريات التوازن الدولي التي بدأت في القرن التاسع عشر. وفي ممارسته لعمله كان همه الأكبر هو تحقيق حالة التوازن، ويتجنب المخاطرات وهي من صميم الفكر المحافظ الذي يخشى ما يحيط بالفكر الراديكالي من عدم استقرار وتحولات. وفي عهده تحولت السياسة الأميركية من الاحتواء إلى الوفاق الذي كان خطوة نحو انهيار الاتحاد السوفياتي وانتصار الولايات المتحدة في هذه الحرب الباردة.
مواجهة أصعب من مواجهة السوفيات
من هنا نفهم انزعاج المفكر الكبير الذي يقترب من عامه المئة من أي سياسات جامحة قد تكرس عدم الاستقرار والخلل في الشؤون الدولية، فضلاً عن أنه وضع يده على مشكلة أعوص وهي أن قوة الصين تفوق الاتحاد السوفياتي، وأن الأخير انهار بسبب ضعفه الاقتصادي، بينما تقترب الصين من قوة الولايات المتحدة اقتصادياً وكذا في مسألة الذكاء الاصطناعي، ومن ثم فالمواجهة ستكون أصعب بكثير، فما بالنا إذا ما سببت حالة عدم استقرار وعنف منفلت حول العالم.
كما أن كيسنجر لم يناقش تفصيلاً جانباً آخر من صعوبات هذه المواجهة، وهي التداخل والاعتماد المتبادل الاقتصادي ما بين الصين والغرب، وبشكل خاص بين الصين والولايات المتحدة، وأى نتائج اقتصادية سيتعرض لها الطرفان، وكذا على العالم لو زادت إجراءات العداوة والحذر بينهما، وفي الحقيقة أنه لم يحدث في التاريخ حالة مشابهة لصدام قوتين عظميين بينهما هذه المصالح الاقتصادية المتداخلة.
دروس التاريخ
من ناحية أخرى، فإن كيسنجر الأكاديمي معروف عنه ولعه الشديد بالتاريخ وبمرحلة محددة من تاريخ الصراع الدولي، وهي مرحلة القرن التاسع عشر، والذي كان عدم الاستقرار وتحولات القوى وسعي أطراف عديدة للحلول محل الأخرى سبباً في تعدد الحروب وانتهائها بالحرب العالمية الأولى، التي قادت نتائجها إلى ظهور النازية والفاشية ووقوع الحرب العالمية الثانية. ومن ثم عند هذا المفكر المحافظ فإن المخاطرات الناتجة عن التصعيد ضد الصين تنطوي على مغامرات غير مأمونة العواقب، وأن الأفضل تطبيق سياسات الحوار المستمر والتفاهمات.
وبصرف النظر عن مدى أفضلية توجه كيسنجر مقارنة بتوجه إدارة ترمب أو نظيرتها الحالية التي تسير حتى الآن في مناخ التصعيد، وأي رؤية سيثبت التاريخ صحتها، فإنه يظل من المبهر الاستماع لحكمة سياسي وأكاديمي محنك يتمتع باستمرارية فريدة في توجهاته الفكرية والإدراكية تجاه قضايا الشؤون الدولية ومصالح بلاده عبر فترة زمنية طويلة.
محمد بدر الدين زايد
اندبندت عربي