على خطى ألمانيا واليابان… هل تنهض أميركا من جديد بعد كبوتها؟

على خطى ألمانيا واليابان… هل تنهض أميركا من جديد بعد كبوتها؟

على الرغم من أن ألمانيا واليابان انهزمتا في الحرب العالمية الثانية، فإنهما حققتا طفرة واسعة في النمو والتطور الاقتصادي خلال سنوات قليلة، في حين أن بريطانيا التي خرجت منتصرة من الحرب حققت نمواً بطيئاً. سيناريو مشابه لذلك يحدث الآن في الولايات المتحدة، فعلى الرغم من وباء “كوفيد-19″، وما سببه من اضطراب واهتزاز اقتصادي واجتماعي كبير في حياة الأميركيين، تشير كثير من الدلائل على أن طفرة اقتصادية وانتعاشاً مجتمعياً وشيكاً يطل برأسه الآن، فما هذه الدلائل، وكيف يمكن أن تعيد للولايات المتحدة صورتها كدولة قائدة في العالم؟

إزاحة مجموعات المصالح

يقول الخبير الاقتصادي الشهير مانكور أولسون، إن الركود الاقتصادي في الدول المتقدمة ناتج عن التكتلات وجماعات الضغط التي تصبح أكثر عدداً وقوة بمرور الوقت إلى أن تستنزف في نهاية المطاف الدينامية الاقتصادية للدولة، ويشرح أولسون في كتابه “صعود وانحدار الأمم” كيف أن ألمانيا واليابان عانتا من دمار واسع النطاق خلال الحرب العالمية الثانية، ولكن في السنوات التي أعقبت الحرب، شهد كلا البلدين نمواً اقتصادياً هائلاً أشبه بالمعجزة، في حين أن بريطانيا التي خرجت منتصرة من الحرب ومؤسساتها سليمة، دخلت بسرعة في فترة من النمو الاقتصادي البطيء الذي تركها متخلفة عن الديمقراطيات الأوروبية الأخرى.

تفسير ذلك، بحسب أولسون، هو أن النمو الفائق السرعة الذي أنجزته كل من ألمانيا واليابان يعود إلى أن نظام الدولتين القديم قد تعطل، وأدى الدمار نفسه وإعادة الإعمار وقوة الاحتلال الأميركية إلى إزاحة مجموعات المصالح التي أعاقت الابتكار، ومن ثم أزيلت الأنماط القديمة التي خنقت التجربة، وفتح الاضطراب مجالاً أوسع لبزوغ شيء جديد.

مخاض عسير

ويعتقد البعض في واشنطن أن شيئاً من هذا القبيل يحدث الآن في الولايات المتحدة، فقد عطل وباء “كوفيد-19” الحياة الأميركية اليومية بطريقة لم تشهدها حالات الطوارئ من قبل، لكنها أدت إلى خلق بيئة جديدة تولدت من مخاض عسير ومهدت الطريق نحو طفرة اقتصادية واجتماعية.

ففي الوقت الذي عانى فيه ملايين الأميركيين من خسارة فادحة وقلق بالغ أثناء هذا الوباء، كان كثيرون منهم يستخدمون هذا الوقت كفترة استعداد وتدريب، حتى يتمكنوا من العودة إلى العمل بكفاءة أفضل عندما ينفتح الاقتصاد، وبعد عقود من تباطؤ نمو مشاريع الأعمال التي تحرك الاقتصاد الأميركي، بدأت 4.4 مليون شركة جديدة العمل عام 2020، وهو رقم قياسي بمقاييس العصر الحديث، في وقت يشير بيان صادر عن إحدى الشركات التي تقدم دورات تدريبة عبر الإنترنت، إلى أن 38 في المئة من العاملين والموظفين تلقوا بعض التدريب الإضافي خلال عام 2020، ارتفاعاً من 14 في المئة فقط في عام 2019.

مؤشرات الانطلاق

بعد عقود من تفضيل الأميركيين الاستهلاك على الادخار، حصل الأميركيون على تريليونات الدولارات عبر سياسة التحفيز الاقتصادي الحكومية الفيدرالية خلال عام 2020، وبداية العام الجاري 2021 حينما كان الإغلاق مستمراً والاستهلاك محدوداً، ما ساعدهم على خفض ديونهم إلى أدنى مستوياتها منذ عام 1980 وأصبحوا في وضع يسمح لهم بالإنفاق ببذخ مع انفتاح الاقتصاد وعودة حركة الحياة إلى طبيعتها، وهو ما بدأ بالفعل خلال الأسابيع الأخيرة التي شهدت ارتفاعاً في الأسعار نتيجة الإقبال المحموم على الشراء.

لكن أكبر التحولات المنطقية تمثلت في تذكير ملايين الأميركيين خلال الوباء الذي خطف أرواح أكثر من 600 ألف شخص في الولايات المتحدة، أن الحياة قصيرة، فأصبحوا بعد معاناة من روتين يومي بطيء وعميق، مستعدين بدرجة أكبر لتغيير حياتهم بشكل أفضل.

اقرأ المزيد

هل تنجح أميركا في كبح عمالقة التكنولوجيا؟

بكين تدعو “الأطلسي” إلى الكف عن المبالغة بـ”نظرية التهديد الصيني”

نتائج قمة بايدن – بوتين ستحدد التهديد الأكبر لأميركا… روسيا أم الصين؟
والشاهد أن الاقتصاد الأميركي انطلق بالفعل، إذ من المتوقع أن يبلغ النمو الاقتصادي 6.6 في المئة هذا العام مقارنة بعام 2020، ومن المتوقع أن يستمر النمو القوي على الأقل حتى عام 2022، كما من المتوقع أن تستمر سوق العمل في النمو وفقاً لتقديرات شركات التوظيف التي تعتبر أن سوق العمل الحالية أفضل من أي سوق سابقة خلال السنوات الـ25 السابقة، في وقت يضخ فيه المستثمرون مزيداً من الأموال في مشاريع جديدة، فعلى سبيل المثال، ضخ المستثمرون 69 مليار دولار في الشركات الناشئة الجديدة في الولايات المتحدة خلال الربع الأول من هذا العام فقط، بزيادة 41 في المئة عن الرقم القياسي السابق المسجل عام 2018.

توازن مجتمعي

وفي ظل هذه المؤشرات، يبدو أن مناخاً جديداً ينشأ في البلاد من شأنه أن يعيد توازن المجتمع مرة أخرى من جوانب عديدة، فعلى سبيل المثال، بدأ ميزان القوة في التحول من أصحاب العمل إلى العمال، فمع دوران عجلة الاقتصاد، توسع التصنيع في الولايات المتحدة بأسرع وتيرة منذ ما يقرب من أربعة عقود، وأصبحت الشركات في حاجة ماسة لعمال جدد، وانخفض عدد العاطلين عن العمل، ووصل عدد العمال الذين تركوا وظائفهم لأنهم واثقون من قدرتهم على الحصول على وظيفة أفضل إلى أعلى مستوى له منذ عقدين، لدرجة أن أرباب العمل رفعوا سقف الأجور وأضافوا عدداً من المزايا في محاولة لجذب العمال للعودة إلى العمل.

ويتمثل ثاني الجوانب الاجتماعية التي أفرزها الوباء في التسريع من إعادة التوازن بين المدن والضواحي، والتي كانت جارية ببطء قبل سنوات، حيث انتقال الناس من المدن الكبرى مثل نيويورك وسان فرانسيسكو إلى الضواحي، وإلى الأماكن الريفية للحصول على عمل أو بسبب ضائقة اقتصادية، أو لكي تكون لديهم مساحة أكبر أو ليعيشوا حياة أبطأ إيقاعاً من حياة المدينة الصاخب، أو من أجل أن يكونوا أقرب إلى الأسرة كنوع من إعادة توازن بين العمل والحياة المنزلية.

من ناحية أخرى، اكتشف ملايين الأميركيين خلال عملهم عن بُعد في أثناء تفشي الوباء أنهم يحبون العودة للعمل من المنزل حيث يوفرون وقتاً ومالاً وإرهاقاً خلال تنقلاتهم العادية إلى العمل ذهاباً وإياباً، تماماً مثلما اكتشف بعض أرباب العمل أن بوسعهم تشغيل مزيد من الموظفين في بعض الأعمال عن بعد وتوفير الأماكن التي يشغلونها في العمل، ولهذا تتوقع بعض الدراسات الأخيرة أن عدد أيام العمل التي سيقضيها المرء في المنزل بعد الوباء سيرتفع إلى 20 في المئة مقارنة بخمسة في المئة في حقبة ما قبل الجائحة.

زيادة الإنتاجية

وإذا كانت أميركا تشتهر بالحركية والطاقة خلال العقود الماضية قبل أن تتباطأ هذه الحركية، وينخفض عدد الشركات الجديدة، فإن التحدي الذي عاشه الأميركيون خلال الوباء استدعى إجراءات ديناميكية وحركة وابتكارية غير مسبوقة، وارتفعت معدلات إنتاجية العمل إلى 5.4 في المئة خلال الربع الأول من العام الجاري وفقاً لمكتب إحصاءات العمل الأميركي، كما زاد معدل ساعات العمل ثلاثة في المئة مقارنة بالأشهر الثلاثة السابقة.

وبينما يبحث الأميركيون عن طرق لكسب المزيد من المال في وقت يعيشون حياة أكثر ارتباطاً بالعائلة والمجتمع، يشير أساتذة الدراسات الحضرية إلى أنه مع توزع سكان الولايات المتحدة في مناطق أوسع، من المرجح أن تتقلص الفجوات الاقتصادية والثقافية بين المدن الساحلية والمجتمعات الداخلية، كما أن تزايد عدد المهاجرين الذين يستقرون في المناطق الريفية والبلدات الصغيرة، قد يزيد القدرة التنافسية الاقتصادية ما سينعكس بالإيجاب على الاقتصاد الأميركي بشكل عام.

أسئلة المستقبل

ومع ذلك، تظل هناك أسئلة حقيقية حول أين سيكون الاقتصاد الأميركي بنهاية العقد الحالي، وهل ستظل الولايات المتحدة هي صاحبة الاقتصاد الأكبر في العالم، أم يمكن أن تتجاوزها الصين؟ قد تكون هناك إجابات متعددة لهذا السؤال وفقاً للمتغيرات والتبدلات التي يمكن أن تواجه كلاً من العملاقين الاقتصاديين خلال السنوات المقبلة، غير أن التقديرات الأخيرة للاقتصاد الأميركي تتوقع أن يظل الفارق لصالح الولايات المتحدة لمدة تتراوح بين خمس و10 سنوات، حيث من المتوقع أن يرتفع الناتج المحلي الإجمالي من 22.67 تريليون دولار العام الجاري إلى أكثر من 24 تريليون دولار، في حين سيتقدم الناتج الإجمالي المحلي للصين من 16.64 تريليون إلى 18 تريليون دولار.

وبحساب تعادل القوة الشرائية، تصبح الصين أكبر اقتصاد في العالم منذ عام 2014، ونظراً للارتباط الوثيق بين الاقتصادين الأميركي والصيني، فسيكون هناك تأثير متبادل مع أي تغيرات محتملة أو مواجهات منتظرة سواء كانت ذات أبعاد اقتصادية أو سياسية أو عسكرية، وعلى سبيل المثال، إذا انخفضت صادرات الصين إلى الولايات المتحدة بسبب الحرب التجارية التي بدأت في عهد الرئيس السابق دونالد ترمب ولم يغيرها الرئيس جو بايدن حتى الآن، فقد تشتري بكين عدداً أقل من سندات الخزانة الأميركية، نظراً لأن الصين هي ثاني أكبر مشتر للديون الأميركية، وإذا انخفض طلبها على شراء سندات الخزانة الأميركية، فقد ترتفع أسعار الفائدة الأميركية.

تأثيرات متبادلة

وعلاوة على ذلك، فإن أي تغييرات تجريها الصين كجزء من إصلاحها الاقتصادي ستؤثر على قيمة الدولار الأميركي بسبب استمرار ربط الصين عملتها اليوان بالدولار، ولكنها تخفف من هذا الربط في محاولتها للسماح لليوان بأن يصبح عملة عالمية.

وقد يؤثر التباطؤ في نمو الصين على الاقتصاد الأميركي بطرق غير مسبوقة، إذ من المرجح أن تؤدي أسعار الفائدة المرتفعة إلى زيادة تكلفة القروض للشركات والمستهلكين في الولايات المتحدة، كما أن التباطؤ في الصادرات الصينية قد يؤدي إلى زيادة الأسعار للمستهلكين الأميركيين لأن العمال الأميركيين يتقاضون رواتب أعلى مقابل عملهم مقارنة بأولئك العاملين في الصين.

تحد حتمي

لكن الاهتمام الأميركي المتزايد بالتصدي للمطامح الصينية المتصاعدة لمنافسة الولايات المتحدة بدأ يحدث تغييرات لم تكن مطروحة في السابق، فقد أقر بايدن قانوناً لضخ مليارات الدولارات للدفع بأبحاث التكنولوجيا المتطورة مثل الذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات وغيرها بهدف مواجهة التقدم الذي حققته الصين، كما تتجه الحكومة الأميركية لضخ ميزانية ضخمة من أجل البنية التحتية وعدد من المشاريع الصناعية التي تستهدف الدفع بالنمو الاقتصادي وزيادة الاعتماد على التصنيع في الولايات المتحدة.

ويرجح البعض أن واشنطن ستعمل على استخدام كل أدواتها السياسية والاقتصادية لتقليص اعتمادها على الصين تدريجياً، بينما تحاول تقليم أظافرها بالتعاون مع حلفائها في أوروبا وآسيا وأميركا اللاتينية، وهو ما سيبقي الولايات المتحدة في نهاية المطاف على رأس النظام الدولي كأكبر قوة اقتصادية في العالم.