احتفلت حكومة بكين يوم الاثنين بالذكرى المئوية للحزب الشيوعي الصيني، في بلد يحتل المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة من حيث عدد الأثرياء، فالصين تضم 5.8 مليون ثري من أصحاب الملايين، ويبلغ عدد الأشخاص الذين تفوق ثرواتهم 50 مليون دولار أكثر من 21 ألف مليونير.
وانضم قادة الحزب والدولة إلى نحو 20 ألف شخص لمشاهدة العرض الذي يحمل عنوان “الرحلة العظيمة” في الاستاد الوطني.
يصور هذا العرض الأسطوري الذي يضم أربعة أجزاء كيف قام الشعب الصيني، تحت قيادة الحزب الشيوعي الصيني، بالثورة والبناء والإصلاح على مدار فترة المئة عام الماضية.
وأشاد العرض بحقيقة أنه في “ظل القيادة القوية للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني وفي القلب منها الرفيق شي جين بينغ، منذ انعقاد المؤتمر الوطني الـ18 للحزب الشيوعي الصيني، دخلت الاشتراكية ذات الخصائص الصينية عصرا جديدا، وأن الصين تشرع في رحلة جديدة للبناء الكامل لدولة اشتراكية حديثة”.
عقب العرض ردد الحضور أغنية “دون الحزب الشيوعي، لن تكون هناك صين جديدة”. المعجزة الصينية لم تبدأ مع “الرفيق” بينغ، هي أقدم من ذلك بكثير. مهندس الانفتاح الذي أعلنت الصين عنه عام 1978 هو دينغ شياو بينغ، “الدكتاتور الحكيم”.
بعد مرور 43 عاما على انطلاق الانفتاح تمتلك الصين اليوم أكبر احتياطي من العملات الأجنبية، ويصنف الاقتصاد الصيني كثاني أكبر اقتصاد في العالم. ويعيش في الصين أكبر عدد من المليارديرات في العالم.
كيف أنجزت الصين معجزتها؟ وما حكاية “الدكتاتور الحكيم”؟
في عام 1920 ترك دينغ (مواليد 1904) قريته ورحل إلى ميناء شنغهاي، حيث تعلّم القليل من الفرنسية، فأتاح له ذلك الحصول على منحة دراسية في فرنسا، مع مجموعة من أقرانه.
“كان الشعور السائد في الصين حينها أن دولتنا ضعيفة، فأردنا أن نجعلها قوية، سافرنا إلى الغرب واحتملنا المتاعب لنتعلم”، وهذا ما حدث.. جعلوا من الصين دولة قوية. ولكن ليس دون ثمن.
كانت فرنسا تعاني من أزمة اقتصادية خانقة، فاضطر إلى قضاء خمس سنوات متنقلا بين أعمال بسيطة. وانضم في تلك الفترة إلى تنظيم البروليتاريا، وتعلم درسه الأول عن الشيوعية من عمال المصانع اليساريين. يسّر له ذلك السفر إلى موسكو لدراسة الماركسية اللينينية عام 1926.
عندما عاد إلى الصين نشط في الدعوة إلى أفكاره الجديدة بدعم من السوفييت. وفي أقصى الجنوب الصيني التقى ماو تسي تونغ، فنشأت بينهما علاقة قوية، بحلوها ومرها.
كان رفيق نضال وموضع ثقة مؤسس الصين الجديدة، لكن ذلك لم يكبح جرأته المعهودة، فأعلن خلافه معه. كان ماو تسي تونغ يفضل أن يبقى الصينيون “فقراء في ظل الاشتراكية، على أن يصبحوا أثرياء في ظل الرأسمالية”.
وكان رد دينغ على ذلك “الفقر ليس اشتراكية (…) لون القط لا يهم طالما يصطاد الفئران”. والصين اليوم مليئة بالقطط السمان، ومن مختلف الألوان.
لم يخف دينغ رفضه لشعارات الثورة الثقافية، وكلفه ذلك الإبعاد عن الحياة السياسية مطلع السبعينات من القرن الماضي، حيث وقع نفيه إلى صحراء شنغيانغ، وأجبر على القيام بأعمال تنظيف مقار اللجنة المركزية للحزب الشيوعي.
وأطبقت عليه أحداث ما بعد ماو، بصراعاتها ومؤامراتها، تبتغي كتم أنفاسه. ولكنه في كل مرة كان يثب ويبرز عاليا، إلى أن قدّر له في النهاية أن يقود دولة يسكنها خُمس سكان العالم. وتحت قيادته دخلت الصين منعطفا جديدا.
بدأ شياو بينغ عهده في الحكم بإرسال البعثات الطلابية إلى الغرب لتعلم الهندسة والاقتصاد والإدارة الحديثة، معتمدا على التكنوقراط في حلّ مشكلات الصين. فكان الطلاب خير نخبة يعتمد عليها في الصناعة والتطوير والانتقال من مجتمع زراعي بحت إلى مجتمع صناعي.
بعد عام 1985 أصبح معظم الفريق الحاكم من التكنوقراط، واليوم باتت المجموعة الحاكمة في الصين من أكثر السياسيين على مستوى العالم الذين يتم اختيارهم من بين النابغين في العلوم الهندسية والاقتصادية والإدارية.
ولا تزال الصين ترسل البعثات إلى نخبة كليات الاقتصاد والعلوم الهندسية في بريطانيا وفي الولايات المتحدة لاكتساب المعرفة.
وسرعان ما تغيرت الصورة في الريف والقرى. لم تعد هناك مجاعة ولا شح في مواد الطعام، بل صار البعض يملك من المال ما يكفي لبناء مسكن. وظل يدعو الصينيين إلى اقتناص الفرصة التي أتاحها لهم.
يعتبر الانتقال من الاقتصاد الموجه إلى اقتصاد السوق من أهم وأبرز إنجازات شياو بينغ.
ولكن الدولة التي بدأت نهضتها في ثمانينات القرن الماضي، بإطلاق إصلاحات اقتصادية مشجعة للسوق، تواجه معضلة ظهور طبقة كبيرة من الأثرياء ينفصلون بشكل كبير عن المجتمع.
الملياردير الصيني تشونج شانشان الذي يعرف بلقب “الذئب المنفرد” لابتعاده عن العمل السياسي أو مشاركة مشاهير رجال الأعمال، أضاف 13.5 مليار دولار إلى رصيد ثروته في أسبوع واحد فقط. ومنذ أن طرح أسهم شركة “بيجين بايولوجيكل فارمسي انتربرايز” للاكتتاب في أبريل 2020 تضاعف سعر السهم 28 مرة حتى الآن.
النجاحات الكبيرة المتتالية التي يحققها تشونج مكنته من إزاحة رجل الأعمال الهندي موكيش أمباني من على قمة أثرياء آسيا. واحتل تشونج المرتبة السادسة بقائمة الأكثر ثراء في العالم ليزيح الملياردير الأميركي وارين بافيت رئيس مجلس إدارة شركة بيركشير هاثاواي من مركزه.
وهو على وشك الانضمام إلى مملكة الأثرياء النادرة والذين تتخطى ثروتهم 100 مليار دولار، تفوق ثروته حاليا 91 مليار دولار.
على مدى عقود ارتبطت الصورة النمطية لأبناء الأثرياء في الصين بمظاهر البذخ والثراء الفاحش، والتي تظهر في نشر صورهم بجانب سياراتهم الـ”بنتلي” أو الـ”لامبورغيني”، وعرض رزم الأموال على مواقع التواصل الاجتماعي، أو تزيين حيواناتهم الأليفة بساعات آبل ذهبية.
بينما على الجانب الآخر هناك 600 مليون صيني يعيشون بدخل شهري يبلغ ألف يوان فقط (150 دولارا)، في الوقت الذي يبزغ فيه نجم ملياردير واحد على الأقل في البلاد كل أسبوع.
كل هذا البذخ كانت الحكومة الصينية تغض الطرف عنه، فالهدف هو تحقيق ثروة طائلة تتفوق بها على الولايات المتحدة غريم الصين التاريخي. وهذا ما فعله الحزب الشيوعي الصيني.
مؤخرا اختلف الوضع. فبالرغم من أن هذه الفئة الشابة من الأثرياء لا يزال أفرادها قادرين على امتلاك المنتجات الفاخرة والسلع باهظة الثمن، رأوا أن من الأجدى لهم الابتعاد عن الأضواء، بالأخص بعد استهداف الحكومة أصحاب المليارات في السنوات الماضية.
وتدرس السلطات الصينية منذ سنوات مقترحات لتقليل الفوارق الاجتماعية، مثل فرض ضرائب على الثروات والعقارات والميراث، ولكن لم يتم تطبيقها حتى الآن بسبب مخاوف إلحاق الضرر بالطبقة المتوسطة.
أي دور للحزب الشيوعي الصيني في كل ذلك؟
تقول “بلومبرغ” إن أبناء الأثرياء يدركون جيدا أنه لا مجال للعبث مع الحزب الشيوعي، وإن كان أغلبهم يستبعد أن تشرع الحكومة في مصادرة أموالهم، نظرا لتأكيدها أكثر من مرة على أهمية مشروعات ريادة الأعمال في تحقيق النمو.
الحزب الشيوعي الصيني اليوم لم يعد حزبا أيديولوجيا، بل هو حزب تكنوقراط وإداريين؛ مهمته مكافحة الفساد والحرص على عدم تحدي مشاعر الطبقة الوسطى والفقراء، وشعاره غير المعلن: إن ابتليتم بالثراء فاستتروا.
العرب