الأخبار والتقارير الواردة من طهران بشأن تأجيل المفاوضات النووية، ورفض مجلس الأمن القومي كل النتائج التي توصلت لها المفاوضات غير المباشرة مع الولايات المتحدة خلال الأشهر الماضية، تثير الكثير من المخاوف حول احتمالات الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط. هذه المخاوف قد تخيم على المنطقة لسنوات مقبلة، خلال فترة حكم الرئيس المنتخب إبراهيم رئيسي، وهو المرشح الأوفر حظا لتولي منصب القيادة المطلقة في إيران خلفا للمرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية علي خامنئي. هذه المخاوف لا تشمل المنطقة فقط، وإنما تمتد إلى أوروبا، التي تشعر بالقلق من قيام إيران بمواصلة تطوير برنامجها النووي، وتوسيع نطاق انتهاك بنود الاتفاق، كما تمتد أيضا إلى الولايات المتحدة التي اعترف فيها وزير الخارجية أنطوني بلينكن في شهادة أمام الكونغرس انه يشعر بالتشاؤم إزاء فرص عودة إيران إلى الاتفاق النووي. المخاوف على أشدها في الرياض وتل أبيب وواشنطن التي تبدو لا حيلة لها في مواجهة ما تصفه إسرائيل بالمماطلة الإيرانية في العودة للاتفاق، وما اعتبره روحاني رد الفعل الطبيعي على المتشددين في إسرائيل والسعودية وأمريكا الذين سعوا بشتى السبل لإفشال عودة الولايات المتحدة للاتفاق النووي. روحاني وجه اتهامات أيضا إلى البرلمان الإيراني الذي يسيطر عليه المحافظون.
إنتاج سلاح نووي في إيران لم يعد مسألة وقت وإنما هو قرار سياسي يتوقف إعلانه على المرشد الأعلى
وطبقا لتصريحات المتحدث الرسمي باسم الحكومة الإيرانية فإن استئناف مفاوضات فيينا سيتوقف حتى يتم تشكيل حكومة الرئيس المنتخب إبراهيم رئيسي، وهو ما يعني تأجيل الجولة السابعة لعدة أسابيع، قد تطول إلى شهر أكتوبر/تشرين الأول المقبل، حتى يكتمل تشكيل الحكومة ويصوت عليها البرلمان بالموافقة وزيرا وزيرا. خلال تلك الفترة من المرجح أن تواصل إيران برنامجها النووي بوتيرة أسرع حتى تضع الأطراف الأخرى أمام خيارات محدودة، وهو ما اعترفت به ورقة عمل لمعهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، أعدتها شيما شاين مديرة برنامج إيران في المعهد، ورئيسة قسم الأبحاث في جهاز الموساد سابقا.
وترى ورقة شاين أن أدوات الضغط على إيران المتوفرة لدى القوى الأوروبية الرئيسية (بريطانيا وفرنسا وألمانيا) قليلة جدا، وربما لا تتجاوز حدود فرض عقوبات إضافية. كما أن الضغط الدبلوماسي لاستصدار قرار من وكالة الطاقة الذرية ضد إيران على خلفية عدم التعاون، يعني تحويل الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن، حيث من المتوقع أن يصطدم هناك برفض شديد من كل من روسيا والصين. ولذلك فإن دراسة شاين تستنتج في النهاية أنه يتعين على الولايات المتحدة أن تستعد من الآن لاستخدام إجراءات ردع ضد إيران.
وفي هذا الصدد تقول شاين إن القيادة السياسية في طهران تتصرف بقناعة كاملة بأن الولايات المتحدة لن تقدم على أي عمل عسكري ضدها. وتضيف في الورقة أن الإدارة السياسية للولايات المتحدة حاليا ليس لديها بالفعل أي استراتيجية بديلة للمفاوضات. ويبدو أن الاستنتاج الضمني في الورقة هو أن مسؤولية تعطيل البرنامج النووي الإيراني أو وقفه تماما تقع على إسرائيل. لكن المعضلة التي تواجهها إسرائيل هنا، تأسيسا على نتائج المحادثات العسكرية والأمنية بين إسرائيل والولايات المتحدة، هي وجود قناعة لدى العسكريين الإسرائيليين بأن قوتهم العسكرية وحدها، بدون غطاء أمريكي لن تستطيع تحقيق الأهداف المطلوبة بتعطيل أو وقف البرنامج النووي الإيراني.
ويغيب عن ورقة العمل، التي نشرت في 20 يوليو/تموز الحالي تقييم المحاولات الأمريكية والإسرائيلية السابقة لتعطيل البرنامج النووي الإيراني أو إصابته بالشلل. ففي أيار/مايو 2018 قرر الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي، وقت أن كانت إيران تلتزم بكل نصوصه، لكن القرار الأمريكي أدى إلى ارتفاع مخزون اليورانيوم المخصب في مايو/ايار الماضي إلى 3241 كيلو غراما مقابل 202.8 كيلو غرام التزمت بها إيران حتى مايو 2018 حسبما ينص الاتفاق، وهو ما يعنى أن إيران نجحت خلال أقل من 3 سنوات في مضاعفة مخزون اليورانيوم المخصب 15 مرة.
كذلك ردت إيران على انسحاب الولايات المتحدة برفع نسبة تخصيب اليورانيوم. حتى مايو/ايار 2018 كانت إيران تنتج اليورانيوم المخصب بنسبة لا تتجاوز 3.67 في المئة. لكنها بعد الانسحاب رفعت نسبة التخصيب إلى أعلى من 5 في المئة، ثم إلى 20 في المئة، ثم إلى 63 في المئة حسب تقارير الوكالة الدولية. وطبقا لتصريحات روحاني التي تكررت خلال الفترة من أبريل/نيسان إلى يونيو/حزيران من الشهر الحالي فإن إيران لديها القدرة الآن على تخصيب اليورانيوم إلى درجة 90 في المئة، وهي نسبة التخصيب المطلوبة لإنتاج سلاح نووي.
جدير بالذكر، وعلى أساس متابعة تصريحات القيادة الإيرانية، وتدقيقها بتقارير الوكالة الدولية، فإن إيران لا تعلن قدرتها على زيادة التخصيب إلا بعد أن تكون قد أنتجت فعلا اليورانيوم بالنسبة الأعلى المستهدفة. وعليه، فإن إيران هي الآن على الأرجح تنتج فعلا اليورانيوم المخصب بنسبة 90 في المئة، وهو ما يضع الولايات المتحدة وإسرائيل أمام معضلة أصعب تجاه محاولة تعطيل أو وقف البرنامج النووي الإيراني. ويجب أن نلاحظ أن رفع مستوى التخصيب إلى 60 في المئة جاء ردا على محاولة إسرائيل تخريب المفاعل النووي في نطانز، ثم يجيء قرار رفع التخصيب إلى 90 في المئة، ردا على الموقف الأمريكي المتعنت بخصوص رفض التراجع عن كل العقوبات التي فرضها ترامب.
كما أن عدد أجهزة الطرد المركزي في نهاية مارس/آذار الماضي وصل إلى 5930 كانت قيد التشغيل فعلا في المنشآت النووية الإيرانية المسجلة رسميا. وقدرت المخابرات الإسرائيلية في أبريل/نيسان الماضي أن محطة «فوردو» يعمل فيها حوالي 1000 جهاز طرد مركزي من طراز متقدم، قادرة على تخصيب اليورانيوم إلى نسبة 60 في المئة. لكن الأهم من عدد أجهزة الطرد المركزي هو أن إيران استطاعت تطوير أكثر من جيل جديد من الأجهزة، ويتميز كل جيل جديد عن الجيل السابق بسرعة فصل اليورانيوم، والقدرة على تخصيب اليورانيوم إلى درجات تخصيب أعلى. وكانت إيران حتى أيار/مايو 2018 تستخدم أجهزة من طراز اي ار-1، لكنها استطاعت خلال السنوات الثلاث الأخيرة تطوير أجهزة أكثر تقدما تشمل طرازات اي ار- 2 ، 4، 6، 8 وأعلن روحاني في أبريل/نيسان الماضي التشغيل التجريبي لأحدث الأجهزة من طراز أي ار-9.
وطبقا لتقديرات مسؤولي الوكالة الدولية للطاقة الذرية فإن المستوى الحالي لدرجة تخصيب اليورانيوم في إيران يعادل تقريبا نظيره في الدول المنتجة للأسلحة النووية. ومن المرجح أن تصبح سياسة رئيسي أكثر تشددا بالنسبة لمفاوضات فيينا. وعلى ضوء توجيهات المرشد الأعلى خامنئي في أول مارس/آذار الماضي، فإن الوكالة الإيرانية للطاقة الذرية يجب أن تنتج 120 كيلو غراما من اليورانيوم المخصب بنسبة 20 في المئة خلال عام. وقال علي أكبر صالحي رئيس الوكالة إنه يتم الإنتاج بمعدل 26 كيلو غراما شهريا. وفي 16 يونيو/حزيران الماضي أعلن علي ربيعي المتحدث باسم الحكومة الإيرانية بأن إيران بدأت إنتاج اليورانيوم المخصب بنسبة 60 في المئة، وأن الكمية التي تم إنتاجها حتى ذلك الوقت قد بلغت 6.5 كيلو غرام، بالإضافة إلى وصول كمية اليورانيوم المخصب بدرجة 20 في المئة إلى 108 كيلو غرامات، وهذه الأرقام تتجاوز ما كانت الوكالة الدولية قد أعلنته في 22 مايو/ايار من أن مخزون اليورانيوم المخصب بنسبة 60 في المئة يبلغ 2.4 كغم، بينما مخزون اليورانيوم المخصب بنسبة 20 في المئة يبلغ 62.8 كغم.
وإذا كانت اللجنة الإيرانية المشتركة لتقييم نتائج مفاوضات فيينا الأخيرة قد توصلت إلى قرار برفض نتائج المفاوضات على أساس تعارضها مع القانون الذي كان البرلمان قد أصدره بشأن رفع العقوبات الأمريكية وشروط العودة للاتفاق النووي، فإن هذا القرار سيصبح حجر الزاوية لسياسة حكومة رئيسي المقبلة، وهو ما سيقذف بالمفاوضات إلى فضاء مجهول، تجد فيه الولايات المتحدة وإسرائيل نفسيهما أمام واقع نووي جديد في إيران، يعلن بوضوح أن إنتاج سلاح نووي في إيران لم يعد مسألة وقت، بل هو قرار سياسي يتوقف إعلانه على المرشد الأعلى. وإذا كانت إيران قد نجحت في الانتقال إلى المستوى الحالي في قدراتها النووية تحت الحصار وسياسة الضغوط القصوى، فإن أي قرار غاشم باتخاذ إجراءات عسكرية مكشوفة ضدها، سواء من جانب إسرائيل أو الولايات المتحدة، سوف يعجّل باتخاذ قرار بإنتاج سلاح نووي.
‘إبراهيم نوار
القدس العربي