نشرت منظمة هيومان رايتس ووتش في تقرير أخير لها صدر يوم 11 آب/ أغسطس أن «الجيش العراقي» قد قام بإجلاء 91 عائلة من قرية «العيثة» في محافظة صلاح الدين منتصف شهر تموز/ يوليو المنصرم «دون إشعار مسبق ودون تقديم أي مبرر أو أمر قانوني» وأرغمهم على الانتقال إلى مخيم للنازحين في محافظة نينوى (مخيم الجدعة) ولم يسمح لهم بإحضار أي شيء من ممتلكاتهم. إلى هنا يبدو الأمر اعتياديا في سياق استثمار الحرب على داعش لرسم خرائط جديدة على الأرض، لكن الجديد أن هذا النزوح القسري الجديد لم يكن سوى «نزوة» كما سماها التقرير، لوزير في الحكومة العراقية، وأنه يتعلق بنزاع عائلي! إذ يتحدث التقرير عن زواج أخي الوزير من أرملة عضو سابق في داعش وهو ما جعل الوزير يتخذ هذا القرار، لينفذه الجيش بكل سلاسة!
خلال السنوات الماضية كانت المنظمات الدولية تنشر تقاريرها التي توثق انتهاكات حقوق الإنسان في العراق، وطوال هذه السنوات كان ثمة تواطؤ دولي رسمي على السكوت عن هذه الانتهاكات، بل وصل الأمر في منظمات الأمم المتحدة نفسها إلى أن تكون طرفا في هذا التواطؤ الجماعي!
اتهمت المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان في جلسة طارئة عقدت في جنيف في الأول من أيلول/ سبتمبر 2014 طرفي الصراع، داعش وقوات الحكومة العراقية، بارتكاب أعمال قد ترقى إلى جرائم الحرب. كما أن مراجعة تقارير بعثة الأمم المتحدة في العراق (يونامي) تكشف عن عشرات الاتهامات الموثقة والموجهة إلى القوات الحكومية بمختلف صنوفها، بارتكاب جرائم واسعة النطاق في سياق الحرب على داعش وهي جرائم صنفت بأنها ضد الإنسانية وترقى لأن تكون جرائم حرب، لكن الأمم المتحدة عندما أصدرت قرارها المرقم 2379 الصادر في 21 أيلول/ سبتمبر 2017 تجاهلت كل ذلك وقامت بتشكيل فريق تحقيق دولي (يونيتاد) فيما يتعلق بـ «جمع وحفظ وتخزين الأدلة في العراق على الأعمال التي ترتكبها داعش» حصرا ونسيت الطرف الآخر !
بعيدا عن المنظمات الدولية، ظلت حالة الإنكار المنهجي هي الوسيلة الوحيدة التي تعتمدها الدولة العراقية بكامل سلطاتها ومؤسساتها، وليس الحكومة وحدها، مع الجرائم الموثقة التي ارتكبت في سياق الحرب على داعش. مع ما يترتب على حالة الإنكار المنهجي هذه من تواطؤ مع مرتكبي هذه الجرائم عبر الحصانة التي توفرها لهم الدولة للإفلات من العقاب، هكذا يتعمد الجميع تجنب استخدام عبارة «الاختفاء القسري» التي حدثت على نطاق واسع في المناطق التي شهدت المعارك ضد التنظيم، و استخدام مفردة «المغيبين» التي لا معنى قانوني لها، ولا وجود لها أصلا في المدونة القانونية العراقية او الدولية، وقد تحول هذا الإنكار إلى محاولة طمس معلم الجريمة نفسها، لمجرد ان عبارة «الاختفاء القسري» تحمل اتهاما ضمنيا للقوات الرسمية بارتكاب هذه الجرائم! فبموجب الاتفاقية الدولية لحماية الأشخاص من الاختفاء القسري 2006 يُعرف الاختفاء القسري بأنه: «الاعتقال أو الاحتجاز أو الاختطاف أو أي شكل من أشكال الحرمان من الحرية يتم على أيدي موظفي الدولة، أو أشخاص أو مجموعات من الأفراد يتصرفون بإذن أو دعم من الدولة أو بموافقتها، ويعقبه رفض الاعتراف بحرمان الشخص من حريته أو إخفاء مصير الشخص المختفي أو مكان وجوده، مما يحرمه من حماية القانون».
كوتيشن: ظلت حالة الإنكار المنهجي هي الوسيلة الوحيدة التي تعتمدها الدولة العراقية بكامل سلطاتها ومؤسساتها، وليس الحكومة وحدها، مع الجرائم الموثقة التي ارتكبت في سياق الحرب على داعش
وإذا كان الإنكار المنهجي المستخدم مع حالات الاختفاء القسري، والإعدام خارج نطاق القانون، وغيرها من الجرائم، قابلا للتسويق، فان جرائم أخرى من بينها النقل القسري للسكان أو منعهم من العودة إلى ديارهم، يصعب تسويقها، بسبب استمرار وقائعها على الأرض، ومع هذا ثمة «تغافل» دولي غير مسبوق فيما يخص هذا الموضوع، في مقابل «تسويغ رسمي» تمارسه الدولة العراقية لفرض الأمر الواقع!
ولم تنته عمليات رسم الخرائط الجديدة التي أُعدت على الأرض، في سياق استثمار الحرب على داعش؛ فثمة خرائط أخرى لا تزال ترسم، وهي تتطلب، بالضرورة، إزاحات سكانية/ تغيير ديمغرافي، ومن ثم «وقائع» تسوّغها، مثال ذلك ما يحاول الفاعلون الأقوياء على الأرض تثبيته من خرائط افتراضية جديدة تتعلق بمناطق شمال بغداد وصولا إلى مدينة سامراء شمالا، مع «مجال حيوي» يتجاوزها بالضرورة، وبالتالي ثمة عمل منهجي بنقل هذه الخرائط من الافتراض إلى الواقع!
عندما يتاح للسيد للوزير أن يرتكب جريمة ضد الإنسانية (بموجب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية 1998 تعد جريمة إبعاد السكان او النقل القسري للسكان جريمة ضد الإنسانية) بإزاحة سكان قرية بأكمها، كما جاء في التهديد الذي نقلته هيومان رايتس ووتش عن «ابن» السيد الوزير المنشور على فيسبوك، في ظل صمت وتجاهل الدولة بأكمها، فلك عزيزي القارئ ان تتخيل ما الذي يمكن أن تفعله ميليشيات مسلحة، ومحصنة، ومغطاة سياسيا واجتماعيا، في هذا السياق!
وحين ينشر موظف بمنصب مدير في الدولة العراقية، وهو لايزال في وظيفته، منشورات علنية على فيسبوك وتويتر، ويكرر كلامه في لقاءات تلفزيونية، يطالب فيها باعتماد نموذج التغيير الديمغرافي الذي تم اعتماده في «جرف الصخر» (منطقة نزح منها عشرات الآلاف من السكان عام 2014، ومُنعوا بتواطؤ رسمي من العودة اليها على مدى أكثر من ست سنوات) في مناطق أخرى كمنطقة «الطارمية» شمال بغداد، وينظر لمفهوم «المناطق منزوعة السكان» دون ان يفكر أحد في الدولة العراقية في مساءلته حول هذا التحريض العلني على ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، فلك سيدي القارئ أيضا أن تتخيل الهوة التي لا قرار لها التي تجذب حقوق الإنسان اليها في العراق!
يحيى الكبيسي
القدس العربي