تطرح مسألة الانسحاب الأمريكي-الأطلسي (المدروس والمحسوب) من أفغانستان وسرعة سيطرة حركة طالبان على السلطة فيها الأسئلة والاستنتاجات المتناقضة في آن!
الصين وروسيا وإيران أبدوا في تصريحات رسمية وشبه رسمية ارتياحاً لخروج القوات الأمريكية والأطلسية من أفغانستان، والانهيار السريع لحكومة عبد الغني وعودة طالبان إلى السلطة، معتبرين أن في ذلك هزيمة لعدوهم المشترك أمريكا بعد عشرين سنة من احتلالها لهذه البلاد التي تقع على حدودهم، من الغرب الصين، من الشرق إيران، ومن الجنوب روسيا.
وفي حقيقة الأمر أن هذا الانسحاب للقوات الأمريكية-الأطلسية جاء استجابة لمتطلبات الاستراتيجية الأمريكية الهادفة إلى استعادة دورها في قيادة العالم وفق «الدوكترين» التي أرسى أسسها الرئيس باراك أوباما ممثلاً أجهزة الدولة العميقة ومعبراً عن خيار الحزب الديمقراطي منذ العهد الأول لإدارته، وتتابع اليوم إدارة بايدن استكمالها. وترتكز هذه الاستراتيجية على تحقيق الأهداف التالية :
– الخروج من الحروب المباشرة.
-إيلاء الأهمية للتنمية وتطوير الاقتصاد الأمريكي.
-فرملة تقدم الصين وإشغالها واستنزافها باعتبارها المنافس الاقتصادي الأول لها.
-تحجيم الدور الروسي عبر استنزافها أمنيا واقتصادياً وإعاقة تحالفها مع الصين.
-إحياء وتقوية الحلف الأطلسي.
من هذه الخلفية كان قرار إدارة أوباما بالانسحاب من العراق ومن ثم من أفغانستان واستكملت هذه الخطوة بمفاوضات مع حركة طالبان تابعتها أيضاً إدارة ترامب التي تبنت خيار الخروج من الحروب المباشرة، وتوجت بتوقيع اتفاق سلام مع حركة طالبان في الدوحة بتاريخ 29 شباط/فبراير 2020. وأعلنت إدارة بايدن تنفيذه باستكمال سحب جميع القوات العسكرية الأمريكية والأطلسية من أفغانستان قبل حلول 11/9/2021 أي قبل وقوع الذكرى العشرين لهجمات القاعدة على برجي التجارة في نيويورك. وبذلك تزعم الخطة، يتوقف بذل الأراوح الأمريكية في هذا الميدان والتي بلغت 2400 ضحية من الجنود والمدنيين الأمريكيين. وكذلك يتوقف الاستنزاف المادي لتغطية تلك الحرب والتي بلغت حوالي 2 تريليون دولا أمريكي.
إذاً، هل الانسحاب من أفغانستان هو وسيلة أم غاية في الخطة الأمريكية؟
يبدو أن الانسحاب من أفغانستان للوهلة الأولى بالنسبة للبعض يمثل تراجعاً للدور الأمريكي عَلى المستولى العالمي، خاصة مع استكمال إدارة بايدن مسيرة سابقتها بالتركيز على الشؤون الداخلية وفي طليعتها إنقاذ الاقتصاد المترنح بسب الركود الناجم بدرجة كبيرة عن تأثير جائحة كورونا العالمي. لكن يحضرنا في هذا المجال مثال سابق يستفاد منه للإضاءة على ما يجري في أفغانستان اليوم، وهو العراق. فبعد انسحاب القوات الأمريكية من العراق عام 2011 عادت إليه في العام 2015 وبطلب من الحكومة العراقية بذريعة محاربة داعش .
ومع سيطرة حركة طالبان على الحكم، وإن بادرت قياداتها إلى التصريح لطمأنة الجيران والمجتمع الدولي أنها تتطلع إلى علاقات ودية وسلمية مع الجميع، بما في ذلك إبداء الإستعداد للحوار مع أفرقاء حكومة عبد الغني الذين فروا إلى خارج البلاد، غير أن الجميع على دراية بالتركيبة العشائرية للمجتمع الأفغاني وأنه من غير المستبعد عودة الفوضى والحرب الأهلية على أوسع نطاق إلى هذه البلاد. وهنا يطرح السؤال: هل ما يجري اليوم هو خروج لجنود الاحتلال من الباب للعودة إليه أو إلى البلدان المحيطة من الشباك؟
هل هي فرصة أم خطة للتسلل الأمريكي إلى جوار الصين وروسيا؟
سعت الولايات المتحدة دائماً للتواجد في هذه المنطقة وغايتها الأساسية الاقتراب من منطقة نفوذ غريميها الكبيرين، الصين وروسيا لمضايقتهما واستنزافهما في عقر داريهما. إذ تحتل هذه المنطقة الحدود الغربية للصين، والحدود الجنوبية لروسيا، فضلاً عن تموضعها على الحدود الشرقية لإيران.
لقد ساهم الحضور الأمريكي في هذه المنطقة بعد اجتياح أفغانستان بأعقاب أحداث أيلول في التقريب بين بكين وموسكو بقصد أو بغير قصد، ودفعهما لتنسيق الجهود بينهما لمواجهة وتحجيم فعالية هذا الحضور. لكن ذلك لم يلغ الجهود الأمريكية لتحويل معظم دول آسيا الوسطى المأزومة سياسياً واقتصادياً إلى أداة ضغط في يد واشنطن عليهما، فنجحت حيناً وفشلت أحياناً. ولم تتردد الخارجية الأمريكية يوماً في الإعراب صراحة، أن من أهداف واشنطن في هذه المنطقة، هي مواجهة مشروع طريق الحرير، في إشارة إلى الطريق الذي ربط الصين قديماً بآسيا الوسطى، ومنها إلى منطقة الشرق الأوسط، ليتفرّع عبرها شمالاً إلى القارة الأوروبية وجنوباً إلى أفريقيا، هذا الطريق الذي تعمل الصين اليوم على إعادة إحيائه تحت إسم مبادرة «الحزام والطريق». المبادرة التي تتميز بأهميتها الحيوية من الناحية الاقتصادية بالنسبة إلى الصين في تصريف بضائعها ومنتجاتها الصناعية من جهة، وضمان حصولها من جهة ثانية على احتياجاتها من الإمدادات من مواد الطاقة من دول آسيا الوسطى الواقعة إلى الغرب منها، مثل تركمانستان وكازاخستان وبشكل خاص إيران، التي وقّعت معها بكين في آواخر أذار/مارس 2021 اتفاقية للتعاون الاستراتيجي لمدة 25 عاماً.
ساحة صراع
فهذه المنطقة إذاً تشكل ساحة صراع آخرى تتوخى أمريكا فيها إزعاج الصين إضافة إلى إزعاجها في الساحة الأقرب والأكثر أهمية بالنسبة لأمن الصين السياسي والاقتصادي التي تمثلها منطقة جنوب شرق آسيا، «تايوان وبحر الصين الجنوبي» . يقول موقع «يو أس نيوز» في تعليق على علاقة الصين بأفغانستان، إن الصين تعتبر أفغانستان بعد الانسحاب الأمريكي-الأطلسي منها «منطقة عمياء» في حملتها لقمع المتشددين في إقليم شينجيانغ المضطرب، الذي يُحد أفغانستان من شمال غرب البلاد وتعتبرها أيضاً عقبة محتملة أمام استثماراتها الاقتصادية في المنطقة. وعلى الرغم من القلق الصيني من أن تصبح أفغانستان ملاذاً آمناً للجماعات الصينية المتشددة بعد سيطرة طالبان والتي قدمت دائماً الدعم لمثل هذه الجماعات في شينجيانغ، إلا أنها أبدت انفتاحاً تجاه إقامة علاقات مع الحركة. شوون روبرتس، الاستاذ في جامعة واشنطن الأمريكية، يعلق في صحيفة «واشنطن بوست» عن هذا الأمر قائلاً: أن طالبان قد تعد الصين بأنها لن تسمح لمسلحي الإيغور بمهاجمة المشاريع أو المؤسسات الصينية، لكن «السؤال الذي سيبقى هو ما إذا كان بإمكان طالبان السيطرة على كل فرد؟».
إن للصين مصالح اقتصادية في أفغانستان أكثر من روسيا، فالصين استثمرت مليارات الدولارات في تطوير بنى تحتية في باكستان المجاورة كمرساة لمشروع «الحزام والطريق» الذي استفاد من الوجود الأمريكي في أفغانستان. أما قرار الولايات المتحدة بالانسحاب من أفغانستان قد دفع خطط الإستثمارات الصينية في المنطقة إلى «حالة عدم اليقين» وأصبحت المشاريع الصينية معرضة لخطر انتشار العنف في أفغانستان .
بالنسبة لروسيا غني عن القول ما شاب العلاقات الروسية مع طالبان من قلاقل ونزاعات في حقبة الغزو السوفييتي لأفغانستان الذي استمر عشر سنوات في ثمانينات القرن الماضي. حيث تقول بورشفسكايا المحللة المختصة بالشأن الروسي، أن روسيا مهتمة في ملء الفراغ الذي تركته الولايات المتحدة، لكن الرئيس بوتين مهتم أكثر بالخطاب المعادي للولايات المتحدة أكثر من محاولة مواجهة الإرهاب، فطالبان مصنفة بالفعل منظمة إرهابية في روسيا، إلا أن هذا لم يمنعها من بناء علاقات معها. وبالتأكيد ما تريده موسكو هو منع انتقال حالة عدم الاستقرار في أفغانستان إلى آسيا الوسطى، وهي جزء من الاتحاد السوفييتي السابق وتعتبرها حديقتها الخلفية، وكذلك ألا تصبح أفغانستان نقطة انطلاق للجماعات الإسلامية المتشددة الأخرى، وإن كانت أفغانستان ليست تهديداً حدودياً مباشراً لروسيا لأنها لا تملك حدوداً مباشرة معها على خلاف الصين وإيران، لكن لروسيا مصلحة في استقرار الدول المحيطة بها في وسط آسيا وهي دول ضعيفة وهناك جماعات وفصائل قد تستغل الموقف، وهو ما تنظر إلى توظيفه في خدمة أهدافها الولايات المتحدة الأمريكية في مواجهة موسكو.
حالة الفوضى
ما هي إمكانية أن تصدّر أفغانستان عند دخولها في حالة الفوضى، المنظمات الإسلامية المتطرفة إلى بلدان الجوار في آسيا الوسطى والصين وإيران؟
من الأعراق آلتي يتكون منها المجتمع الأفغاني، العرق الطاجيكي، الأوزبكي، وعرق البلوش، وفي ظل الفوضى التي يمكن أن تنشأ أو قد تدفع اليها أمريكياً تحت حكم طالبان، من غير المستبعد أن تنتقل مجموعات طاجيكية إلى جمهورية طاجيكستان المأزومة المجاورة وتحرك أتباعاً لها في هذه البلاد وتدفعهم للتأسيس إلى إمارة إسلامية طاجيكية على غرار إمارة أفغانستان، وتقوم أيضاً مجموعات العرق الأوزبكي في أفغانستان بالتسلل إلى جمهورية أوزباكستان وتدعو لإمارة إسلامية فيها، لو دبت الفوضى في البلدين يمكن أن تعمم على الجوار وبما في ذلك قد تمتد إلى إقليم القوقاز الروسي ذو الأكثرية الإسلامية في الشيشان وداغستان وأوسيتيا، وأيضاً إلى الداخل الروسي حيث يوجد الكثير من المسلمين من أصل طاجيكي أو أوزبكي وكذلك التاتار الأمر الذي يهدد فعلياً وحدة الاتحاد الروسي خاصة إذا ما حصل تعاون أمريكي – تركي في هذا المجال .
القلق الروسي من مثل هذا الاحتمال والذي يضر بمصالح روسيا الاستراتيجية الجيوسياسية والاقتصادية هو ما دفع بالقيادة الروسية الى اتخاذ القرار بالدخول إلى سوريا لإنقاذ النظام السوري من الإنهيار في مواجهة التيارات الإسلامية. وفي حقيقة الأمر أن دخول روسيا إلى سوريا لم يكن الهدف منه حماية النظام بقدر ما كان بدوافع المصالح الروسية البحتة والتي تتلخص بأمرين:
الأول، إفشال مد خط إنوب الغاز العربي من قطر عبر السعودية إلى الأردن فسوريا ولبنان إلى البحر المتوسط لتمويل أوروبا بالغاز القطري بدل الروسي وفي ذات الوقت منع مد الخط الفارسي من الأهواز في إيران عبر الحدود مع العراق إلى سوريا فلبنان فالبحر المتوسط كبديل أيضاً للغاز الروسي إلى أوروبا.
الثاني، هو منع تمدد الجماعات الإسلامية التي سيطرت على سوريا إلى آسيا الوسطى ومن ثم إلى شمال القوقاز الروسي وإلى قلب روسيا. ذات السيناريو هو ما يقلق روسيا اليوم من انتشار حالة الفوض في أفغانستان. وهو ما يقلق أيضاً الصين في تفجيرها من الداخل عبر دعم الإيغور وتعطيل إمدادات الطاقة اليها من بحر قزوين .
أما العرق البلوشي الأفغاني فله امتداده في باكستان وإيران، وهناك خشية إيرانية من احتمال تحريك البلوش الإيرانيين ودعوتهم للانفصال عن إيران وكذلك مطالبتهم مع بلوش باكستان وأفغانستان إلى قيام دولة بلوشستان، على غرار قضية الأكراد المنتشرين في تركيا وسوريا والعراق وإيران .
وأخيراً هل ستولد الفوضى في أفغانستان والجوار الناجمة عن الانسحاب الأمريكي-الأطلسي منها وسيطرة طالبان على الحكم فيها تفجر النزاعات بين أعراقها فتؤمن الحجج والذرائع للدعوة إلى قيام حلف دولي من جديد يتموضع في تلك المنطقة وتقوده الولايات المتحدة لمواجهة تمدد الإرهاب في آسيا الوسطى وربما الشرق الأوسط من جديد، ما يعيد أمريكا مجدداً من شبابيك دول آسيا الوسطى بعد خروجها من الباب الأفغاني؟ الجواب الشافي سيكون في نتائج تطورات الأحداث في الأشهر المقبلة المتعلقة بالمشهد الأفغاني المعقد وتداعياته على اللاعبين الدوليين الكبار.
القدس العربي