هل تفاجأت أمريكا، فعلا، بعودة طالبان السريعة الى أفغانستان؟ وهل الحقيقة لا تحمل اموراً مخفية بل كل ما في الأمر هو « أن هذا حدث أسرع بكثير من تقديراتنا»، كما ذكر الرئيس الأمريكي جو بايدن في خطابه، بعد أيام، من استعادة طالبان للعاصمة كابول في 15 آب / أغسطس؟ وهل « ما حدث» هو اندحار، استسلام ، انسحاب، تراجع ؟ أم هو مغادرة، أو عودة، أو إتفاق ؟
وما مدى صدق الطرفين المتفاوضين في تنفيذ الاتفاقية المبرمة، وانعكاساتها على الشعب الأفغاني، عموما، في الأيام والشهور المقبلة، بالمقارنة مع الوضع العراقي؟
إذا ما تابعنا مسار المفاوضات في الدوحة، بين الوفدين الأمريكي وطالبان، سنجد صعوبة في تصديق عنصر المفاجأة وما ترتب عليها من فوضى بخصوص ترحيل الأمريكيين والبريطانيين، انفسهم، وغيرهم من قوات الناتو والمتعاونين معهم، ثم انتقلت الى المتعاونين مع الاحتلال ثم عامة الناس، النساء خاصة، المذعورين من صيت طالبان وما قد يتعرضون له من انتقام. وأصبحت هذه الأخيرة الصورة الأبرز إعلاميا. وسبب صعوبة تصديق « المفاجأة» هو أولا الصورة الخارقة في الامكانيات والتنظيم التي ترسمها الولايات المتحدة الأمريكية عن نفسها وتوزعها على العالم إعلاميا . كما أن بحث عملية انسحاب القوات الأمريكية لم يكن وليد العامين الأخيرين، بل عشرة أعوام من المفاوضات المستمرة، على كل المستويات، وإن القرار الرسمي قد حمل توقيع الرئيس السابق دونالد ترامب الذي حدد موعد الانسحاب هذا العام، والرئيس الحالي جو بايدن الذي أقره بتعديلات بسيطة.
لقد بدأت مفاوضات الانسحاب نهاية عام 2013 ، بعد مرور عشر سنوات على الإحتلال الامريكي لأفغانستان، بعد أن أدركت أمريكا ، حسب روبرت غرينير « لم ننجز الكثير بعد مرور عشر سنوات… وكان تدخلنا في البداية رمزيا واعتمدنا على تنظيم « التحالف الشمالي» لمقاتلة طالبان. الا ان عنجهيتنا دفعتنا الى سياسة مختلفة عام 2005» . كان غرينير رئيس محطة وكالة المخابرات المركزية الأمريكية ( السي آي أي) في إسلام أباد، في أخطر مرحلة ، في أعقاب 11 سبتمبر 2001. كان مسؤولا عن تخطيط وإدارة عمليات سرية لدعم غزو أفغانستان. ثم مدير مهمة العراق في الوكالة ، لتنسيق العمليات السرية لدعم غزو العراق عام 2003. وترأس مدرسة «المزرعة» لإعداد الجواسيس التابعة للسي آي أي، وأخيرا مدير مركز مكافحة الإرهاب في أرجاء العالم.
تصادف اني حضرت أثناء وجودي في مؤتمر ثقافي عالمي عُقد في جزيرة غوا، بالهند في تشرين الثاني/ نوفمبر 2013، مقابلة مهمة جمعت غرينير بالملا عبد السلام ضعيف، أحد مؤسسي طالبان، وسفير طالبان في باكستان، الذي اعتقلته المخابرات الباكستانية بعد الغزو الأمريكي وباعته ( كما الكثيرين ممن اتهموا بالإرهاب) الى المخابرات الأمريكية مقابل خمسة آلاف دولار، فسُجن في معتقل غوانتانامو، مدة اربع سنوات ونصف. وكان الرئيس الأفغاني السابق حميد كرزاي قد أعلن عفوا عاما عن طالبان، كخطوة نحو استتباب الأمن، إلا أن الادارة الأمريكية جمّدت القرار بعد أسبوع لتجهض بذلك إمكانية المصالحة بين مختلف القوى الأفغانية.
بحث عملية انسحاب القوات الأمريكية لم يكن وليد العامين الأخيرين، بل عشرة أعوام من المفاوضات المستمرة، على كل المستويات، وإن القرار الرسمي قد حمل توقيع الرئيس السابق دونالد ترامب الذي حدد موعد الانسحاب هذا العام
أدارت المقابلة شوما جاودري، رئيسة تحرير صحيفة « تهلكا» الاستقصائية الهندية، وأثارت مشاركة ملا عبد السلام ضجة لأنها المرة الاولى التي يٌسمح فيها لشخص مثله بزيارة الهند والحديث أمام جمهور واسع. تحدث غرينيرعن نية أمريكا سحب قواتها والتفاوض مع طالبان. واستفاض ملا عبد السلام بالحديث عن أهمية الاستقرار الأمني والسياسي في افغانستان وضرورة اللجوء الى التفاوض الدبلوماسي لتحقيق ذلك ، مركزا على فشل الديمقراطية التي تحاول أمريكا فرضها عسكريا والتي لم يُسمح بنموها عضويا من داخل المجتمع ، أي «ديمقراطية إسلامية». خلال المقابلة المتوفرة ألكترونيا، والتي عدت الى مشاهدتها مجددا، أجوبة على أسئلة تُطرح ، اليوم، وبعد مرور عشرة أعوام على اجرائها، ومطابقة بتفاصيلها مع التساؤلات الحالية عن تغير طالبان او قدرة طالبان على التغير، وبالتحديد السؤال الأكثر شيوعا عن الموقف من المرأة . أكد ملا سلام، المرة تلو المرة، أهمية تعليم المرأة لأنها نصف المجتمع وأدان ، بعد إلحاح من مديرة اللقاء، تفجير ومهاجمة المدارس. منبها الى وجود « جهات أخرى» تحاول تشويه صورة طالبان. أما عن مستقبل أفغانستان ، فتحدث عن الانسحاب الحتمي لقوات الاحتلال الامريكي مع التنبيه الى تعقيدات الوضع بسبب الموقع الجغرافي للبلد المحصور بين الصين وروسيا وإيران وباكستان من جهة، والتدخل الأمريكي الذي سيتخذ أشكالا أخرى كتأسيس المليشيات، كما في العراق.
والمفارقة أن نسمع، حاليا، وبعد الانسحاب العسكري المهين، اطلاق تصريحات رسمية على غرار « التزامنا تجاه أفغانستان دائم» ، لرئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، بدون أن يبين كيف، ومتغافلا عن الجريمة الكبرى التي ارتكبتها بريطانيا وأمريكا، في شنها حربا عدوانية لا يزال العراق يعيش تفاصيلها الدامية. وتبلغ ازدواجية المعايير ذروتها حين تركز كافة أجهزة الإعلام الغربية ، تقريبا، وتجترها الصحافة العربية ومواقع الفيسبوك، أما تعمدا أو سذاجة، على تقديم صور كاريكاتيرية عن أشكال مقاتلي طالبان ومظهرهم الخارجي، واستخدام لغة مبتذلة تحقيرا لهم ، مما يُذكرنا باللغة التي استخدمتها قوات الغزو الامريكي للعراق لوصف العراقيين بـ»علي بابا « و»حاجي» و»رؤوس الخرقة» اشارة الى الغترة الشعبية العراقية، ليصبح من السهل تجريدهم من إنسانيتهم وبالتالي تعذيبهم وقتلهم. ولا يقتصر الحط من القيمة الانسانية عبر الانتقاص من الشكل، على الصحف الصفراء واجهزة الإعلام الرخيصة، بل سقطت البي بي سي عربي، أخيرا، في ذات الهوة، مستخدمة عنوانا بمثابة حكم مسبق وتصنيف جاهز، هو «لم يغيروا ملابسهم أو شعرهم أو لحاهم، فكيف يمكنهم تغيير أفكارهم؟».
أمام أعضاء البرلمان قال بوريس جونسون « سنحكم على نظام طالبان على أفعاله وليس أقواله ، وعلى سلوكه حيال الإرهاب والجريمة والمخدرات، وحقوق الفتيات في الحصول على التعليم»، أليس هذا هو المقياس الذي فشلت الحكومة البريطانية والإدارة الامريكية، في تحقيقه بالتحديد في عملية «تحريرالعراق »؟
القدس العربي